أحمد عبدالوهاب
أمد/ استمرار العدوان على غزة، يفضح الموقف الأمريكي، الداعم لجرائم الإبادة الجماعية، التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، فما يحدث على أرض النضال فلسطين، لم تشهده أي دولة من قبل، وكأن دولة الاحتلال، تنتقم من شعب فلسطين بلا شفقة ولا رحمة، مثلما حدث لهم على يد «هتلر»، في أربعينيات القرن الماضي، دون إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، التي سيطرت أحداثها على العالم أجمع، وأحدثت حراكًا سياسيًا وشعبيًا، نتيجة المشاهد البشعة التي يتعرض لها النساء والأطفال.
وباتت قدسية إسرائيل في الأوساط الأميركية تتزعزع، وخصوصًا في أوساط الشباب والحركات التقدمية والأقليات، وتعالت أصوات مناهضة لممارسات إسرائيل ضد المدنيين في غزة، ويُعزى تهاوي الهالة القدسية لإسرائيل أيضًا لدور أوساط يهودية منددة بالحرب على غزة والتي أخذت على عاتقها الفصل بين استغلال اليهودية كهوية دينية ثقافية، وأسقطت بدورها تهمة معاداة معاداة السامية. في ظل كل هذا، باتت أوساط التواصل الاجتماعي مولدًا ومحركًا للكثير من هذه التغيرات بأنها وفّرت منصة للأصوات التي تعبر عن توجهات مختلفة عن السردية الإعلامية الموجَّهة والسردية الرسمية المسيطِرة.
الحراك السياسي الذي أحدثته القضية الفلسطينية بوجه عام، والعدوان على غزة بوجه خاص، دفع الرأي العام الأمريكي، للخروج في مظاهرات حاشدة، للتعاطف والتنديد بما يحدث من جرائم بشعة في غزة، وكل يوم تتسع أوساط التعاطف، ويزداد الضغط على الإدارة الأمريكية، التي ترى جيش الاحتلال، وهو يسحق المدنيين الأبرياء، بالآلات العسكرية التي تستخدم في الحروب أمام الجيوش، في مشاهد تعكس «بلطجة إسرائيل»، دون النظر للرفض والإدانات الدولية، للجرائم التي ترتكب كل يوم، في ظل الدعم غير المحدود من إدارة بايدن، لحكومة الاحتلال.
بينما تدخل الولايات المتحدة موسمًا انتخابيّا حاسمًا، ترتفع بشكل يومي وتيرة الاحتجاجات الشعبية الأميركية على الحرب الإسرائيلية على غزة وتتوسع دائرة الأصوات المطالبة بوقف إطلاق النار، في أوساط هذه الاحتجاجات من يندد بالدور الأميركي المباشر في دعم إسرائيل وفي عرقلة الجهود الدولية لإنهاء الحرب؛ فالانتقادات اللاذعة للرئيس الأميركي تحمله المسؤولية لدى شرائح واسعة من الأميركيين وحول العالم بأن ما يحدث في غزة هو حملة إبادة جماعية.
ولعل المثال الأبرز، للرفض التام لما يحدث للفلسطينيين في غزة، هو ما قام به جندي الجيش الأمريكي «آرون بوشنل»، في 25 فبراير الماضي، عندما أضرم النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن، معلنًا ليس فقط تنديده بالحرب على غزة، بل عن رفضه أن يكون متواطئًا في الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، فلم تكن حادثة الانتحار حرقًا هي الأولى في هذه الاحتجاجات أو في تاريخ مناهضة الحروب في أمريكا، بل سبقتها أكثر من خمس حالات إضرام نار لأمريكيين في ستينيات القرن الماضي احتجاجًا على حرب فيتنام، إلا أن حادثة «بوشنل» شكلت صدمة للرأي العام والإدارة الأميركية على حد سواء، لأن مرتكبها هو جندي في الخدمة الفعلية العسكرية.
السؤال الأهم، هل شكلت الحادثة نقطة تحول لدى الإدارة الأميركية أو حتى الرأي العام الأميركي تجاه الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في غزة؟ فبعد عشرة أيام، وباستثناء وقفات تأبين للتذكير ببوشنل وحادثته، فعليًّا تم دفن الحادثة إعلاميًّا ورسميًّا؛ فمن الصعب تقدير ما إذا كانت التغيرات في الخطاب الرسمي الأميركي وحتى الإعلامي لها علاقة بالحادثة، فالحادثة أتت في وقت كانت التوجهات هذه على وشك التحول نحو التهدئة ومحاولة الإدارة الأميركية النأي بنفسها عن ممارسات إسرائيل.
من المؤكد أن حادثة انتحار الجندي الأمريكي، أحدثت تغيرًا جذريًا بين أوساط الرأي العام الأمريكي، وغيرت لغة الحوار والرأي نحو التوجه للتعاطف مع شعب غزة، وهو ما أسفر عن خروج الآلاف في مظاهرات حاشدة، للتنديد بالجرائم البشعة التي باتت حديث العالم، وسط صمت وعجز تام من المجتمع الدولي، تجاه المأساة الإنسانية للفلسطينيين، وهو الأمر الذي أصبح يمثل أزمة كبيرة للإدارة الأمريكية، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات، التي من المؤكد أن تكون الحرب على غزة، نقطة تحول فيها، بسبب الدعم المادي والعسكري، الذي كبّد الاقتصاد الأمريكي مئات المليارات، فضلًا عن الجانب الإنساني للشعب الأمريكي تجاه العدوان على الأبرياء في غزة.
وهناك جيل صاعد في أميركا وحول العالم لم يعد يثق بوسائل الإعلام التقليدية ويفضل الاعتماد على التغطية المباشرة من أرض الواقع، أي الصحفيين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي من صلب قطاع غزة، وتهاوى قناع المهنية الإعلامية -الغربية منها خصوصًا- أمام هذا الجيل خلال هذه الحرب وبات يفضل حرية التعبير على الوسائل البديلة بالرغم من كل محاولات الشركات الكبرى لهذه الوسائل من ضبط وتقييد هذه الحرية في قضية حرب غزة القائمة وفي انتقاد إسرائيل.
ومع بدء الموسم الانتخابي، فكان وما زال من المتوقع أن نشاهد تحولات مهمة في الخطاب السياسي الداخلي بالذات من قيادات الحزب الديمقراطي وعلى رأسهم الرئيس بايدن، في ظل المنافسة الحاسمة خصوصًا مع تقدم الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب على كل منافسيه من داخل حزبه في الانتخابات التمهيدية، مما يشير إلى احتمالية عالية لعودته إلى سدة الحكم في البيت الأبيض في ظل تراجع شعبية «بايدن» على عدة أصعدة، منها المحلية ومنها السياسة الخارجية وبالتأكيد سياسة إدارته تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة. فمن المؤكد أننا سنشهد تحولات قادمة أكثر انعطافًا في خطاب الإدارة الأميركية الديمقراطية خصوصًا بعد التصويت المدوّي للحراك المناهض للحرب بتحذير أوساط شعبية واسعة من العرب الأميركيين والشباب والأوساط التقدمية بأنهم لن يصوتوا لبايدن احتجاجًا على سياسة إدارته للحرب على غزة.
وعلى الرغم من تصاعد وتيرة الاحتجاج والرفض للسياسة الأمريكية والتحولات التي يشهدها الرأي العام الأمريكي الذي يدفع الإدارة الديمقراطية اليوم نحو مزيد من لغة المراوغة، إلا إن الخطاب الموجّه من الإدارة الأمريكية إلى الشعب الأمريكي وإلى العالم أجمع مُحفز أكثر بمصالح جيوسياسية واقتصادية على الصعيد الدولي أكبر حتى من تنافس الحزبين التقليديين على الحكم، وبالتالي هو أكبر أيضًا من قدرة شاب جندي أبيض انتحر حرقًا على خلق انعطافة مُهمة في سياسة الهيمنة الأمريكية التي توفر الغطاء والرعاية المستمرين لإسرائيل وسياسات حربها على غزة.
ومن المؤكد أن المظاهرات الاحتجاجية، المناهضة لما يحدث في غزة، التي شلت الشوارع في أمريكا، حتمًا ستؤثر على قرارات الإدارة الأمريكية نحو دعمها لإسرائيل، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات التي يتفوق فيها ترامب، الذي يسعى لاستغلال هجوم الشعب الأمريكي على إدارة بايدن لصالحه، فالتاريخ أثبت أن المصالح هي التي تتحكم في دائرة صُنع القرار، فمن المرجح أن «تبيع» إدارة بايدن، حكومة نتنياهو وتتخذ خطوات أكثر صرامة مع دولة الاحتلال، لمحاولة كسب تعاطف الرأي العام الأمريكي، فأصبح كرسي الحكم، هو المُحرك للسياسة واتخاذ القرار على حساب أرواح الأبرياء.