د. ماهر الشريف
أمد/ تمثّل المخيمات الفلسطينية، وخصوصاً في شمال الضفة الغربية، هدفاً رئيسياً للحرب الثانية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين، والتي قتل خلالها حتى الآن ما لا يقل عن 480 فلسطينياً على يد الجنود الإسرائيليين أو المستوطنين في الضفة الغربية منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ويمارس جيش الاحتلال في هذه المخيمات الممارسات نفسها التي يمارسها في القطاع، إذ هو لا يستهدف مقاتلي الكتائب المسلحة فيها فحسب، بل يستهدف كذلك بناها التحتية ومقومات حياة سكانها المدنيين، كي يجعلها أماكن غير صالحة للعيش على طريق تصفيتها وتهجير قاطنيها.
حصار واقتحام لا سابق لهما لمخيم نور شمس
يشهد مخيم نور شمس القريب من مدينة طولكرم، منذ فترة طويلة، غارات إسرائيلية قاتلة عديدة، كانت آخرها الغارة التي بدأت مساء يوم الخميس في 18 نيسان/أبريل الجاري، وانتهت مساء يوم أول أمس السبت.ففي يوم الخميس المذكور، فرض جيش الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانقاً على مخيم نور شمس من جميع أطرافه، بحيث لا يستطيع أحد دخول المخيم أو الخروج منه، وشرع في تدمير العديد من المنازل والمحلات التجارية وشبكات الكهرباء والصرف الصحي والمياه. وأفادت وكالات الأنباء بمشاهدة طائرات إسرائيلية بدون طيار تحوم فوق رؤوس الناس، ومركبات مدرعة تجوب أرجاء المخيم. وفي يوم الجمعة، حوّلت القوات الإسرائيلية الغازية عدداً من المنازل إلى نقاط عسكرية، ونشرت القناصة على أسطحها، ومنعت سيارات الإسعاف، والأطباء والمسعفين، من دخول المخيم لعلاج الجرحى وإخلائهم. وقد أسفرت هذه الغارة الإسرائيلية عن سقوط 14 شهيداً[1].
وفي صباح يوم السبت الفائت، دقّ مؤيد شعبان، رئيس هيئة مقاومة الاستيطان والجدار، ناقوس الخطر، وقال لوكالة فرانس برس: “هذا الاقتحام غير مسبوق، إذ إن هناك قناصة على الأسطح وقوات خاصة منتشرة في المخيم، وترتكب إسرائيل إبادة جماعية في مخيم نور شمس، إذ قُتل العديد من المدنيين خلال عمليات التوغل التي قامت بها القوات الإسرائيلية”، ولفت إلى “أن جنود الجيش الإسرائيلي قصفوا منازل الفلسطينيين بقنابل إنرجا”، وأضاف: “جثامين بعض الشهداء ملقاة في الشارع، ولا يستطيع المسعفون ولا السكان المحليون انتشالها”. وطالب مؤيد شعبان المجتمع الدولي بالتدخل الفوري لإنقاذ سكان هذا المخيم والسماح للفرق الطبية بالدخول لإخلاء المصابين[2].
“لقد حوّلوا نور شمس إلى غزة صغيرة”
منذ يوم أمس الأحد، يعيش سكان مخيم نور شمس حالة حداد، وتعيش عائلاته المكلومة في حالة صدمة وهي تشيّع شهدائها، كما يذكر مراسل وكالة الصحافة الفرنسية الذي ينقل عن نياز زنديق، والد الشهيد جهاد، أن نجله “أصيب برصاصة في الرأس أطلقها جندي إسرائيلي في عيد ميلاده الخامس عشر”، كما ينقل عن الجيران، الذين عرضوا للمراسل جثمانه ملقى في الشارع وقد أصيب بطلق ناري في جبهته، أن جهاد “خرج من منزله ويداه مرفوعتان في الهواء عندما قتله جندي”. كما قُتل مراهق آخر خلال هذه الغارة القاتلة، هو الفتى قيس فتحي نصر الله، الذي يبلغ من العمر 16 عاماً، إثر إصابته برصاصة في رأسه. وتعليقاً على استشهاد هذا العدد الكبير من الشهداء خلال الغارة الإسرائيلية الأخيرة، قال ابراهيم غانم، وهو طالب حقوق يشارك في التشييع، لمراسل الوكالة: “لقد قتل الجنود الإسرائيليون الكثير من الناس هنا على مر السنين لدرجة أنني لم أتمكن من إحصاء عددهم”. أما حمدية عبد الله سرحان، البالغة من العمر 85 عاماً، فهي تقول إنها “لم تشهد مثل هذا القدر من العنف من قبل، إذ اقتحم الجنود منزلها وأطلقوا النار على الحائط في محاولة لفتح موقع لإطلاق النار، وظلت ملقاة على الأرض، مرعوبة”، على حد تعبيرها، علماً بأنها تعاني من مشاكل صحية ويجب عليها استخدام جهاز الأكسجين لمساعدتها على التنفس، وأضافت “أنه عندما وصل الجنود كسروا الآلة، ولم ينقذها إلا الجيران الذين عثروا على آلة بصورة عاجلة بينما كانت تكافح من أجل التنفس”. وكانت مسك الشيخ، البالغة من العمر تسعة أعوام، في الطابق العلوي من منزلها عندما هدمت الجرافات الإسرائيلية واجهة منزلها مساء الخميس، وقالت للمراسل: “كنت خائفة للغاية، وأردت أن يحتضنني والدي”، بينما قال والدها مصطفى الشيخ، إن “عملية الجيش الإسرائيلي استهدفت الحياة اليومية للمدنيين؛ لقد حوّلوا نور شمس إلى غزة صغيرة”[3].
“نحن منهكون نفسياً ونشعر بالقلق” جراء الهجمات المتكررة على المخيم
حتى قبل وقوع هجوم حركة “حماس” على مستوطنات “غلاف غزة”، استهدفت غارة إسرائيلية واسعة النطاق، في الخامس من أيلول/سبتمبر 2023، مخيم نور شمس، إذ اقتحمت عشرات الآليات العسكرية المدرعة والجرافات المخيم بهدف تدمير بنيته التحتية. ففي وقت مبكر من فجر ذلك اليوم وصلت الجرافات إلى منطقة المحجر داخل المخيم، وبدأت بتدمير الطرق والمحلات التجارية والمنازل، تحت حماية عسكرية، فيما بدأ القناصة باحتلال أسطح بعض المباني في المخيم، كما بدأت وحدات أخرى بقصف المباني الأخرى وتفجيرها بالديناميت. ومنذ بداية الهجوم اندلعت مواجهات مع السكان، وأقام العديد من الشبان حواجز في جميع أنحاء المخيم في محاولة لمنع وإبطاء تقدم القوات الإسرائيلية. وخلال هذه المواجهات، أصيب الشاب عايد سميح أبو حرب (19 عاماً) بعدة أعيرة نارية، قبل أن يُعلن عن وفاته بعد ساعات قليلة في مستشفى طولكرم. كما أصيب العديد من الشباب بالرصاص خلال هذا الهجوم، كانت أصابة أحدهم حرجة[4].
في 20 تشرين الأول/اكتوبر 2023، نشرت الصحافية في راديو فرانس أليس فرواسار تحقيقاً عن الهجوم الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي في اليوم السابق على مخيم نور شمس، فذكرت أن “ست جرافات تابعة للجيش الإسرائيلي قامت بتدمير كل شيء عند مدخل مخيم نور شمس للاجئين في شمال الضفة الغربية المحتلة”، وفي يوم الجمعة، في 20 تشرين الأول/أكتوبر، كانت الشاحنات “مشغولة بإزالة الأنقاض”، ذلك إن “الطرق مدمرة وتحتاج إلى إصلاح من أجل مرور موكب التشييع المقرر إقامته بعد ظهر يوم الجمعة”، بينما “يقوم السكان بإصلاح شبكة الكهرباء والأنابيب التي دمرت أيضاً في اليوم السابق بعد 27 ساعة من الغارات التي شنها الجيش الإسرائيلي على مخيم اللاجئين”، والتي “قُتل فيها 13 فلسطينياً يوم الخميس على يد القوات الإسرائيلية، وفقاً لأحدث الأرقام الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية”، و”يعيش سكان المخيم حالياً في حالة حداد؛ هناك كراسي بلاستيكية في كل مكان، وفلسطينيون يأتون لتقديم التعازي، حتى إن بعضهم جاء من القرى المجاورة لمساندة أهلهم ومجتمعهم”. وتضيف الصحافية أن “هذه هي المرة الثالثة خلال عدة أسابيع التي يهاجم فيها الجيش الإسرائيلي مخيم نور شمس، والشعور السائد اليوم هو الشعور بالأسى والحزن، ولكن هناك أيضاً الغضب والإرهاق”، وتنقل عن أحد أحد الآباء قوله: “نحن منهكون نفسياً، وأنا أشعر بالقلق وخائف على أطفالي، كيف سيكبرون؟”[5].
وكانت الصحافية ديانا خويلد قد نقلت، في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقائع الهجوم الكبير الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على مدينة طولكرم ومخيم نور شمس، وقيامه بفرض حظر التجول على مستوى المدينة لمدة 30 ساعة متواصلة، ونشره القناصة في العديد من مواقع المدينة، وكذلك في القرى المجاورة، وفي مخيم نور شمس. فذكرت أنه “في تمام الساعة الثالثة من فجر ذلك اليوم، اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم نور شمس للاجئين بأعداد كبيرة، برفقة العشرات من سيارات الجيب العسكرية والجرافات…، واستمرت الاشتباكات العنيفة بين المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا يحاولون الدفاع عن المخيم وجنود الاحتلال حوالي 30 ساعة، انسحبت بعدها قوات الاحتلال الإسرائيلي بصورة كاملة من المخيم، حوالي الساعة السابعة من صباح يوم الجمعة”، وذلك بعد أن “دمرت المدخل الرئيسي للمخيم وبنيته التحتية بصورة كاملة باستخدام إحدى آلياتها العسكرية، وهي الجرافة المدرعة، كما دمرت عشرات السيارات المدنية التابعة لسكان المخيم، وقصفت سبعة منازل فلسطينية بطائرات بدون طيار، بعضها دمر، والبعض الآخر أصيب بأضرار جزئية”. وقد استشهد في الهجوم 13 فلسطينياً، وأصيب ما لا يقل عن 40 شخصاً. وتابعت الصحافية أن “المئات من الفلسطينيين من المخيم والبلدات المجاورة شاركوا في تشييع الشهداء الفلسطينيين الذين استشهدوا بدم بارد خلال العدوان الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلي على المخيم، ورفعوا العلم الفلسطيني، ورددوا الشعارات الوطنية التي تعبر عن الوحدة الوطنية والغضب والإدانة لاستمرار جرائم الاحتلال الدموية بحق الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو في مخيم نور شمس”[6].
“طالما هناك احتلال، ستكون هناك مقاومة”
في الرابع من كانون الثاني/يناير 2024، شن جيش الاحتلال الإسرائيلي هجوماً واسعاً على مخيم نور شمس استمر 40 ساعة بهدف “مكافحة الإرهاب”، كما ذكرت الصحافية في فرانس 24 آسيا حمزة، استجوب خلاله عشرات الأشخاص واعتقل أحد عشر شخصاً، كما قام جنوده بالتوغل في شوارع المخيم الضيقة وتفتيش منازل سكانه وجرف بعضها بالجرافات، بحيث “صارت السيارات تكافح من أجل التقدم على الطرق المليئة بالحفر، وذلك بعد أن اجتاحت المياه أجزاءً من هذه الطرق التي أصبحت الآن مغطاة بالوحل”، إذ تركت جرافات الجيش الإسرائيلي آثارها: “كتل خرسانية وحفر تبطئ من تقدم السكان القلائل الذين يغامرون بالخروج في نهاية الصباح”. وتقول امرأة تعرض جدار منزلها للدمار: “استخدموا الجرافة بينما كنا في الداخل مع الأطفال، كانوا مرعوبين؛ ما زالت ابنتي البالغة من العمر 10 أعوام خائفة، إنها لا تريد حتى الذهاب إلى المرحاض بمفردها بعد الآن”. وتنقل الصحافية أقوالاً أخرى لبعض سكان المخيم عما شهدوه: “هل رأيت، إنهم يقصفون حتى دور الحضانة”، قال أحمد متأسفاً وهو يشير إلى حطام مبنى نسفته قذيفة إسرائيلية، “لقد ظنوا أن هناك أسلحة مخبأة، لذا قاموا بتدميره”.
وكان الجيش الإسرائيلي قد دمر مركزاً للرعاية تابعاً لوكالة الأونروا. “يريد الجيش تدمير كل شيء هنا”، قال حسن، إنهم “يعتقدون أنه من خلال معاقبة الناس، من خلال وضعهم تحت الضغط، سيثورون ضد المقاتلين”؛ “لم يعد هناك عمل، فالوضع الاقتصادي كارثي، لا يوجد حل سياسي، ولهذا السبب يحمل الناس السلاح”، يتابع محمد، وهو يأخذ نفساً من سيجارته. وبالنسبة لسليمان زهيري، نائب رئيس مجلس أمناء جامعة خضوري في طولكرم، يتزايد الضغط على مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية لأنها تمثل رأس حربة القضية الفلسطينية، ويقول: “بعد النكبة، استقر الناس من حوالي ثلاثين قرية بالقرب من حيفا في مخيم جنزور بالقرب من جنين؛ وبعد سنة 1952، انقسمت العائلات بين جنين ونور شمس والفارعة؛ ركزوا عملياتهم العسكرية على المخيمات للقضاء على المقاومة، وفي المرة الأخيرة، أعلنوا نور شمس منطقة عسكرية مغلقة لمنع سيارات الإسعاف من الدخول”.
ويوضح سليمان زهيري أنه خلال كل غارة للجيش الإسرائيلي “يتم تدمير البنية التحتية التي تزود المياه والكهرباء والطرق”. ويقول أحمد: “هذه هي المرة السابعة التي يأتون فيها إلى هنا؛ منذ 7 تشرين الأول، قتلوا 27 شخصاً في نور شمس؛ يقولون إنهم قتلوا مقاتلين، لكن هذا غير صحيح. لم يقتلوا أحداً من المقاتلين…لم يعد سكان مخيم اللاجئين يؤمنون بالسلام؛ ربما لم يفعلوا ذلك أبداً؛ لقد اختار المقاتلون القتال من أجل كرامتنا وحريتنا. إذا دمروا سنعيد البناء، وإذا قتلوا أبناءنا، فسننجب غيرهم”. وتخلص الصحافية، في ختام تحقيقها، إلى أن السؤال المطروح في مخيم نور شمس “لم يعد ما إذا كانت هناك عملية أخرى للجيش الإسرائيلي، بل متى”، إذ “إنها دائرة لا تنتهي – على الأقل إذا صدقنا سليمان زهيري”، الذي يقول: “إنهم يريدون إجبار الفلسطينيين على مغادرة غزة والضفة الغربية؛ لن يغادر أحد وطنه لأنه وطننا وسنبقى فيه؛ وطالما هناك احتلال، ستكون هناك مقاومة”[7].