عبد العزيز المزيني
أمد/ هل تراودك أفكار تبدو بعيدة جدا عن الواقع لكنها تشغل تفكيرك، وتتغلغل في ثنايا عقلك، لتصبح جزءا من شخصيتك، ليس أمام الناس وإنما أمام ذاتك؟
قد تحدث نفسك بأن هذه الأفكار ربما لا تخطر على بال أحد من البشرية غيرك. فهي من وجهة نظرك صفة ملازمة لك وحدك دون سواك.
وربما تكون أكثر جنونا فتصدق تلك الأفكار، وتؤمن بها إيمانا راسخا، وتعتقدها اعتقادا حقيقيا في نفسك؛ لكنك في اليوم التالي تـنكرها وتراها غير منطقية وغير مترابطة.
قرأت ذات مرة وأنا أستعرض عناوين متعددة لكتب متفرقة في إحدى المكتبات عنوان كتاب شدني بقوة، ابتسمت وأنا أقرأ عنوانه، فقررت أن آخذه كما هو بلا تصفح للمقدمة أو الفهرس، ودون أن أفتحه كعادتي حينما أهم بشراء كتاب ما.
هذا الكتاب اختطفته بسرعة ووضعته أمام المحاسب. كان عنوانه: “أفكار تافهة لرجل كسول”[1]. وحين تصفحته لم يكن أكثر من مقالات عادية لكاتب بريطاني ساخر اسمه جيروم ك. جيروم.
الكتاب جميل ومقالاته ممتعة، لكنه لم يشبع نهمي عما أبحث عنه، سيكون المحتوى معبرا عما أبحث عنه لو تناول تلك الأفكار التي تستغرق الكثير من وقتي، وفي اليوم التالي أنكرها تماما وأستسخف فكرة أني أستسيغها، بل أستحقر أني كنت أفكر فيها بجدية. تلك الأفكار يمكن أن أطلق عليها عنوان: “أفكار تافهة لرجل مجنون”.
سأضرب لكم أمثلة، لكن لنتفق منذ البداية أنها أفكار تافهة لرجل مجنون، وألا نأخذها على محمل الجد.
وطبعا سأقول لكم ما تسمح العادة باستعراضه على الملأ، وهذا يعني أنه توجد أفكار أخرى لا أستطيع البوح بها، إما لأنها ليست واضحة في ذهني هذه اللحظة أو لأنها تتجاوز حدود احترام الآخرين، كأن تمس الثوابت الدينية أو غير ذلك من الأسباب التي لا تسمح باستعراض كل ما أفكر به على الملأ.
بعض هذه الأفكار التي تراودني كنت أظنني أول من فكر بها، لكن حين أبحث أجدها قد أشبعت بحثا ودراسة، وربما بعضها قد راودت أناسا عاشوا قبل الميلاد.
وبقدر ما أصدم وأراجع نفسي وأفكاري بقدر ما أسر أحيانا وأصاب بنوع من الغرور لأن تلك الفكرة التي راودتني وأنا الذي اكتشفتها على الأقل أمام نفسي قد شغلت أناسا كثيرين وبحثوها.
وأحيانا أفكر بأمر، وحين أُسرُّ بالفكرة وأراها عبقرية يتضح بعد البحث أنها مجرد عنوان صغير جدا تحت علم كبير تم تناوله وطرحه مئات المرات. وبقدر ما أصدم من ضآلة تفكيري في تلك اللحظة، بقدر ما أصاب بنوع من النشوة لأن فكري تفتق عنها من نفسه.
على سبيل المثال، “زومبي”، أو الأموات الذين يبعثون، هي ثقافة عصرنا الحالي بالنسبة للطفل، فالخوف من إنسان ميت هزيل يترنح في مشيته للتو قام من عالم الأموات، تبعث فكرة أكبر وهي فكرة تربوية ناجعة، تتلخص في أن فكرة “زومبي” تعني طرد الخوف من الموت نفسه لدى الأطفال.
كان جيلنا أكثر ما يخاف من الجن أو الذئب أو أمنا الغولة، أو السعرة (وهي حيوان خرافي يأكل البشر) أو عند المصريين أبو رجل مسلوخة، وغيرها مما تختزنه ثقافات العالم من رموز الخوف.
لكن بالنظر من ناحية فلسفية تجد أن زرع الخوف من شيء ما يطرد خوفا آخر، فالخوف من الزومبي يطرد الخوف من فكرة الموت نفسه، وتكون الفكرة مخيفة لي عندما أربطها بعشوائية أحيانا مع معتقدات دينية أو أحاديث عن الغيب.
وتكون أحيانا ليست مخيفة بقدر ما تدعو إلى التعمق في الفكرة نفسها، فلم يعد أطفالنا من جيل الزومبي يخاف من فكرة الموت، لأن الألعاب والأفلام تصور له أولئك المبعوثين من الموت بأنهم كائنات هزيلة لا تستطيع أن تقاوم. وربما يتشتت ذهني حين أربطها بفكرة انبعاث الأموات من القبور يوم القيامة.
ومن إحدى الأفكار التافهة أن أفكر مثلا أنّ تفتق هذا الزمن عن فكرة الزومبي هي قدر هذا الجيل لكي يضعف إيمانه بثوابت متينة من الدين، كأن يتشبع بفكرة الزومبي ثم لا يرى عبرة في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُون).
ثم تتسلسل الأفكار المخيفة، كأن يكون ما أفكر به مصداقا لما يحدث آخر الزمان من ضعف القيم الدينية والأخلاق وانتشار العنف والخوف.
قال لي صديقي مرة فكرة أعجبتني، وهي تشرح ما أريد أن أزيحه عن صدري من هموم الأفكار المشتتة، هذه المقولة تتحدث عن أن “الفكرة مثل الصخرة إما أن تقـبع عليك وتسيطر عليك وقد تقودك إلى الجنون، أو أن تسيطر عليها بطردها من عقلك”.
من هذه الصخور الجاثمة على صدري، فكرة تخيفني أحيانا، فكرة أن أكون مت قبل هذا، وما زلت مستمرا في العيش. أو أن ذاكرتي ممتدة لزمن طويل، وأني متصل فعليا بأحداث قديمة جدا.
وفكرة أخرى كأن أقف أتأمل الأشياء أمامي بعين محايدة للتو وعت على هذا العالم، عيون انبثقت فجأة، بلا جسد، متصلة بعقل يحلل هذا الوجود والكون، وينبهر لكل شيء.
قد تصلح هذه الأفكار في رواية أو قصة يجيد حبكتها كاتب لا يتحدث عن نفسه بصورة مباشرة، لأنك حين تواجه الناس بأفكارك الخاصة جدا قد يستسخفون تلك الأفكار ويجدونها تافهة لا تعني أكثر من الوهم والتجديف في عالم مجهول، لكن حين تصاغ بقالب أدبي على شكل رواية أو قصة يتداخل فيها الوهم والحقيقة، حينها ستنبثق تلك التفاصيل الخفية لأسرار التفكير وما يقود له.
لا أدري هل هو تفكير الناس الأسوياء أم تفكير أولئك المصابين بحالات من الذهان وأمراض نفسية أخرى كالانفصام أو التوحد. لكني أقف إعجابا عند الروائي العبقري الذي حبك ما يدور في أنفسنا من أفكار صغيرة برواية، أحيانا تـتحول إلى فيلم مرعب أو فيلم تشاهده وتكون مشدوها لساعة تفكر بالكاتب نفسه كيف توصل لكل تلك الأفكار الغريبة.
مثلا هناك فيلم رائع هو “عقل جميل” (A Beautiful Mind) ويحكي قصة عالم رياضيات حقيقي هو (جون فوربس ناش) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث يصور الفيلم بدقة تلك الأفكار والأوهام التي عاشت مع عالم الرياضيات العبقري، وهو يعيش مع شخصيات وهمية.
والفيلم يصور الهلوسات السمعية والبصرية التي يتعرض لها البطل، وتلك من المؤاخذات النقدية على الفيلم؛ حيث بالغ صناع الفيلم بتصوير عالم الرياضيات وهو يتعرض لهلاوس بصرية بينما هو في الحقيقة تعرض فقط لهلاوس سمعية.
تقول موسوعة ويكيبيديا عن ناش الحقيقي: “هو رياضياتي أميركي اهتم بنظرية الألعاب والهندسة التفاضلية. كان مصابا بمرض نفسي هو الفصام، ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عبقريا فذا”.
لا أدري ما الذي أريد أن أقوله في النهاية؟ هل هو الحديث عن تلك الأفكار الغريبة، فيما إذا كانت تراود كل الناس أم أن هناك قلة من الناس ابتليت بتلك الأفكار السخيفة التي تؤرق حياتهم كما تمنحها ميزة خاصة؟ أم أن ما أريد قوله هو شيء آخر يتمثل في أن بين العبقرية والجنون شعرة بسيطة، وأن أصحاب تلك الأفكار، مع الصفات العديدة لهم من الحساسية والانطوائية؛ يمتلكون القدرة على تغيير العالم بأفكارهم تلك التي لا يستطيعون البوح بها لأنها إما سخيفة أو لأنها غير واضحة كل الوضوح. أو ربما أن ما أريد قوله هو شيء ثالث مختلف يتمثل في أن تلك الأفكار موجودة فعلا ولكن يخرجها بوضوح وبشكل جلي أولئك الروائيون الذين يتحركون بحرية مع أبطالهم، ويصورون لنا أدق التفاصيل، تفاصيل النفس البشرية حين تفكر وهي في خلوة من أمرها.
حين تقرأ رواية من ذلك النوع الذي يشرح الأفكار الداخلية للبطل تعثر على هذا النوع من الأفكار الغريبة والتي لا يمكن أن تصوغها إلا برواية. إلا أنني أعود لنقطة الصفر حين أقول في نفسي إن الذي أنشأ هذه الرواية هو في النهاية إنسان، ومن المؤكد أن الأفكار المخيفة التي يرويها عن أبطاله هي في النهاية راودته حقيقة، لكنه أخرجها لنا بصياغة فنية في رواية تبعد الإسقاط عليه شخصيا، وتجعلنا نفكر في أبطاله ومدى جنونهم مثلا أو مدى سخافة تلك الأفكار التي تتملكهم.
وهنا تحضرني رواية “عزازيل” وهي من تأليف يوسف زيدان، صدرت عن دار الشروق سنة 2008. وفازت بالجائزة العالمية للرواية العربية كأفضل رواية عربية لعام 2009م. كان البطل من أولئك الذين تراودهم أفكار جنونية لا يمكن وصفها ولا الإحساس بها إلا حين تقرأ الرواية.
أخيرا تذكرون صديقي الذي شبّه الفكرة بالصخرة. هذا الصديق نفسه قال لي ذات مرة وأنا أناقشه عن تلك الأمور المقلقة لعقلي الصغير: “يا صاحبي قد تكون تلك الأفكار المزعجة نتاج طفولة لم تجد من يجيب عن أسئلتها المقلقة في طفولتها”.
وأنا أقول لكم يا أصدقائي: انتبهوا، رجاء، لأسئلة أطفالكم، فمهما كانت صغيرة وسخيفة من وجهة نظركم، فهي تمثل لهم الشيء الكثير. وحين لا تجد تلك الاستفهامات من عقول براعمكم عقولا مصغية، فإنها تستحيل إلى شبح يبني مئات الأفكار المشتـتة التي تقود إلى الانطواء والاضطراب، وعدم القدرة على التكيف مع العالم الخارجي حين يكبر.