أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
أمد/ إنَّ الآية التاسعة والعشرين من (سُورة التوبة)، التي يردِّدها مُشوِّهو الإسلام من الإرهابيِّين: «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ، وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ»، لو فُهِمت بصياغتها اللُّغويَّة المشيرة إلى «القتال»، لا إلى «القتل»، لانتفت دلالتها على المبادأة بالعُدوان، بغير عُدوان من الطَّرَف الآخَر. ثمَّ لو جُعِلت في سياقها القرآني، الناهي عن العُدوان أصلًا، بأيَّة صورة من الصُّوَر، لَما بقي لأولئك فيها من استدلال. حتى إنَّ «الجِزية» المشار إليها في نهاية الآية إنَّما تبدو عِقابًا مفروضًا على من تُفرَض عليهم لبدئهم بالعُدوان، وكشَرطٍ للكفِّ عن مقاتلتهم، ولكيلا يعودوا إلى مثلها من بَعد. ذلك أنَّه ما دام «القرآن» ينهى عن العُدوان، ويرفع لافتة «لا تعتدوا»، ولافتة «لا عُدوان»، ولافتة «لا إكراه في الدِّين»، فإنَّ كلَّ مخاطَبٍ يفقه اللُّغة، ويربط الكلام بعضه ببعض، سيُدرِك أنَّ الأمر كلَّه دفاعيٌّ لا هجومي، وحِمائيٌّ لا حماسيٌّ لقَسْر الناس وعَسْفهم والتسلُّط عليهم.
كذا استطرد (ذو القُروح) في نقده الفكري الثقافي لبِنية العقل الاتباعيَّة، على اختلاف المِلل والنِّحَل والأزمان ومذاهب الاتِّباع. مُردِفًا: على أنَّ من الناس من يظنُّ مفهوم الاتِّباع هو اتِّباع الماضي فقط، ويظنُّ الإبداع في المقابل والتجديد يرادفان الانسلاخ من الهُويَّة، والتراث، واللُّغة، ومن الشخصيَّة الحضاريَّة، جهلًا أو اعتقادًا! ومَن يرى هذا هو أضلُّ من حمار أهله، مع الاحترام لحمار أهله، طبعًا! ذلك أنَّ العقليَّة الاتِّباعيَّة للآخَر، أو للسائد، أو لثقافة القطيع المعاصر، أدهى من العقليَّة الاتباعيَّة للتراث وأَمَر. من حيث إنَّ العقليَّة الاتباعيَّة للتراث مرضُها جزئي، وقابلٌ للعلاج، لكن العقليَّة الاتباعيَّة الأخرى (للآخَر) تعاني مسخًا بنيويًّا، يتعذَّر إصلاحه. قلتُ:
– لكن هؤلاء الذين أشرتَ إليهم إنَّما ينتقون ما يشاؤون، ويقتطعون ما يظنُّونه يخدم خِطابهم الأيديولوجي، وأهواءهم السياسيَّة، من سياقه النصِّي والواقعي، فإنْ لم يجدوا ما يبغون، استمدُّوا معين المرويَّات، التي يفرح بها أربابُ العُنف والإرهاب وأربابُ الطَّعن معًا؛ لأنَّ فيها- ممَّا يدعم خِطابهم وأغراضهم- ما لا يعثرون عليه في كتاب الله.
– وحسبك بهذا وذاك من انحرافٍ قرائيٍّ للنُّصوص، بعد الانحراف الفِكري، يبعث على الإشفاق! وهؤلاء- بطبيعة الحال- يستندون إلى ممارسات طوائف متطرِّفة جاهلة من المسلمين، تَلِج من باب ما يُمكِن أن يُسَمَّى التعسُّف في فهم الحقِّ واتِّباعه أو فرضه. حيث يتحوَّل «الحَقُّ»- وَفق فهم تلك الطوائف- وعلى يديها إلى شعارٍ مطلَق، مبتوتٍ من سياقاته، وأسبابه، وواقعه، يُستباح تحت رايته كلُّ شيء! فيصبح غايةً تُبرِّر الوسيلة. وليست في الإسلام غايةٌ تُبرِّر الوسيلة، حتى لو كانت الغاية عبادة الله. غير أنَّ هذا السلوك- المعروفة نظائره في كُلِّ أنظمة التاريخ السماويَّة والأرضيَّة- ليس بحُجَّةٍ، لا على الحَقِّ، بما هو كذلك، ولا على النَّص، طِبق سياقاته الصحيحة، والمعبِّرة عنه في بناءٍ متكامل. ويقف إلى جوار المهوِّنة والمهوِّلة هؤلاء- أي أصحاب الخِطاب المهوِّن ممَّا كان يواجهه الرسول الكريم من تحدِّيات، والمهوِّل ممَّا اتَّخذه من إجراءاتٍ للمواجهة- خِطابٌ رديفٌ يسير على النهج نفسه، مهوِّنًا من حال الثقافة الاجتماعيَّة في الجزيرة العَرَبيَّة قبل الإسلام وبعده، بما في ذلك من تصوُّراتٍ أُسطوريَّةٍ وظُلْمٍ وسلوكيَّاتٍ منكَرة.
– كيف ذاك؟
– لقد بلغ الأمر ببعضهم إلى إنكار الواقع الاجتماعيِّ والثقافيِّ الجاهلي، الذي امتدَّ في الناس إلى وقتٍ قريب، بل ربما ما زال ممتدًّا إلى الوقت الراهن، من عقائد، وعنصريَّات، ووَأْد بنات- وإنْ معنويًّا- إلى غير ذلك ممَّا جاء الإسلام ثورةً عليه، قبل ألف سنة وبضعة قرون! فتراهم ما يفتؤون يهوِّنون من تلك الأحوال، ويلتمسون لأهلها المعاذير، ولشواهدها التأويلات، وكأنَّ العَرَب كانوا على سراطٍ مستقيم؛ فلا شِرك فيهم، ولا ظُلْم، ولا غَدْر، ولا وَأْد، وبالجملة لا فرق بين ما قبل الإسلام وما بعده!
– عجيب! مَن هؤلاء؟
– زمرةٌ من القوميِّين المعاصرين، وبعض القَبَلِيِّين، من العَرَب البائدة العائدة! وهي قوميَّةٌ مَقيتةٌ وقَبَليَّة، تَدُسُّ رأسها في رِمال الرُّبع الخالي، تقديسًا للقبيلة، والآباء، والأعراف المتوارثة. متأوِّلين، مثلًا، مقولات مثل «إنَّما بُعِثتُ لأُتَـمِّم مكارم الأخلاق».
– يبدو أن رؤوس هؤلاء هي التي ما زالت تعيش ثقافة «الما قبل»، أو تحنُّ إليها!
– أجل، هم أحفاد (أبي جهل) غربًا، و(قيس بن عاصم المنقري) شرقًا. فصاحب خِطابٍ كهذا يحاول أن يزعم لك أن «مكارم العَرَب» ثابتة منذ ما قبل الإسلام، محتجًّا بقوله: إنَّ الرسول قد قال: «إنَّما بُعِثتُ لأُتَـمِّم مكارم الأخلاق». مع أنَّ الحديث وردَ بلفظ «بُعِثتُ لأُتمِّم حُسْنَ الخُلُق»، أو «حُسْنَ الأخلاق».(1) والفرق واضحٌ بين عموميَّة «مكارم الأخلاق» ونسبيَّتها المطلقة، وبين خصوصيَّة «حُسْن الخُلُق» ومعياريَّتها المشروطة بصِفة «الحُسْن». ومن هنا فلفظ الحديث يتَّجه إلى إحسان التعامل السلوكيِّ بين الناس، على حين تتجه عبارة «مكارم الأخلاق» لفتح المعنى على مصراعيه، ليستوعب كلَّ ما يمكن أن يُتأوَّل على أنه من «المكارم»، من عادات وتقاليد وأعراف، يراها أهلوها من جملة مكارمهم. وإذا وَلَجَ المرء هذا الباب، فقد كان من مكارم الأخلاق عند العَرَب وكان من شيمهم: «الظُّلْم»- مثلًا- و«الغَدْر»، و«شرب الخمر»، و«وَأْد البنات». ثمَّ إنَّ «الأخلاق» التي بُعِث الرسول لتتميمها لم تَرِد منسوبةً لا إلى «ما قبل الإسلام» زمنًا، ولا إلى «العَرَب» عِرْقا. وأكثر من ذلك، فإنَّ صفة «الجاهليَّة» نفسها، التي أُطلِقت على العَرَب، هي صفة تَنْسِبُ إلىهم البُعْدَ عن «المكارم» و«حُسْن الأخلاق» معًا؛ لما كان يتَّصف به معظمهم من طَيش، ونَزَق، وسَفَه، وظُلْم، وغَدْر، وتَرَوٍّ من الحياة بأيِّ ثمن.(2)
– هذا تمجيدٌ للعُروبة الجاهليَّة، على طريقة كُفَّار (قُريش): «اِمدحْ آلهتنا»!
– العِرق دَسَّاس! لذا يمتدُّ هذا، من بَعد، إلى إنكار ما أنكره المصلحون الدِّينيُّون والاجتماعيُّون عبر العصور الإسلاميَّة؛ فهؤلاء- حسب ذلك الخِطاب- محض متطرِّفين، عدوانيِّين، سَطَوا على مجتمعاتٍ آمنةٍ مسالمة، خيِّرة نيِّرة، ولمآرب سياسيَّة، أو لهوسٍ دِينيٍّ عنيفٍ بحت، شعاره:
وما نَيل (المناصبِ) بالتمنِّي ::: ولكن تُؤخذ الدُّينا غِلابا
– لا تُنكر أنَّ أولئك المصلحين لم تخل حركاتهم من العُنْف والعَسْف والغُلُو!
– نعم، لكن إذا صَحَّ انتقاد ما يقع من أولئك المصلحين من العُنْف والعَسْف والغُلُو، فما يعني ذلك تبرئة المجتمعات التي ثاروا عليها، والزعم أنه لم يكن فيها من العُنْف والعَسْف والغُلُو مثل ذلك أو أشد. ولو تجرَّد هؤلاء من الأهواء، لأقرُّوا أنَّ الحال في الجزيرة العَرَبيَّة، حتى خلال القرون المتأخِّرة، ما كانت بِدْعًا من حال العالم العَرَبي والإسلامي، بل حال العالم بصفةٍ عامَّة. واقرأ إنْ شئت- على سبيل النموذج- ما سجَّله الرحَّالة، من مستشرقين وغير مستشرقين، حول عقائد العَرَب وممارساتهم في الجزيرة العَرَبيَّة، خلال العصور الإسلاميَّة المختلفة، لترى العجب العجاب. واقرأ إنْ شئت أيضًا- على سبيل النموذج- ما سجَّله الباحثون من المؤرِّخين والآثاريِّين حول بعض المجتمعات إلى جوار الجزيرة العَرَبيَّة كذلك، لترى مثل ذلك.
– هل من شاهد؟
– الشواهد كثيرة. خُذ، على سبيل المثال، ما سجَّلوا حول مكانٍ اسمه (جبل المنيجة)، جنوب (وادي فيران) بجنوب (سيناء)، حيث ارتبط المكان بأساطير دِينيَّة قديمة لدَى عَرَب سيناء، تُعَدُّ استمرارًا لتقاليد وثنيَّة نَبَطيَّة، بقيت حتى العصر الحديث. فمن عادتهم أن يزوروا الجبل- الذي يبدو، كما يرجِّح بعض الدارسين، أنَّ المقصود به (جبل المناجاة)، الذي ناجى منه (موسى) ربَّه- وذلك في كلِّ سنة، آخِر الصيف، بعد موسم البَلَح، فيذبحون للجبل عند سفحه، فوق النبع الكبير هناك. وتفصيل ذلك: أن يَذبح كُلُّ فريقٍ من أولئك الأعراب «ذبيحة عامَّة، فيأكلون منها، ويوزِّعون على الفقراء، ويقرؤون الفاتحة لموسى وملائكة فيران! ويقولون إنَّ كلَّ مَن أحبَّ الاشتراك في الذبيحة العامَّة، ربطَ مِقْوَدَ الجمل بخِرقة، علامةً لذلك؛ حتى إذا ذُبِح الجمل علَّقوا مِقْوَدَه في شجرة طرفاء هناك تبرُّكًا. وبنَى العَرَب قديمًا على رأس الجبل مزارًا، لعلَّه المعبد النَّبَطي.»(3)
– هذا هو الواقع في بعض المجتمعات، وبعضه ما زال إلى اليوم.
– ولكن إذا سجَّل المؤرخون هذا، أو أنكره المنكرون- عقلًا أو ديانة- قفز على المنصَّة غيورٌ أعور ينافح عن سمعة آبائه، وما لَهُ من وسيلة سِوَى وسيلة النَّعام، أو المغالطات، أو الهجوم بهدف الدفاع. فيُضحي منكرو المنكرات متَّهمين بالتطرُّف، لدَى أصحاب الخِطاب المطبِّل لما وجد عليه الآباء، من خيرٍ أو شرٍّ، على طريقة «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون»: لماذا يُتَّهم المسلمون بالشِّرك؟ ويُتَّهم العقلاء الحكماء، ومنهم (أبو الحَكَم/ أبو جهل)، بأنه ذو عقلٍ خرافي، ومتعصبٌ أعمى لموروثه؟ يفعلون ذلك تمامًا كما فعل أسلافهم، وكما يفعل معاصروهم من ذوي الأهواء، حين يتَّهمون (محمَّدًا) بالتطرُّف في مواقفه من مشركي الأعراب وغير الأعراب، بما توارثوه من أباطيل ذهنيَّة وعَقديَّة وسلوكيَّة. ولا غرو، فتلكم عقليَّةٌ واحدةٌ اتِّباعيَّة، ومِلَّةٌ سرمديَّة، قديمًا وحديثًا، عربًا وعجمًا، غربًا وشرقًا، تبدو «باقية وتتمدَّد».