أمد/
تحولت أوروبا منذ عقود إلى نقطة جذب لمهاجرين ولاجئين من العالم الثالث (أو النامي أو المضطرب)، وبخاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتصاعد حاجة أوروبا إلى اليد العاملة، إثر الدمار الذي لحق بعدد كبير من المجتمعات الأوروبية في تلك الحرب.
لم تتوقف هذه الهجرات، بل استفحلت في العقود الثلاثة الأخيرة، وبخاصة من دول في الشرقين الأوسط والأدنى، وإفريقيا، نتيجة حروب واضطرابات سياسية وعرقية وأمنية، وإعاقة اقتصادية وتنموية.
وقد أخذت حركة الهجرة تشهد الكثير من التوترات والمخاطر والإشكاليات، تتراوح ما بين الانعزال وعدم القدرة على الاندماج، وبين تقييد للهجرة، وسياسات الإقصاء، ونشوء بيئات حاضنة لفكرة صدام الثقافات والهويات، وبخاصة في ظل ثقافة التعصب والتطرف، وصعود تيارات اليمين المعادية للهجرة.
وستظل رحلة الهجرة واللجوء محفوفة بالمخاطر والخوف، والموت أحياناً، طوال طريقها إلى أوروبا عبر البحار والممرات والحدود الدولية، وفي ظروف قسوة المناخ، وابتزازات المهربين، وسياسات التشدد والتمييز في مجال الهجرة، مما يعرّض المهاجرين إلى أزمات نفسية وحياتية قاسية، فضلاً عن أزمات الاغتراب.
تحتاج أوروبا إلى إشاعة «ثقافة الترحيب»، على حد قول إحدى النخب الثقافية الأوروبية، لتدارك العجز الديموغرافي، وانخفاض معدلات الخصوبة، وتزايد منسوب الشيخوخة في هذه القارة «العجوز».
تُفضّل بعض المجتمعات الأوروبية «ذوي البشرة البيضاء» من المهاجرين، وتسعى دول الشمال الأوروبي، ووسطه، إلى إبعاد «الحدود» التي يقصدها المهاجرون، وبخاصة من إفريقيا وأولاد عمومتها الشرق أوسطيين إلى دول جنوب البحر المتوسط (تونس، ليبيا، الجزائر)، كما تبذل مجموعة الاتحاد الأوروبي جهوداً لوضع سياسات مشتركة للهجرة، تشمل مراقبة الحدود الخارجية، وتوزيع أعباء اللجوء بشكل متوازن، ويراعي المصالح والقيم الأوروبية المشتركة. وبعض هذه القيم رخوة إلى درجة الازدواجية والكيل بمكيالين.
تواجه هذه المجتمعات الغربية الأوروبية ضغوطاً شديدة جراء الهجرة، لاستيعاب عدد كبير ومتنوع من الثقافات والمعتقدات، فضلاً عن تحديات حماية ثوابتها القانونية، كدول ليبرالية وعلمانية، وتحديات اختبار لهويتها الاجتماعية التي تتسم بالانفتاح والتعددية الثقافية، والتي يمكن أن تؤثر في وحدتها الوطنية وهويتها.
ولا توجد، حتى الآن، طريقة موحدة تتعامل بها القوانين والنظم الغربية، إن في أوروبا أو حتى في كندا، مع الإشكاليات المتعلقة بالطوائف الدينية والمعتقدات المعتبرة للمهاجرين.
وأذكر، قبل سنوات، قصة اعتراض مهاجر هندي إلى كندا، وكان من طائفة (السيخ) في مقاطعة أونتاريو، على مخالفة مرورية قدرها مئة دولار، لأنه لم يرتد على رأسه (خوذة) أثناء قيادته دراجة نارية، وكانت حجته في ذلك أنه يرفض خلع عمامته التي يرتديها لأسباب دينية، لكنّ المحكمة رفضت هذا التبرير الديني رغم وجاهته، باعتبار أنه لو أُصيب راكب الدراجة في الحادث فإن ذلك يتسبب بتكلفة مادية عالية سيتكبدها نظام الرعاية الصحية للدولة.
وفي المقابل، كما أتذكر، أن المحكمة العليا الكندية بمقاطعة كيبيك سمحت لتلميذ من نفس الطائفة الهندية، عمره نحو 13 عاماً، بحمل خنجر (الكيربان) أثناء وجوده في المدرسة، باعتبار أن هذا الخنجر، وطوله لا يزيد على عشرة سنتيمرات، هو أداة دينية، ويجب أن يظل مغطى ولا يُستَلَّ أبداً، رغم أن حمل الأسلحة داخل المدرسة محظور لدواعي السلامة العامة، لكن المحكمة رأت أن حقوق الأقليات الدينية تسبق حجج السلامة العامة في المدارس.
ومن ناحية أخرى، يبدو أن التصور الخاص عن المسلمين في معظم الدول الغربية، وبفعل ظاهرة «الإسلاموفوبيا»، يحمل هواجس أكبر من تلك الهواجس المتعلقة بطوائف إثنية ودينية، كالصينيين والهندوس… إلخ، ولعل «النقاب» مثال عليها.
ولا شك أن بعض المجتمعات الغربية قد نجحت، إلى حد معقول، في تسهيل عملية التأقلم أو إدماج المهاجرين في ظل ضوابط قانونية وثقافية، وآليات تساعد على تفاعل المهاجرين مع المجتمعات الجديدة، وبما يضمن حريتهم وكرامتهم الإنسانية، ويخلق روابط اقتصادية مع أعضاء المجتمع.
تحضر إلى الذاكرة مواقف إنسانية راقية للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في هذا المجال، وهو يصف «الموت والدمار والتهجير والجوع في غزة، ويقول: «إنه ندبة على إنسانيتنا وضميرنا المشتركين».
ويروي غوتيريش أمام مؤتمر دولي قبل سنوات، ويقول: «من أروع ما قيل في التاريخ الإنساني، عن حماية اللاجئين والمهاجرين، هو ما ورد في الآية القرآنية، قبل أكثر من 14 قرناً: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغهُ مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} [التوبة: 6].
كما أذكر ما قاله البابا فرنسيس، قبل عدة شهور، عن موت المهاجرين واللاجئين، وبخاصة الأطفال، في بحار أوروبا، وهم يبحثون عن الأمان وحياة أفضل، وقال: «عار على مجتمع لم يعد يعرف كيف يحزن على الآخرين، ويشفق عليهم».