أمد/
يُزعم أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أبلغت قادة البلاد في فبراير (شباط) أن “حماس” سوف تصمد وتستمر كجماعة إرهابية بعد الحرب. وعلى رغم هذا التقييم، يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التأكيد على أنه سيحقق “نصراً كاملاً” على “حماس”، وأن ذلك سوف يستغرق “أشهراً وليس سنوات”.
ويرجع هذا جزئياً إلى أن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) قد غيّر وجه إسرائيل، ووقع وقع الصدمة على الإسرائيليين وعزز قناعتهم بأنهم لا يستطيعون التعايش مع سيطرة “حماس” على قطاع غزة. ويبدو أن الحملة الجوية والبرية التي شنتها إسرائيل على غزة كانت تهدف إلى استئصال “حماس”، وهي مهمة عسيرة نظراً لشبكة الأنفاق والدهاليز المعقدة التي تديرها الحركة، واستخدامها الخبيث والوقح لجميع سكان القطاع كدروع بشرية. ويدفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً فيما تبذل إسرائيل جهوداً ترمي إلى ضمان منع “حماس” من تهديدها مرة أخرى من داخل غزة، وهو أمر، على حد تعبير نتنياهو، لا يزال يقتضي أن ترسل إسرائيل قوات إلى مدينة رفح الجنوبية، على الحدود مع مصر. وقد أصر الرئيس الأميركي جو بايدن على أن هذه الخطوة ليس من المفترض أن تُتّخذ إلا بعد وضع خطة إخلاء ذات مصداقية تحدد مصير سكان غزة البالغ عددهم 1.3 مليون نسمة المحاصرين الآن في هذه المنطقة.
وإذا قيض لـ “حماس” الصمود والاستمرار كمجموعة إرهابية في غزة، مثلما توقعت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، فحري بنتنياهو أن يتقبل حقيقة أنه من المستحيل إحراز نصر كامل في القطاع. وفي آن واحد، في حين تحرص إسرائيل على أن “حماس” غير قادرة على الحفاظ على وجودها العسكري في رفح، عليها أيضاً أن تضمن أن الحدود مع مصر لم تعد تشكّل غربالاً ذا ثقوب يمكن من خلاله تهريب كميات هائلة من المواد إلى غزة، وهذه الفكرة تتطلب على الأقل العمل على نظام مشترك أو نهج منسق مع القاهرة لوقف التهريب من سيناء إلى غزة. وبالتالي، تحتاج إسرائيل إلى استراتيجية، وليس مجرد شعارات، لضمان ترجمة جهودها العسكرية (وإنجازاتها) في غزة إلى واقع سياسي جديد يؤكّد أن إسرائيل لن تظل معرضة للتهديد من القطاع.
بينما تحتدم المعركة
إن نقطة البداية في استراتيجية فعالة وناجعة هي صياغة الهدف على نحو مختلف. لقد حان الوقت لكي يدرك القادة الإسرائيليون أنهم لن يتمكنوا مطلقاً من استئصال حركة “حماس” أو التخلص منها. ووفق ما اكتشفته الولايات المتحدة في جهودها الرامية إلى القضاء على تنظيم “داعش” فمن المتعذر القضاء على أي أيديولوجية، مهما كانت بغيضة. في الواقع، نجحت الولايات المتحدة في إلحاق هزيمة عسكرية بتنظيم “داعش”، لكنها لا تزال تحتفظ بنحو 3000 جندي في العراق و900 جندي في سوريا لضمان ألا يعيد “داعش” تنظيم صفوفه.
لن تتمكن إسرائيل من الحفاظ على وجودها في غزة إذا أرادت إحداث تحول في القطاع، وهي لا تريد أن تقع على عاتقها مسؤولية 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في غزة، ناهيك عن الاضطرار إلى التعامل مع التمرد الذي سينجم على نحو شبه مؤكد عن أي إعادة احتلال لغزة. ومع ذلك، ليس من المفترض أن تغادر إسرائيل القطاع قبل أن تتأكد من أن “حماس” ليست في وضع يسمح لها برص صفوفها، وبناء قدراتها العسكرية من جديد وإعادة بسط سيطرتها السياسية وإحكام قبضتها. وهذا لا يتطلب بالضرورة القضاء على حركة “حماس”، بيد أنه يقتضي تدمير بنيتها التحتية العسكرية، ومستودعات أسلحتها، وقاعدتها الصناعية العسكرية، وأنظمة قيادتها، وتماسكها التنظيمي. وإلى ذلك، يتطلب الأمر إنشاء بديل عن “حماس” قادر على تولّي الإدارة اليومية وضمان تطبيق القانون والنظام اللازمين لإعادة الإعمار. وبعبارة أخرى، فإن هدف إسرائيل، والولايات المتحدة، المنشود يجب أن يكون نزع السلاح من غزة بشكل دائم، ومنع استخدام القطاع مرة أخرى كمنصة لشن هجمات ضد إسرائيل. وسيكون هذا مفيداً بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء، إذ لن تضطر إسرائيل إلى عزل غزة أو مهاجمتها مجدداً.
والإيجابي في هذا المعرض هو أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تحرز تقدماً في تجريد غزة من السلاح وتفكيك قدرة “حماس” العسكرية. وسبق أن دمرت القوات الإسرائيلية 18 كتيبة تابعة لـ”حماس” من أصل 24. وعلى رغم أن مقاتلي تلك الكتائب لم يتعرضوا جميعاً للقتل أو الأسر، لكن وحداتهم لم تعد موجودة، ولم تعد تشكل جزءاً من المقاومة المنظمة. وما زال من الممكن أن يشكل مسلحو “حماس” الناشطون تهديداً، وهذا يعني أن بعض أشكال الوجود الأمني سوف يظل ضرورياً في الوقت الحاضر، حتى في تلك المناطق التي مُنيت فيها قوات “حماس” بهزيمة نكراء.
ائتلاف واسع
وهذه المناطق، بدءاً من الجزء الشمالي من غزة، هي المواقع التي يجب أن ينتقل إليها النازحون من رفح. لقد هُجّر عدد من هؤلاء الأشخاص في الأيام الأولى من الصراع، عندما بدأت إسرائيل حملتها في مدينة غزة وبيت حانون ومخيم جباليا للاجئين. ومما لا شك فيه أن هؤلاء النازحين يرغبون في العودة إلى منازلهم. لكنّ المشكلة هي أن 70 في المئة من جميع المباني في الشمال إما دمرت أو أصبحت غير صالحة للسكن. ولهذا السبب فالخطوة الأولى في الاستراتيجية يجب أن تكون إنشاء آلية لمعالجة الوضع الإنساني، بقيادة الولايات المتحدة، وبالشراكة مع السعودية ودول الخليج. ويجب تقديم مساعدة فورية في ما يتعلق بالسكن الموقت والمتنقل. ومن المؤكد أن السعوديين، نظراً لخبرتهم في التعامل مع الأعداد الكبيرة جداً من الحجاج الذين يأتون إلى المملكة وتوفير المأوى لهم في كثير من الأحيان، يمكن أن يسهموا بالتأكيد في هذا الجهد. ويمكن للإماراتيين والقطريين أيضاً تمويل الكرفانات والمقطورات والمنازل الجاهزة المسبقة الصنع.
صحيح أن دول الخليج قالت إنها لن تقدم مساعدات إعادة الإعمار إلا إذا كانت مرتبطة بخطة لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. على رغم ذلك، فهي تسهم بالفعل في المساعدات الإنسانية، وفي ما يتعلق بمسألة تلبية الحاجات الإنسانية، لا شيء أهم من توفير الغذاء والمأوى. ومن المؤكد أن هذه الدول تستطيع أن تسوّغ الإجراءات التي تتخذها باعتبارها ضرورية لتخفيف معاناة الفلسطينيين. يتعين على دول الخليج، إضافة إلى مصر والاتحاد الأوروبي والأردن والولايات المتحدة، أن تتعاون مع النظام الإداري [البنية البيروقراطية] في غزة الذي أنشأته السلطة الفلسطينية للمرة الأولى في عام 1994 واستمر في العمل تحت قيادة “حماس”، وقد لعب هذا النظام دوراً إدارياً، وليس سياسياً، في إدارة الحاجات اليومية. كذلك، ينبغي إشراك رجال الأعمال الفلسطينيين من داخل غزة وخارجها في إدارة القطاع، ويجب أن تتعاون المنظمات الإنسانية معهم لتوزيع المساعدات وتحفيز بدايات النشاط التجاري.
وستكون هناك حاجة إلى فرض تدابير أمنية لتسليم المساعدات الإنسانية وتوزيعها، بحسب ما اتضح أخيراً من التزاحم والتدافع بين الناس وهم يهرعون للوصول إلى الشاحنات المحملة بالأغذية في شمال غزة، مما أدى إلى سقوط ما يقرب من مئة قتيل. وعلى رغم أنه من غير المرجح أن ينشر أعضاء هذه المنظمة الإنسانية قواتهم العسكرية على الأرض، إلا أنهم يستطيعون توفير مقاولين خارجيين يتمتعون بالخبرة الأمنية، وتوظيف فلسطينيين محليين غير تابعين لـ”حماس” في أدوار أمنية. كذلك، قد يكون التعاقد مع الفلسطينيين المحليين لإحلال الأمن أمراً ممكناً. أخبرني أحد كبار مسؤولي الأمم المتحدة أن الموجودين على الأرض في غزة يرغبون في الحصول على الراحة والإغاثة، ويشعر كثير منهم بالغضب من “حماس”، وعندما يظهر مقاتلو الحركة، غالباً ما يرميهم الناس بالحجارة. في الواقع، ينبغي تنظيم هذا الأمن على أساس الممارسات المثلى المستمدة من نماذج أخرى قائمة. فالإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، توفر الأمن للمستشفى الميداني الذي أنشأته في غزة، ومن الواضح أنها تعتزم فعل الشيء نفسه بالنسبة إلى المخابز الآلية الخمسة التي ترسلها الآن لتلبية الحاجات الغذائية. ويمكن حتى توسيع هذه المساحات الأمنية. ومن خلال هذه الجهود والمبادرات، يمكن للمناطق التي سيعود إليها النازحون أن تتحول إلى مشاريع نموذجية ناجحة، مما يدل على أن الحياة والتعافي ممكنان طالما أن “حماس” لا تتولى السيطرة.
وبالتوازي مع إنشاء الآلية الإنسانية، على إدارة بايدن أن تتوسط على الفور في تفاهمات بين مصر وإسرائيل من أجل وقف تهريب الإمدادات إلى “حماس” سراً. وحتى لو اتّخذت إسرائيل إجراءات ترمي إلى القضاء على كتائب “حماس” الأربع في هذه المنطقة، فإن اتباع نهج جديد في التعامل مع رفح سوف يكون ضرورياً لمنع إعادة تسليح غزة. وبصورة متزامنة، في الضفة الغربية، يجب على واشنطن أن تعمل على تشجيع الإصلاحات داخل السلطة الفلسطينية. وطالما أن 91 في المئة من الفلسطينيين يعتقدون أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يجب أن يستقيل، و80 في المئة مقتنعون بأن السلطة الفلسطينية فاسدة، فمن غير المجدي الحديث عن أفق سياسي أو هدف نهائي. يجب إصلاح السلطة الفلسطينية، وقد حصل ذلك في السابق في عام 2007، عندما حشدت إدارة بوش كل الجهات المانحة للسلطة الفلسطينية ودفعتها للإصرار بشكل جماعي على عباس بأن يعيّن رئيس وزراء يتمتع بصلاحيات فعلية. فأذعن عباس واختار سلام فياض، الذي أعاد هيكلة بنية السلطة الفلسطينية. ولا بد من القيام بذلك مجدداً ومن دون أي تأخير، بخاصة إذا كانت هناك أهداف حاسمة أخرى يجب تحقيقها. على سبيل المثال، لن تكون إعادة إعمار غزة والتطبيع مع السعودية ممكنين من دون إعادة توحيد غزة والضفة الغربية سياسياً. وبطبيعة الحال، فإن هذين الهدفين يتوقفان أيضاً على إنهاء الحرب في غزة. وتعقد واشنطن آمالها على أن تؤدي صفقة الرهائن إلى هدنة مطولة قد تسفر إما عن وقف إطلاق النار بشكل دائم أو عن تغيير جوهري في طبيعة الحرب.
إعادة الإعمار ونزع السلاح
يتطرق الجيش الإسرائيلي إلى أربع مراحل في حملته على غزة. المراحل الثلاث الأولى هي الحملة الجوية الأولية، يتبعها التدخل البري العالي الكثافة الذي شاركت فيه أكثر من خمس فرق في غزة، ثم المشاركة البرية الأكثر محدودية واستهدافاً التي تقلّصَ فيها الوجود العسكري الإسرائيلي اليوم إلى خمسة ألوية. وستشهد المرحلة النهائية انسحاباً من غزة مع إنشاء منطقة عازلة ضيقة حول الكيبوتسات، واحتفاظ إسرائيل بالحق في الدخول والخروج عند الضرورة إما لاستهداف قادة “حماس” الذين ما زالوا في الأنفاق أو لمنع جيوب [مقاتلي] الحركة من البروز مرة أخرى والتحول إلى تهديد. من الناحية النظرية، يمكن وصف المرحلة الرابعة بأنها نهاية الحملة العسكرية، وقد يؤدي ذلك إلى استئناف السياسة في إسرائيل، مع احتمال مغادرة الوزراء الإسرائيليين من دون حقيبة، تحديداً بيني غانتس وغادي أيزنكوت، حكومة الحرب، واستقالة كبار المسؤولين الأمنيين بعد تحمّلهم مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر. ويمكن أن تفضي هذه التغييرات إلى سلسلة من الأحداث التي تؤدي إلى إجراء انتخابات وتشكيل حكومة جديدة. ويعتمد توقيت هذه الأحداث إلى حد كبير على موعد بدء المرحلة الرابعة، التي يمكن أن تنجم عن صفقة الرهائن أو عن تدمير إسرائيل لكتائب “حماس” الست المتبقية. وفي تلك المرحلة، يجب إطلاق عملية إعادة الإعمار، مصحوبةً بآليات المراقبة اللازمة لضمان عدم حدوث أي انحراف عن المسار.
لا شك في أن إعادة إعمار غزة ستتطلب مشاركة مختلف الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية. وسيترتب على هذا تحديات على عاتق إسرائيل، إذ إن هذه الوكالات والشركات والمنظمات غير الحكومية قد تكون غير راغبة في البقاء وتولي إدارة إعادة الإعمار إذا واصلت القوات الإسرائيلية عملياتها في غزة. لا بد من أن يكون الهدف الأول لإسرائيل هو ضمان نزع سلاح قطاع غزة بشكل دائم، وفي مرحلة معينة قد يرغب المسؤولون الإسرائيليون في أن تتولى جهات أخرى هذه المهمة. من وجهة نظرهم، قد يرون أن عملية نزع السلاح أُنجزت بنجاح، وبالتالي قد يفضّلون عدم البقاء في غزة لمنع إعادة التسلح. لكن هذا سوف يتطلب من إسرائيل أن تتعاون مع نهج دولي حازم لإعادة الإعمار ومراقبة ما يدخل إلى غزة.
والصيغة الأساسية يجب أن تكون إعادة إعمار على نطاق واسع من أجل نزع السلاح. كحد أدنى، سيتطلب ذلك تحالفاً دولياً لتسهيل تدفق كميات كبيرة من المواد. ومن المؤكد أن قرار بايدن الأخير بإنشاء رصيف بحري كوسيلة لإيصال المساعدات المادية سيمهد الطريق حتماً لتوفير مواد إعادة الإعمار في وقت لاحق. واستطراداً، يجب إدارة إمدادات إعادة الإعمار ومراقبتها منذ لحظة دخولها إلى غزة وصولاً إلى تخزينها واستخدامها في نهاية المطاف. وأي انتهاك أو تغيير في وجهة استخدام الإمدادات تقدم عليه “حماس” أو الجماعات المسلحة يجب أن يؤدي إلى وقف فوري لإعادة الإعمار ولدخول مواد جديدة. ويمكن للبلدان، بما في ذلك كندا، التي تتمتع بالخبرة في سيناريوهات ما بعد الصراع، أن تتولى دوراً رائداً في تطوير أنظمة المراقبة المطلوبة ميدانياً وإلكترونياً. وينبغي استخدام هذه الأنظمة لضمان ألا تحاول “حماس” أن تحكم قبضتها مجدداً. في الواقع، لن تستثمر أي جهة مانحة في غزة إذا كانت “حماس” تسيطر على القطاع أو تسرق الإمدادات المرسلة إليه. ويعلم الجميع أن حركة “حماس” ستسعى إلى تغيير وجهة استخدام المساعدات وإعادة بناء قدراتها وآلتها العسكرية، لذا، وبشكل علني، فإن شرط إعادة الإعمار، يجب أن يكون تأسيس إدارة مختلفة حقاً في غزة.
وأخيراً، هناك مسألة التطبيع السعودي مع إسرائيل. قبل السابع من أكتوبر، كانت الرياض مهتمة في إظهار أنها قدمت لفتات رمزية على الأقل للفلسطينيين. ولكن اليوم، يدرك السعوديون أنهم بحاجة إلى أكثر من ذلك. لقد خلّف هجوم السابع من أكتوبر مجموعتين مختلفتين من العواقب. بالنسبة إلى العرب، كان الموت والدمار في غزة وراء إيقاظ مشاعر شعوبهم ومطالبتهم بضرورة معالجة القضية الفلسطينية، وأدركت الحكومات أنها لا تستطيع أن تتجاهل هذه القضية. فهي تريد نهاية واضحة تختلف عن المحاولات السابقة، بما في ذلك اتفاقية أوسلو في كل من عامي 1993 و1995، التي فشلت في بلوغ حل دائم. لذا، تتحدث هذه الحكومات عن تحديد مسار مضمون نحو إقامة دولة فلسطينية.
أما وجهة النظر المعاكسة فهي تظهر في إسرائيل. بسبب السابع من أكتوبر، أصبح الإسرائيليون من مختلف الانتماءات السياسية مقتنعين بأن الدولة الفلسطينية المنشأة سوف تخضع في نهاية المطاف لهيمنة أو قيادة “حماس” أو جماعات مماثلة. وفي الوقت الحالي، هم لا يميزون بين “حماس” والفلسطينيين، بخاصة في ضوء استطلاعات الرأي التي تظهر الدعم الفلسطيني لما فعلته “حماس” في السابع من أكتوبر والتصريحات التي تنفي وقوع الفظائع. إضافة إلى ذلك إيران عازمة على استخدام وكلائها للاستمرار في تحدي إسرائيل، فيما يعتبر الإسرائيليون أن الدولة الفلسطينية تمثل خطراً جسيماً. واستكمالاً، هناك معارضة شديدة لفكرة أن تسفر أحداث السابع من أكتوبر عن مكافأة للفلسطينيين أو “حماس” تأتي على شكل ضمان إنشاء دولة فلسطينية.
حان وقت التسوية
المخاوف الإسرائيلية لها ما يبررها ويجب الإقرار بها. ومع ذلك، يجافي الواقع الذهاب إلى أن قيام دولة فلسطينية كجزء من نتيجة حل الدولتين سيكون بمثابة مكافأة لـ”حماس”. ففي الواقع، المكافأة الحقيقية لـ”حماس” ستكون فشل حل الدولتين، وذلك لأن قادتها يؤيدون قيام دولة واحدة فحسب، رافضين حق إسرائيل في الوجود. ومن عجيب المفارقات أن المعارضة الإسرائيلية المستمرة لقيام دولة فلسطينية من شأنها أن تؤدي في نهاية المطاف إلى حل الدولة الواحدة.
وحتى لو كان احتمال قيام دولة فلسطينية لا يزال بعيد المنال، حري بالإسرائيليين أن يدركوا أن تلك الدولة لن تشكل تهديداً. والسبب هو أن هناك خطوات كبيرة يجب اتخاذها قبل أن تصبح الدولة الفلسطينية حقيقة واقعة. ولا بد من بناء المؤسسات لضمان عدم تحولها إلى دولة منهارة. اليوم أو في أي وقت قريب، يكاد يكون من المؤكد أن الدولة الفلسطينية ستكون دولة فاشلة. والأهم من ذلك، هناك عدد من الشروط التي يجب استيفاؤها قبل أن يصبح من الممكن إنشاء دولة فلسطينية. أولاً، لا يجوز أن تقودها أو تهيمن عليها “حماس” أو الجماعات المشابهة لها، ولا يجوز السماح لها بتشكيل تحالفات مع دول معادية لإسرائيل. ثانياً، عليها أن تتقبل فكرة دولتين لشعبين. وفي السابق، لم يعترف القادة الفلسطينيون قط بأن اليهود شعب يحق له تقرير المصير، مما يعني أنهم لم يقبلوا قط بشرعية إسرائيل؛ لقد اعترفوا ببساطة بوجود إسرائيل كأمر واقع، مما يجعل تبرير التحريض ضدها أسهل. إذاً، لقد حان الوقت لكي يكف القادة الفلسطينيون عن التحريض والممارسات التي تشجع العداء تجاه إسرائيل داخل المجتمع الفلسطيني. وأخيراً، ينبغي أن تكون دولتهم غير عسكرية، ويمكنها أن تحظى بقوات شرطة وأمن، ولكن لن يكون لها جيش خاص بها.
وفي سبيل قبول الإسرائيليين احتمال قيام دولة فلسطينية، يجب أن يشعروا بالطمأنينة. لذا، يمكن البدء بخطوات على الأرض تهدف إلى بناء غزة جديدة منزوعة السلاح، على أن تلعب الدول العربية دوراً نشطاً في هذه الجهود، فتساعد في دعم بديل لحكم “حماس” والحفاظ على هذا البديل. ويتعين على هذه الدول أن تكون مستعدة في مرحلة ما لإدانة ما فعلته “حماس” في السابع من أكتوبر. اليوم لا يريد أي زعيم عربي أن يبدو وكأنه يدافع عن تصرفات إسرائيل في غزة، ولكن لا بد من أن يأتي وقت تصبح فيه إدانة “حماس” ممكنة، والعجز عن القيام بذلك يبعث برسالة إلى الإسرائيليين مفادها أن العرب في نهاية المطاف ليسوا على استعداد لنزع المشروعية عن “حماس” أو الجماعات المشابهة لها.
والتطبيع السعودي مع إسرائيل سيكون عنصراً أساسياً من العناصر التي تبعث الطمأنينة. في الواقع، يقدم التطبيع أكثر من مجرد طمأنينة لأنه يَعِد بتحويل المنطقة وتوفير الأساس لإقامة تحالف قادر على مواجهة الإيرانيين ووكلائهم. ويفهم الإسرائيليون أن ذلك، يمكن أن يعزز أمنهم، بخاصة لأنه قد ينطوي على نهج جماعي لمواجهة طهران، نهج لا يترك إسرائيل معزولة في التعامل مع وكلاء إيران.
من المؤكد أن هناك التزامات من جانب إسرائيل أيضاً. لقد تسببت الحرب في غزة بصدمة عميقة للفلسطينيين، لذا من الضروري بالنسبة إليهم أن يروا إسرائيل تعترف، من حيث المبدأ، بحقهم في إقامة دولتهم. علاوةً على ذلك، لا يجوز لإسرائيل أن تتصرف بطريقة تجعل قيام الدولة الفلسطينية أمراً مستحيلاً. وهذا يعني أن على تل أبيب أن توقف التوسع الاستيطاني، بخاصة خارج الكتل الاستيطانية. ولا بد أيضاً من توفير ترابط جغرافي أكبر بين أجزاء الأراضي التابعة للفلسطينيين في الضفة الغربية. كذلك، على إسرائيل أن تدعم إصلاح السلطة الفلسطينية، من أجل المساعدة في تعزيز سلطة رئيس وزراء جديد يتمتع بالصلاحيات. وعلى نحو مماثل، فإن رفع القيود المفروضة على حركة الفلسطينيين وتجارتهم واستثماراتهم في البنية التحتية، وبخاصة في الطرقات والمياه، يمكن أن يسهم أيضاً في إثبات فعالية السلطة الفلسطينية المعاد إصلاحها. وينطبق الشيء نفسه على السماح بنشاط اقتصادي فلسطيني أكبر بكثير في تلك الأجزاء من الضفة الغربية حيث يحتفظ الإسرائيليون بالسيطرة المدنية والأمنية الكاملة. ومن أجل التعامل مع خوف الفلسطينيين من أنهم لا يحظون بأي حماية في وجه المستوطنين المتطرفين، ينبغي ألا يتسامح زعماء إسرائيل بعد الآن مع التفلت الأمني الصادر عن “شبيبة التلال” [تنظيم معروف كذلك بشباب التلال] وغيرهم. ويتعيّن محاكمة أولئك الذين يهاجمون الفلسطينيين أو يهددونهم، وإدانة المسؤولين عن التحريض.
بعد أوكرانيا يأتي دور غزة
قد تنبع من صدمة السابع من أكتوبر وتداعياتها فرصةٌ لإحداث تحول إيجابي في الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني والمنطقة ككل. لكن ذلك لن يحدث من تلقاء نفسه. كثيراً ما تحدثت إدارة بايدن عن مدى التزامها باعتماد دبلوماسية “لا هوادة فيها”، وقد أثبتت ذلك بالتأكيد قبل غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا وبعده. وسرعان ما حشدت واشنطن جهودها لفرض العقوبات وتنظيمها، واتّخذت تدابير ترمي إلى تخفيف عواقب الحد من مبيعات النفط والغاز الروسية، وأنشأت مركزاً لوجستياً من أجل توفير مساعدة عسكرية لأوكرانيا، وأرسلت ونسّقت إرسال مساعدات اقتصادية ضخمة إلى كييف، وعززت قوة ردع حلف شمال الأطلسي من خلال عمليات نشر الجنود في الخطوط الأمامية [القواعد الأمامية]، وعملت على ضم كل من السويد وفنلندا إلى التحالف، وكثّفت الصناعات الدفاعية.
كان لدى واشنطن حلفاء مستعدّون للقيام بدورهم، لكنّ مهمة قيادتهم وتنظيمهم لطالما وقعت على كاهل الولايات المتحدة. وهناك حاجة الآن إلى بذل جهد مماثل في الشرق الأوسط. لكنّ حجم التحدي هائل، إذ يتعين على إدارة بايدن أن تتوسط من أجل التوصل إلى تفاهمات مصرية- إسرائيلية بشأن رفح، وتنظيم آلية معالجة الأوضاع الإنسانية مع دول الخليج، والتعاون مع الإسرائيليين من أجل السماح للأشخاص النازحين بالعودة إلى الشمال. وفي الوقت نفسه، يجب على واشنطن التأكد من توفير كل المساعدات الضرورية، وبخاصة المأوى والغذاء، ووصول تلك المساعدات إلى المنطقة [حيث تمس الحاجة]، في حين تنسّق مع أولئك القادرين على الحفاظ على الأمن. إضافة إلى ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتوصل إلى تفاهم مع إسرائيل حول المستوى الذي سيُعتبر فيه نزع السلاح من “حماس” وغزة كافياً من أجل إنهاء الحملة العسكرية أو بدء المرحلة الرابعة. ولا بد من تنفيذ كل هذا، إلى جانب الجهود الدؤوبة التي يتعين على واشنطن أن تستمر في بذلها في سبيل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، ووضع خطة لإعادة إعمار غزة مع توفير درجة كافية من المراقبة والتنفيذ تكفل عدم تغيير وجهة استخدام المواد المتاحة. وسيتطلب ذلك أيضاً حشد الدعم العربي والأوروبي للضغط من أجل إصلاح السلطة الفلسطينية وتعيين رئيس وزراء يتمتع بصلاحيات فعلية، حتى في الوقت الذي تعمل فيه الإدارة على التوصل إلى اتفاق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وإبلاغ “حزب الله” وإيران بالتكاليف المحتملة لأي تصعيد. فعلى الطرفين أن يفهما حقيقة أن إسرائيل بعد السابع من أكتوبر أصبحت مختلفة عما كانت عليه في السابق. لقد انخفضت عتبة تحملها للتهديدات، وكذلك الحال بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
هذه قائمة ضخمة من المهام يترتب عليها جهود مكثفة ومنسقة بعناية، مما يتطلب التزاماً من جانب الحكومة الأميركية بكاملها. ومثلما نظمت واشنطن نفسها لدعم أوكرانيا قبل الغزو الروسي وبعده، عليها أيضاً أن تفعل ذلك الآن لدعم غزة والشرق الأوسط. إن كارثة السابع من أكتوبر وتداعياتها تقتضي التزام مساع مماثلة.
*دنيس روس هو مستشار في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وأستاذ في جامعة جورج تاون. كان مبعوثاً أميركياً سابقاً إلى الشرق الأوسط، وشغل مناصب عليا في مجال الأمن القومي في إدارات ريغان، وجورج بوش الأب، وكلينتون، وأوباما.
عن اندبندنت عربية مترجم من فورين أفيرز، 13 مارس (آذار) 2024