أمد/
د. يوسف الحسن
في إحدى مكتبات العاصمة السويدية، عثرت، قبل سنوات، على كتاب يضم أشعاراً وخواطر للأمين العام الأسبق للأمم المتحدة داج همرشولد.
تمتع هذا الدبلوماسي السويدي ببراعة فائقة، وبحس إنساني رفيع، وتمكن من تسوية العديد من المشكلات الدولية، واكتسب قدراً كبيراً من المصداقية في العالم، وكان أول من وضع الأسس الشرعية لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام إثر حرب السويس عام 1956، وحينما كلفه مجلس الأمن الدولي تنظيم مساعدة عسكرية للحكومة الكونغولية لمنع انهيار الكونغو في عام 1960، ذهب إلى الكونغو سعياً لوقف إطلاق النار، وفي ليلة الثامن عشر من سبتمبر/أيلول 1961، فُجِّرت طائرته وهو في الجو.
كان هذا السويدي المسكون بالإنسانية حريصاً على أن تجسد الأمم المتحدة الحيادية والمسؤولية الأممية، وأن تطبق القرارات الدولية، وكانت جائزة «نوبل» فخورة بهذا الرجل، رجل السلام الحقيقي.
تذكرت، وأنا أقرأ أشعار وخواطر همرشولد أثناء تناولي فنجاناً من القهوة في مقهى أمام مبنى ومتحف جائزة «نوبل» في استوكهولم، شخصية سويدية أخرى. تذكرت الكونت برنادوت، ابن أخ ملك السويد جوستاف الخامس، وقد عُيِّن وسيطاً للأمم المتحدة في فلسطين عام 1948، وحلَّق لأول مرة بطائرته التي تحمل شارة الأمم المتحدة في أجواء القدس، ليشرف على الهدنة الأولى التي احترمها عرب القدس، ولتأمين إغاثة دولية للاجئين. وكان وقتها رئيساً لجمعية الصليب الأحمر في السويد، ويضع شارة الصليب الأحمر على سيارته، لكن كل ذلك لم يمنع عصابات «شتيرن» التي كان يقودها إسحاق شامير من اغتياله وسط الحي اليهودي في القدس، لأن هذه العصابات الإرهابية كانت ترى في هذا الدبلوماسي السويدي الأممي عقبة أمام مخططها لضم القدس الغربية إلى الكيان الإسرائيلي. لقد قاده إلى حتفه دفاعه عن العدالة، وما لمسه عن قرب من أزمة إنسانية قاسية للاجئين الفلسطينيين، فضلاً عن جهوده في وضع بذور قرار الأمم المتحدة رقم 194، وفكرة إنشاء «الأونروا» كشاهد قانوني دولي على حقوق اللاجئين الفلسطينيين.
حينما اغتيل برنادوت في القدس، كان سحر فلسطين وحقوق شعبها تسللت في دواخله.
***
راشيل كوري فتاة أمريكية في عمر الورود، درست في جامعة كولومبيا، وحلمت بأن تكون شاعرة، وكتبت عن الحب والسلام والإنسانية المعذبة، وتسلل حب العدالة، وحب فلسطين المحتلة إلى عقلها ووجدانها، وانضمت إلى مجموعة من الناشطين الدوليين للتضامن مع الشعوب المقهورة، ووصلت مع أصدقائها من أمريكا ودول أوروبية إلى غزة في أوائل عام 2003، واستضافتها أسرة طبيب فلسطيني في منزل متواضع، وظلت تكتب إلى والديها عن معاناة أهل غزة نتيجة الحصار والظلم والاحتلال.
وفي يوم 16 من مارس/آذار 2003، كانت راشيل مع عدد من أصدقائها تقف أمام جرّافة إسرائيلية، تابعة للجيش الإسرائيلي، جاءت لتهدم أحد المنازل بمخيم للاجئين في رفح. وقفت راشيل بشجاعة نادرة، وهي تمسك بمكبر للصوت، وتصرخ في وجه سائق الجرَّافة، محاولة منعه من هدم المنزل، لكن السائق النازي حمل الأتربة، ومعها راشيل، وألقى بها على الأرض، ثم تقدم للإمام ليمشي بجرّافته على جسدها مرتين. نقلها أصدقاؤها إلى المستشفى، وجمجمتها مهمشة، وفارقت الحياة.
كتبت راشيل إلى والدتها، قبل هذا الحادث: «إنني أشهد إبادة جماعية مزمنة».
تعمَّد سائق «الجرافة دي9» دهسها والمرور على جسدها مرتين، (وبعد أيام من مقتل راشيل كوري، أقدمت أمريكا وبريطانيا على غزو العراق، تحت ذرائع واهية وكاذبة).
رفعت عائلتها دعوة قضائية ضد الجيش الإسرائيلي، وفي أغسطس/آب عام 2012، برّأت المحكمة الجيش، ولم يحرك مجلس النواب الأمريكي ساكناً.
راشيل كوري، ليست عربية أو مسلمة، آمنت بفضيلة الدفاع عن حق الحياة للإنسان، وتضامنت بالفعل، لا بالقول مع المظلوم.
سحر فلسطين وحقوق شعبها.. تسللت في دواخل راشيل.
***
آرون بوشنيل جندي نشط في سلاح الجو الأمريكي وعمره 25 عاماً، مهندس أنظمة تكنولوجيا المعلومات والدفاع السيبراني، أضرم النار في جسده، أمام بوابة السفارة الإسرائيلية، في الحي الدبلوماسي بواشنطن دي سي، ظُهر يوم الأحد 25 فبراير/شباط 2024 وكتب منشوراً، قبل حرق نفسه يقول فيه: «نسأل أنفسنا: ماذا كنت سأفعل لو كنت على قيد الحياة أثناء زمن العبودية في ثمانينات القرن التاسع عشر؟» حينما كان الفصل العنصري سائداً في الولايات الجنوبية الأمريكية، «ماذا سأفعل لو كانت بلدي أمريكا، ترتكب إبادة جماعية، الجواب.. هو أنك تفعل ذلك الآن» وسجل لنفسه فيديو وهو يرتدي لباسه العسكري ويصب مادة شديدة الاشتعال على جسده، ويشعل النار في نفسه، وهو يهتف «فلسطين حرة»، وقد توفي لاحقاً.
رجل عادي، هادئ وودود، لكنه قوي الإرادة، على حد قول صديق له، وقيل عنه، إنه كان يساعد «المشردين» في بلده، ويقوم بأعمال تطوعية.
بوشنيل لا يتقاسم مع العرب، ولا مع أهل فلسطين، العِرْق أو اللون أو اللغة أو العقيدة، ولا حتى جغرافية المكان، لكن في دواخله تسكن ثقافة رفض الظلم.
ستظل راشيل كوري وآرون بوشنيل أيقونتين للشجاعة من أجل العدالة والأخوة الإنسانية، حتى ولو تجاهلتهما «هوليوود» والإعلام الممسوك صهيونياً، رغم أن الذين تجاهلوا موتهما هم أنفسهم الذين مجَّدوا وهلّلوا للتونسي محمد بوعزيزي في ديسمبر/كانون الأول 2010، حينما حرق نفسه، وأطلق شرارة «الخريف العربي».