أمد/
تواصل الدولة الصهيونية محاولات فرض التجويع، وحجب المساعدات الإنسانية على سكان قطاع غزة بوسائل مختلفة، كان آخرها الثلاثاء المنصرم، حين قامت قوّاتها باستهداف تجمّع لعناصر في لجان أهلية وشعبية تشكّلت لتأمين دخول وتوزيع المساعدات، ما أسفر عن ارتقاء 30 شهيدا، وإصابة عشرات الجرحى. واستهدف القصف الإسرائيلي هذا الأسبوع أيضا موظفي بلديات وخدمات عامة، عملوا في حراسة وتنظيم وصول مواد الإغاثة في مناطق مختلفة من قطاع غزة. وفي ظل الرفض الإسرائيلي المستمر لزيادة دخول شاحنات الإغاثة لتلبية حاجات أهالي القطاع الأساسية، ومع تفاقم حالة الأمن الغذائي وانتشار المجاعة، تعالت أصوات الاستغاثة في المنظمات والهيئات الدولية، التي حذرت من المجاعة العامة الوشيكة، وأشارت بأصابع الاتهام إلى إسرائيل، وحمّلتها مسؤولية الكارثة الإنسانية، مؤكّدة أن «التجويع هو جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية».
تشمل حرب التجويع الإسرائيلية منع الصيد، الذي يعتبر مصدرا رئيسيا للغذاء في غزة، وتجريف المزارع والمحاصيل وقصف المتاجر والمخابز ومصانع المواد الغذائية، واستهداف مواطنين متجمعين حول شاحنات الإغاثة الغذائية، إضافة لذلك تسعى إلى شل عمل وكالة غوث اللاجئين «الأونروا»، حيث دمّرت لها 157 وقتلت 165 من موظفيها، وأتلفت نسبة كبيرة من محتويات مخازنها.
مسؤولية الحكام العرب
وأمام مشهد الجوع والتجويع، الذي وصل إلى حافة الحالة الكارثية القصوى، ومع حلول شهر رمضان المبارك يتعالى السؤال حول مسؤولية الحكام العرب والمسلمين. هل يجوز لهم الصيام وغزة جائعة؟ أم هم بحاجة لدروس في معنى وجوهر صيام المسلمين؟ هل يعرفون أن قسما كبيرا من أهالي غزة يصومون الليل أيضا؟ ألم يسمعوا عن أطفال ماتوا من الجوع وسوء التغذية؟ بمقدور القادة العرب والمسلمين، إن أرادوا واستعملوا وزن دولهم، أن يجبروا الولايات المتحدة وإسرائيل على وقف التجويع، وحتى وقف الحرب تماما. تستطيع الدول العربية إدخال المساعدات لغزة، بلا إذن إسرائيلي. وعندها هل يتخيّل أحد أن تقصف إسرائيل قوافل شاحنات مصرية وسعودية وإماراتية وأردنية، تدخل من معبر رفح محمّلة بطرود أغذية؟ لماذا لا تُحشر الدولة الصهيونية في هذا الامتحان؟ ألا تستطيع هذه الدول وغيرها فرض الأمر الواقع تنفيذا لقرارات القمة العربية، التي نشرت في الإعلام ولم تصل بعد إلى حيز التنفيذ. إنّ العمل على إطعام الجياع وتوفير الحد الأدنى من متطلبات البقاء على قيد الحياة وإنقاذ الناس من القتل الإجرامي هو واجب إنساني وأخلاقي وديني وقومي، لا مغفرة لمن يستطيع ويتخلّى عنه، وهي واجب من باب تقديم العون والمعونة للجيران أيضا، أليس الفلسطينيون جيرانا للعرب على الأقل؟!
مواقف دولية
في العادة يحاول المسؤولون الدوليون استعمال لغة «محايدة ومتوازنة». ونادرا ما يتجاوزون أطرها وتقييداتها، كما حدث هذا الأسبوع، إذ توالت التصريحات الواضحة، التي حذّرت من أن غزة على حافة كارثة المجاعة بدرجتها الأكثر فظاعة، وحملت اتهاما مباشرا لإسرائيل بأنها المسؤولة عن حالة المجاعة في غزة، وعن ارتكاب جريمة حرب وجريمة ضد الإنسان لاقترافها جريمة التجويع، المحرّمة في كل القوانين والأعراف الدولية منذ أكثر من مئة عام. وجاء في بيان، نُشر على الموقع الرسمي للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي، أن مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك، قال: «القيود الإسرائيلية المستمرة على دخول المساعدات إلى غزة، إلى جانب الطريقة التي تواصل بها العمليات العدائية قد تصل إلى حد استخدام التجويع كوسيلة حرب، وهو ما يعد جريمة حرب»، وأضاف: «الكارثة التي تشهدها غزة هي من صنع الإنسان، وكان من الممكن منعها بالكامل لو تمت الاستجابة لنواقيس الخطر التي دقتها الأمم المتحدة.. الوقت ينفد. ويجب على الجميع، خاصة أصحاب النفوذ، أن يصروا على أن تعمل إسرائيل على تسهيل دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية لإنهاء المجاعة». ودعا تورك إلى وقف فوري لإطلاق النار، لتمكين الإغاثة ولمنع كوارث أكبر. ونشرت لجنة مراجعة المجاعة «إف.آر. إس.»، هذا الأسبوع، تقييما مدروسا بأن سكان غزة يواجهون خطر المجاعة، بأعلى درجاتها، واستند التقرير إلى نظام الإنذار المبكر، الذي يدعى «تصنيف الأمن الغذائي المتكامل ـ آي. بي. سي»، والذي يقسّم المجاعة الى خمس درجات: حد أدنى، منذر بالخطر، حالة أزمة، حالة طارئة وكارثة – مجاعة. وقد جرى اعتماد هذا التقرير الموثوق من قبل منظمات الأمم المتحدة ولجان دولية وحكومية كثيرة، ولم يعد هناك مجال للشك والتشكيك في الأوضاع الصعبة والكارثية لحالة المجاعة والتجويع، حتى من قبل أقرب حلفاء إسرائيل. وحذر برنامج الأغذية العالمي من أن سوء التغذية بين الأطفال في غزة في تسارع نحو عتبة المجاعة، وقال مارتن غريفيت وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ: «على المجتمع الدولي أن يطأطئ رأسه خجلا لفشله في وضع حد للمجاعة في غزة.» وأضاف بأن 1.1 مليون، أي نصف سكان قطاع غزة قد «استنفدوا إمداداتهم الغذائية ويعانون من سوء التغذية»، ودعا إسرائيل إلى تمكين دخول المساعدات الإنسانية بلا شروط. وتوالت تصريحات مماثلة من قيادات الاتحاد الأوروبي وكندا، ومن منظمة الغذاء العالمي «الفاو» والبنك الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، ونشرت وسائل الإعلام الكبرى في العالم تقارير عن حالة الجوع في غزة. وحتى وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، اعترف بأن «جميع سكان غزة يعانون مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، وهناك أولوية لإيصال المساعدات الإنسانية». ولكن الخارجية الأمريكية زعمت بأن لا دليل بأن إسرائيل تستعمل «سلاح التجويع». وفي ظل هذا الموقف الأمريكي، المدافع عن إسرائيل حتى في قضية التجويع، لم يتطور توجه دولي جدي لفرض عقوبات على الدولة الصهيونية لإجبارها للامتثال للقانون الدولي، الذي يحرم التجويع، ويعتبره جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وحتى أداة من أدوات الإبادة الجماعية، كما جاء في دعوى جنوب افريقيا في محكمة العدل الدولية.
التجويع كسلاح
بعد السابع من أكتوبر أعلن مسؤولون الإسرائيليون عن فرض حصار كامل وشامل على قطاع غزة، وقال وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت: «لقد أصدرت الأوامر بفرض حصار شامل وكامل على غزة وقطع الماء والكهرباء والطعام والوقود. لن يدخل شيء». كانت تلك سياسة رسمية وليس مجرد تصريح في لحظة غضب. وجرى ترديد وتبرير هذا الموقف من قبل جنرالات احتياط، وفي مقدمتهم الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الجنرال احتياط جيورا آيلاند، الذي قال بأنه يجب تحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح لحياة البشر، وأن الخيار أمام أهل غزة هو إما البقاء والمجاعة أو الرحيل والنجاة. لاحقا ارتفعت دعوات لربط دخول الطعام والماء والوقود بإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين. ولم تقبل إسرائيل بإدخال بعض المساعدات، التي هي أقل بكثير من الاحتياجات الضرورية، إلّا بعد ضغوط شديدة، وبعد اقتناعها بأن دخول المساعدات يمنحها «شرعية مواصلة الحرب»، وفق معادلة «إدخال الطعام مقابل مواصلة حرب الإبادة». وبعد أن وضعت إسرائيل العراقيل فوق العراقيل في دخول المساعدات، وفرضت نظام تفتيش بطيء ومركّب، لجأت إلى ملاحقة مسار المساعدات داخل غزة، وقامت بقصف الشاحنات والمخازن وطالبي الإغاثة ومنظمي التوزيع. وبعد هذا كله ادعت بأن المساعدات تدخل غزة «بشكل كاف» لكن هناك مشكلة في التوزيع. بالطبع هناك مشكلة وإسرائيل هي المسؤولة عنها، لأنها تستهدف الجهاز المدني في غزة حين يقوم بتأمين الإغاثة، وتقصف مرافق وموظفي «الأونروا»، ولا تسمح بانتظام وصول المساعدات الإنسانية إلى من يحتاجونها. في كتاب صدر عام 2022 وعنوانه «المحاسبة عن المجاعة الجماعية: اختبار حدود القانون»، حلل الباحثان بريجيت كونلي وأليكس دي وال سياسات التجويع وكيف أن فاعلين سياسيين وعسكريين استعملوا التجويع لتحقيق أهداف استراتيجية وتكتيكية، وقاما باستعراض أمثلة على ذلك من القرن التاسع عشر إلى أيامنا. لقد صدرت هذه الدراسة قبل الحرب على غزة، ولكن أحد الباحثين وهو أليكس دي وال، نشر مؤخّرا مقالا في «لندن ريفيو أوف بوكس» بعنوان «التجويع كوسيلة في الحرب»، جاء فيه أن «التجويع ليس جريمة حرب فحسب، بل جريمة ضد الإنسانية والقيادة الإسرائيلية تتحمل المسؤولية كاملة». واستعرض المقال خمسة أهداف للتجويع، وردت في الكتاب الأصلي عن التجويع قبل الحرب على غزة، وهي: 1ـ الإبادة والإبادة الجماعية، 2 ـ إحكام السيطرة عبر إضعاف السكّان، 3 ـ احتلال أراض، 4 ـ طرد السكان، 5 ـ معاقبة الناس. وخلص المحاضر البريطاني، المختص في مجال التجويع والمجاعة، إلى القول بأنها تطابق أهداف التجويع الإسرائيلي، وبأن مواصلة الحرب بعد التحذير من المجاعة تجعل تهمة الإبادة الجماعية دامغة، وتستدعي محاسبة المسؤولين عن الجريمة.