أمد/
تتبنى قيادة الجمهورية الإسلامية لنفسها بنية عقائدية، تقوم على شرعية النظام الإسلامي، انطلاقا من اتصال معرفي وواقعي وغيبي، بين الولي الفقيه، الذي يحوز مرتبة الاجتهاد والاعلمية والورع الضامن للعدالة، ليكون مرشدا للثورة الاسلامية، ونائبا للامام المهدي المنتظر صاحب الزمان، ويصعب ويتعذر تطبيق هذه المعايير، الا في حال كانت المرجعية مستقلة عن السياسة والصراع على السلطة والثروة، ورغم هذه الصعوبة فقد اعتمدت طاعة المرشد في ايران كأمر واقع لا نقاش فيه، واصبح تنفيذ تعليماته وتحويل فتاويه إلى آليات، عملية تدب على أرض الواقع، وتتزامن مع توالي الأحداث ومجريات الوقائع، كما أصبحت هذه الطاعة سعيا لمرضاة الله، من قبل الرعية وجموع الاتباع والمؤمنين بها، وأفراد الشعب الذين يعيشون في نطاق صلاحياتها وأحكامها، والطاعة هذه لا تفصلها او تقطعها، حدود جغرافية او قانونية أو وطنية، بل تمتد ما امتد تأثير العقيدة، ويتعاظم نفوذها وتأثيرها، كلما زاد عدد معتنقيها، وتعددت الدول والأوطان التي تنتشر بها.
على هذه القاعدة الفقهية، ارتفع قسم من السياسات المتبعة من ايران الى مرتبة القداسة، والقسم هذا هو نطاق عمل المرشد، واصبح كل ما يفتي به او يطلبه او يأمر به الولي الفقيه، لا يخضع لاي نقاش او تصويب او تصحيح او مراجعة، ولم يعد لأي خيارات يعلنها في اي ميدان من ميادين الحياة العامة، صفة التجريب، او المفاضلة، فهي لا تخضع لمراجعة او مساءلة، ويتم تصنيف اي نقد لها او تصويب لمسارها، في باب الخيانة والانشقاق والنفاق والتمرد، واذا كان من أمور وإجراءات لتسيير امور البلاد والعباد، في الاقتصاد وإنتاج الطاقة والصناعة والزراعة، والتعليم والصحة والإسكان وغيرها، فهي منوطة بمستويات أقل قداسة وأدنى مرتبة، كرئاسة الجمهورية والحكومة واجهزة الوزارات المختلفة.
المرشد يحدد معسكر الاعداء والاصدقاء، ويُوَصِّفُ طبائع الخير والشر وأطرافهما
المرشد يحدد معسكر الاعداء والاصدقاء، ويُوَصِّفُ طبائع الخير والشر وأطرافهما، ويفتي بما هو حلال ومستحب ومرغوب، وينهى عن ما هو حرام ومستبعد ومكروه، ليس فقط في امور العبادات والطاعات والطقوس، بل في كل امر يطال الفرد والأمة والوطن.
في الخيارات السياسية الاستراتيجية، لم تكلف ايران الاسلامية نفسها، أن تخترع جديدا، بل تبنَّت كل قضايا حركة التحرر العربية والإسلامية؛ اولا في إعلان العداء لأميركا ودول الغرب واسرائيل، و ثانيا في ادعاء انحيازها إلى الفقراء والفئات الكادحة، ونصرة الضعفاء والمظلومين، و ثالثا في سعيها لتوحيد المسلمين تحت قيادتها، و رابعا في تفكيك التبعية للغرب وانجاز الاستقلال الوطني، على المستوى السياسي والاقتصادي.
تقدمت الدعوة الايرانية الى تصدير الثورة، هادئة تارة واثقة تأخذ مساحات جديدة، وتوسع نفوذها، وصاخبة نزاعية عبر زعزعة استقرار الدول العربية المجاورة
وعلى قاعدة الأزمات والهزائم والفشل، التي منيت بها الدول العربية، سواء في مواجهة تداعيات القضية الفلسطينية، او الفشل في بناء الدولة الوطنية الديموقراطية، او تعثر بناء نموذج تنمية مستدامة، تُستثمَرُ فيه بشكل ناجح الموارد الطبيعية والبشرية، وتدمج المجتمعات العربية في اقتصاد العالم الحديث وانتاجيته، تقدمت الدعوة الايرانية الى تصدير الثورة، هادئة تارة واثقة تأخذ مساحات جديدة، وتوسع نفوذها، وصاخبة نزاعية عبر زعزعة استقرار الدول العربية المجاورة، وتشجيع انقسام الجماعات الأهلية، والتدخل السافر في الحروب والأزمات، و مارست المزج الماكر، بين البعد الثقافي الديني، والاصطفاف المذهبي، والفعل السياسي بدعم أحزاب هنا واقليات هناك، والتجنيد العسكري لقوى تأتمر بأوامرها وتتبنى شعاراتها وتدافع عن مصالحها…
على قاعدة هذه العقيدة الشمولية الثيوقراطية، التي أقامت حكم رجال الدين في إيران، مارست الجمهورية الاسلامية دورها داخل إيران وفي خارج ايران؛ في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين، وحاولت النفاذ الى البحرين والسعودية والسودان وغيرها، ولم تنجح الا بالاستناد الى وجود جماعات شيعية، أعادت صياغة عقيدتها الشيعية، بما ينصاع لرؤيتها وتوجهاتها، ففي لبنان انتقل شيعة لبنان من فضاء طروحات السيد موسى الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسادة محمد حسين فضل الله، ومحمد حسن الأمين وعلي الامين وهاني فحص، الى “نمط تشيع جديد لا يشبه التشيع التاريخي التقليدي” في لبنان ولا شيعته، ويضيق مجال هذه المقالة لإجراء مقارنة لتبيان الفارق الكبير بين افكار هؤلاء الشيعة الرواد، على تعدد اتجاهاتهم، وبين نمط التشيع الحزب الالهي الذي فرضته ايران في لبنان.
لا تقتصر المفارقة على مستوى الطروحات الفكرية والاجتهادات الدينية بل تنسحب الى ميادين مختلفة
لا تقتصر المفارقة على مستوى الطروحات الفكرية والاجتهادات الدينية، بل تنسحب الى ميادين مختلفة، لتطال الطقوس والعبادات والاحتفالات والعادات، ومناحي السلوك في اليوميات والاعياد والاعراس والمآتم، والتعليم الديني والتقديمات الاجتماعية والخدمات المختلفة.
وتكاد المقارنة بين ما كان يمارسه اللبنانيون الشيعة، من طقوس وعبادات وسلوك في الحياة العامة والمناسبات والاعياد، وبين ما تحولت اليه هذه الامور اليوم، تكاد المقارنة تفضي الى الاستنتاج ان أهالينا وأجدادنا وأسلافنا جميعا من الشيعة، قد ماتوا ميتة جاهلية مؤسفة بالمنظور الإيراني الجديد.
أما في سوريا، فقد لجأت إيران الى إعادة تشييع العلويين، وتخليق مذهب جديد، لا هو المذهب الشيعي الاصلي، ولا هو مذهب النصيرية العلوية التاريخي، وذلك عن طريق جمعيات مذهبية، جرى تمكينها من ممارسة نشاطات ثقافية ودينية وخدماتية، كما جرى اعادة تخليق المذهب الزيدي في اليمن، ليتماشى مع ولاية الفقيه والتشيع الإيراني، وسيادة الحوثيين على رأسهم، وعلى الرغم من ان مذهب الزيدية، التي يشكل الحوثيون سلالة هاشمية منهم، هي ملة في منتصف مسافة الافتراق السني الشيعي، وليست متطابقة مع التشيع الايراني…
في فلسطين، لم تجد ايران فيها جماعة شيعية حاضنة لعقيدتها
اما في فلسطين، فلم تجد ايران فيها جماعة شيعية حاضنة لعقيدتها، او أقلية مذهبية كعلويي سورية او حوثيي اليمن، بل وجدت ضالتها في حركة “حماس” المستندة الى الإخوان المسلمين لتكون حليفتها، في تزاوج مبتكر بين الاسلام السياسي بفرعيه السني والشيعي…
احتلت قضية فلسطين خلال القرن الماضي، صدارة قضايا التحرر العالمي، وطبع الصراع العربي الإسرائيلي احداث عشرات السنين الماضية، فكانت قضية العرب والمسلمين الاولى، كما نالت تعاطف وتأييد، اعدادِ كبيرة من حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، ومن مناصري حقوق الانسان في دول العالم اجمع، بعد ان اعادت منظمة التحرير الفلسطينية، إحياء الشخصية الوطنية الفلسطينية، ورسخت الشرعية النضالية الفلسطينية وحضورها الإقليمي والدولي، واعتبرت فلسطين على مدى المرحلة الماضية، قضية تحرر وطني لشعب طرد من أرضه، وحرم من الحق في تقرير مصيره على ارض وطنه، كما تبين بعد قيام إسرائيل أنها كيان استيطاني اجلائي, يقوم على التطهير الاثني, وممارسة تهجير سكان البلاد الأصليين، وعلى ممارسة وتشريع نظام فصل وتمييز عنصري (ابارتهايد).
ايران التي رفعت راية فلسطين، في وجه إسرائيل جعلت من هذه القضية “قضية تختصر بالمسجد الأقصى”
لكن ايران التي رفعت راية فلسطين، في وجه إسرائيل، كقضية تستطيع تجميع كل اذرعتها في المنطقة، في محور استراتيجي ينتظم بقيادتها باسم “محور المقاومة”، جعلت من هذه القضية “قضية تختصر بالمسجد الأقصى…
وللمفارقة فإن المسجد القائم اليوم في القدس، هو مسجد أموي تم بناءه حول قبة الصخرة، المُشَرَّفة الواقعة على صحن مرتفع في وسط ساحة الحرم الشريف، وهي تشكل أهم معالم المسجد الأقصى المبارك، وقد شرع في إنشائه عبد الملك بن مروان، الخليفة الأموي الخامس، سنة 68 هـ 688 م، وانتهى البناء سنة 72 هـ 691 م.
وعلى الرغم من القيمة الدينية لقبة الصخرة لدى المسلمين عامة، حيث عرج الرسول الى السماء منها، فان المفارقة ان تجعل ايران الشيعية، مسجدا امويا مجمل قضيتها في فلسطين.
وعلى الرغم من ان ايران، تصر على ترداد وتعميم هذه القراءة الدينية والعقائدية لاستراتيجيتها، وخياراتها الجيوسياسية في المنطقة، وعلى الرغم من ان بعض خصوم إيران ومناهضيها، يعتمدون هذه الأسس لبحث تكتيكات ايران واستقراء خياراتها، فان الحقيقة التي نراها بادية هي عكس ذلك تماما، و لذلك سنفصلها في مقالة مقبلة، نبين فيها، ان الاستراتيجية الايرانية تقوم على ادارة المصالح الايرانية، وترسيخ النفوذ في الاقليم خارج حدودها، وادارة منافع النظام التيوقراطي، ورجالات سلطاتها وتحصين سطوته واطالة أمد حكمه…
المعضلة القائمة عبر السنين الطويلة من الأزمات والصراعات, هو السؤال الخطير بموضوع سياسات الدول، عن توازن ما نسبي او مطلق، يتوجب الحفاظ عليه في الممارسة بين ؛ المبادئ والعقائد من جهة أولى، مع المصالح الوطنية والقومية من جهة ثانية، وعن مصالح رجال السلطة وانانياتهم مع افراد حاشياتهم من جهة ثالثة. ولعل هذه المعضلة لا تطال ايران ونظامها الاسلامي فقط، بل قد تطال نظام القيم الإنسانية، الحاكمة لسياسات الدول وسلوك سلطاتها جميعها.
لكن الفارق في هذه المسألة، يختلف باختلاف طبيعة الانظمة ومزاعمها او سردياتها عن نفسها، فالدول الديموقراطية تضع مصالحها في المقام الاول مقابل قيمها، بل وتشكل مصالحها التجارية وأسواق صناعاتها ومصادر الطاقة فيها، موجها لسياسات حكوماتها وتتخذ خياراتها انطلاقا من هذه المصالح، فيما يتكفل القضاء ونظام المساءلة والمحاسبة، بضبط ومنع رجال السلطة من صرف نفوذهم والإثراء غير المشروع، من توليهم إدارة الشأن العام، وتطلق هذه الدول أحكامها القيمية وانحيازاتها او تحالفاتها في الأزمات السياسية، كمزيج منمق من القيم والمصالح المجتمعة.
اما الدول العقائدية، فتدعي لنفسها سياسات وخيارات وتحالفات، تبدأ بالعقائد والقيم والمبادئ، وتستكمل بان تنتظم تحت رايتها المصالح والإلتزامات والمواقف، وعلى الرغم من ان الدول الدينية، تنتمي في الاصل لفصيلة الدول العقائدية الشمولية، الا انها تنفرد عنهم بان تجعل قيمها واهدافها مقدسة مطلقة، وان تصور أن صراعاتها خيارات الهية، وان نتائجها هي ارادة من الله و وعود ربانية، وبالتالي تنقلب المشاركة في خوض الصراع، من الاشتراك في النزاع على المصالح الوطنية، الى إحياء نوع من طقوس عبادات لمرضاة الله.
على الرغم من ان التعامل مع الشيطان، هو اثم ومعصية للباري تعالى، الا ان ايران الاسلامية تحالفت مع هذا الشيطان مرات عديدة
على الطريقة الايرانية لا تكون اميركا دولة استعمارية، تمارس الهيمنة الاقتصادية والعسكرية، بل تصبح الشيطان الاكبر، ولا يكتفى بان تكون اسرائيل كيانا غاصبا واستعمارا استيطانيا، بل ايضا شيطانا أصغر، وعلى الرغم من ان التعامل مع الشيطان، هو اثم ومعصية للباري تعالى، الا ان ايران الاسلامية تحالفت مع هذا الشيطان مرات عديدة؛ الاولى فقد كانت بالتعامل مع اسرائيل واستيراد اسلحة، منها اثناء الحرب العراقية الايرانية، في صفقة الكونترا التي أدت إلى فضيحة سميت ب “ايران غيت”.
أما الثانية، فهي في افغانستان ضد طالبان بعد احداث ١١ ايلول ٢٠٠١، حيث امنت من خلال تحالفاتها مع اطراف افغانية، كانت على عداء مع طالبان، وخاصة جيش الشمال المؤلف من الاثنية الطاجيكية، وجماعة الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، آمنت للقوات الأمريكية الغازية قوات برية على الأرض، تقدمت القوات الاميركية بقيادة ضباط ايرانيين من الحرس الثوري، وسهلت مهمة الاميركيين في إسقاط حكومة طالبان، و احتلال أمريكا لأفغانستان.
اما الثالثة، فهو التحالف مع الاحتلال الاميركي في العراق، لإسقاط نظام صدام حسين، حيث شاركت ايران بفعالية بعقد تحالف وثيق، بين جيش الاحتلال الأميركي والمنظمات والتشكيلات السياسية والعسكرية، التي كانت تعارض نظام البعث في العراق، والتي اقامت لسنوات طويلة في ايران ودمشق، بل ان الدور الايراني كان حاسما وفاعلا، لكي تواكب فصائل المعارضة العراقية الموالية لطهران الدبابات الاميركية، وهي تدخل مدن العراق وعاصمتها بغداد، وقد حرصت ايران منذ ذلك الحين، ليس على التعايش فقط مع الاحتلال الأميركي للعراق، بل ايضا على اقامة شراكة وتساكن بين ما هو ايراني وما هو اميركي، حتى بعد ورقة بيكر هاملتون سنة ٢٠٠٧، والتى افرزت انسحاب القوات الاميركية من العراق، وتولي السيد نوري المالكي رئاسة الحكومة العراقية، نتيجة تفاهم اميركي ايراني، اتى على حساب تولي المنصب من اياد علاوي، الذي كان يتمتع بدعم الكتلة النيابية الاكثر عددا، وقد دفع العديد من الأطراف السياسية العراقية، ومن بينهم حلفاء لطهران، أثمانا غالية واصيبوا بضربات مؤلمة على يد إيران، نتيجة عدم إدراكهم، او محاولة تجاوزهم للتواطئ الاميركي الايراني، وسعيهم لمواجهة الاميركيين في العراق…
أما المحطة الرابعة في تخادم ايران و الشيطان الأميركي، فقد كانت في قيام ايران ونظام الاسد، بالتواطئ وتسهيل قيام ” الدولة الاسلامية في العراق والشام” اي “داعش”، وفي مدها بأعداد كبيرة من المقاتلين، بعد الافراج أو تسهيل فرار معتقلين إسلاميين من سجون الاسد في عذرا، ومن سجون ابو غريب في بغداد، كما بقيام نوري المالكي بتوجيه الاوامر، الى جيش عراقي قوامه ٢٤ ألف رجل بالهزيمة والانسحاب، اما هجوم ل “داعش” قوامه سبعمائة مقاتل، وفي تمكين “داعش”، من الاستيلاء على معدات اميركية كانت مع الجيش العراقي قيمتها مليار $ اميركي، كما تمكينها من الاستيلاء على رساميل نقدية مودعة في المصرف المركزي العراقي في الموصل، وصلت الى مليار ونصف مليار $ اميركي… وقد اثبتت هذه الوقائع لجان تحقيق برلمانية عراقية، عالجت موضوع سقوط مدينة الموصل وحقيقة ما جرى فيها.
لم تكن سيطرة إيران على العراق ممكنة ومرشحة لكي تستمر وتستقر، و لا بقاء حكم الأسد في سوريا متاحا، في ظل حراك سني عقلاني يطالب في البلدين، بالمشاركة السياسية واعتماد آليات حراك سلمي، والاحتكام الى عمليات انتخاب ديمقراطية، تفتح الطريق لتحقيق المساواة بين الأطياف الاجتماعية في كلا البلدين، لذلك كان لا بد من استدراج الحراك الشعبي، الذي تفجر في العراق وسوريا سنة ٢٠١١ الى ممارسة العنف، ثم الى إعادة رسم وهندسة ملامح أهل السنة والجماعة، كحالة وحشية وطبع حراكهم بصورة الإرهاب، و كان السبيل الى ذلك تقوية “داعش” وامدادها بكل اسباب القوة والمال…
ورغم ان “داعش” شكلت عنوانا تقاطعت فيه، في مراحل لاحقة، أشكالا مختلفة من عمليات أجهزة المخابرات الاقليمية المتعددة، الا انها في الاصل والمنشأ كانت صناعة ايرانية اسدية، هدفت الى هندسة ملامح المعركة مع اعداء ايران والاسد، كمعركة ضد الارهاب السني التكفيري، واستدرجت أميركا ودول الغرب، لكي تخوض معركة دامية وشرسة للقضاء عليهم، وتشريد عشرات الملايين من أهل السنة في المشرق، وقد تحالفت بها ايران وميليشياتها الشيعية في العراق مع الجيش الأميركي، وعملت قواتها ومجاميع ميليشياتها، تحت راية الجيش الأميركي، و بغطاء جوي من طائراته ومروحياته، وكان من نتيجتها دمار مناطق السنة في العراق وعمران مدنها التاريخية، وبذلك تم كسر التوازن السني الشيعي في العراق لمصلحة غلبة شيعية سافرة.
اما في سوريا فقد حدث الأمر نفسه، لكن مع استبدال الرعاية الاميركية برعاية وحماية جوية روسية…
وقد كشف بن روس أحد مساعدي الرئيس الاميركي اوباما، في كتاب نشره منذ سنتين، ان الرئيس الاميركي قد اسقط خطوطه الحمر، عن استعمال الأسد لأسلحة كيماوية ضد المدنيين في احياء دمشق، بسبب حرص اوباما على نيل رضا طهران، وتأمين تعاونها بالاتفاق النووي الايراني، ولم تكن النكبة السورية وتهجير ملايين النازحين من بيوتهم، الا توسيعا واستكمالا لنكبة عراقية مهدت لها.
اما في الساحة الفلسطينية، فقد اعتبرت ايران ان اسرائيل شر مطلق، وان اي هدف غير استئصالها كغدة سرطانية في جسد الأمة، هو تفريط بقداسة القضية، وخيانة لشعبها وتنازلا وتفريطا امام عدو شيطاني، ولذلك فقد دأبت طهران ودمشق، على مناهضة وافشال اي سعي لتسوية سلمية للقضية الفلسطينية تؤدي لتحقيق دولة فلسطينية، على حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧، ولذلك ناهضت اتفاقيات اوسلو التي توصل اليها ياسر عرفات مع اسحق رابين، وشجعت عمليات انتحارية ل”حماس” و”الجهاد الاسلامي”، هدفت الى تخريب مساعي الوساطة الاميركية، للوصول الى تسوية سلمية، وقصدت تخريب العلاقة الفلسطينية الاميركية، وهي بذلك سهلت لليمين الاسرائيلي القومي والديني، الانقضاض على مسار التسوية وأطرافها، ومكنت هذا اليمين من توسيع عمليات تهويد الضفة الغربية، وتقطيعها وعزل مدنها بحجج امنية، وتوسيع المستوطنات وزيادة اعداد المستوطنين من ٩٠ الف نسمة، لحظة توقيع اتفاقية اوسلو، الى ٨٠٠ الف نسمة يوم “طوفان الاقصى”…
لم يقتصر تقاطع سياسة ايران والممانعة مع سياسة اليمين الاسرائيلي، في مناهضة اتفاق اوسلو، بل تعداه الامر الى الاستثمار بالانقسام الفلسطيني بين حركتي “حماس” و”فتح”
لم يقتصر تقاطع سياسة ايران والممانعة مع سياسة اليمين الاسرائيلي، في مناهضة اتفاق اوسلو، بل تعداه الامر الى الاستثمار بالانقسام الفلسطيني بين حركتي “حماس” و”فتح”، والتشكيك بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وبادامة الانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية، ولقد توضحت سياسة نتنياهو وايران معا، وعلنا بدعم سيطرة “حماس” على غزة، وتمكينها من اقامة سلطتها لتنافس وتقوض سلطة منظمة التحرير في رام الله.
كما اعتبرت الممانعة، ان الخيار العسكري هو الطريق الأساسي لتحرير كل فلسطين، وان مجاميع ميليشياتها التي أنشأتها في العراق وسوريا واليمن ولبنان، إضافة لحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين، والتي إنتظمت في “فيلق القدس”، هي التي ستقوم بهذه المهمة المقدسة، كما اعتبرت أن الاتفاقيات السلمية التي عقدتها كل من مصر والاردن، وعلاقات التطبيع التي اقامتها دول الامارات والسودان والبحرين والمغرب وقطر مع إسرائيل، هي علاقات خيانية تعكس تخلي حكومات المنطقة عن شعب فلسطين، وخضوعها لاملاءات اميركا واسرائيل، كما اعلنت في مناسبات عديدة وعبر جنرالاتها، ان القوة العسكرية لحلف المقاومة، قادرة على سحق اسرائيل في اوقات وجيزة، وان اسرائيل تعيش تحت وطأة الرعب من مواجهة قادمة معها.
اكتسب الخيار العسكري في مواجهة اسرائيل، مصداقية نسبية في تجربة “حزب الله” في لبنان، حيث تحقق انسحاب اسرائيل من لبنان دون قيد او شرط سنة ٢٠٠٠، واستطاع “حزب الله” ان يزعم لنفسه انتصارا الهيا في حرب تموز، نتيجة انتهاء الحرب الى القرار الدولي ١٧٠١، دون القضاء على “حزب الله” او إضعافه و انهاكه، وتسببت مشاركة “حزب الله” في الحرب السورية، وهزيمة المعارضة السورية المسلحة، على أيادي تحالف لم يكن معلنا بكامله، يضم روسيا وايران وميليشياتها، وجيش الاسد، واسرائيل و”قسد” و”داعش” نفسها و”جبهة تحرير الشام” وبعض دول الخليج، تسببت هذه المشاركة في ادعاء “حزب الله” والسعي لنفسه، دورا إقليميا في العراق واليمن، يؤهله، بمباركة ايرانية، لأن يلعب دور قيادة “وحدة الساحات الممانعة” في اية معركة تطال ساحة من ساحات الممانعة، او طرفا من اطرافها.
كان “طوفان الأقصى” في ٧ تشرين اول، سنة ٢٠٢٣، اختبارا لإيران واذرعتها، لكي تترجم اقوالها الى أفعال، وعنترياتها الكلامية الى ممارسات فعلية، وان تنفذ ما وعدت به، وأن تظهر قدراتها العسكرية، التي طالما زعمت انها ترعب اسرائيل، وان تسعى لحماية الساحة الارفع قداسة في عقيدتها وهي فلسطين، وان تدافع عن قضية القدس، التي زعمت ان استراتيجيتها التي وضعتها منذ ٤٠ عاما كانت من أجلها.
لكن إيران لم تخجل من التنصل المتدرج، من اي مساهمة في الحرب القائمة في غزة، فكانت البداية بالتنصل من حماس وعمليتها، ثم بتفهم ظروف سوريا وتحييدها، ثم بوقف إطلاق نار من جانب واحد، من قبل ميليشياتها في العراق لعدم احراج حكومة السوداني، وتاليا التنصل من مسؤوليتها عن عمليات الحوثيين في اليمن، وصولا الى ضبط حركة “حزب الله” وإلزامه بسقف لردوده القتالية على اسرائيل، قد يورط لبنان وشعبه بالحرب، لكنه لا يورط إيران.
لا تريد ايران ان تتعرض لحرب على أرضها بسبب الازمة الفلسطينية، الأمر معلن ومسلم به ولا ينكره احد!…
هل هذا الخيار أمر مشروع أم هو خيانة؟! وإذا كان مشروعا لإيران الخامنئي ولسوريا الأسد ولعراق السوداني، فلماذا لا يكون مشروعا لمصر والسعودية والامارات والاردن؟ وبصورة اقوى وأكثر وضوحا، لماذا لايكون مشروعا للبنان؟ ولماذا لا يحق للبنان ان يتخذ موقفا، يماثل مواقف دول عربية وإسلامية مدرجة أعلاه، هي أكبر منه حجما وأقوى جيوشا واغنى مواردا؟ ولماذا على نصف شيعة لبنان ( نصف مليون نسمة) ان يقاتلوا بديلا او نكاية ب ٢ مليار مسلم، بينهم ٤٠٠ مليون عربي؟! وهل خراب لبنان سيخفف آلام غزة واوجاعها، وهل عمليات “حزب الله” الجارية اليوم، ستمنع إسرائيل من استكمال جرائمها؟
ولذلك يظهر ان الاصرار على استمرار القتال في لبنان، ليس خدمة لفلسطين وليس نصرة لغزة، بل لضمان مقعد لإيران على طاولة التفاوض مع أميركا ودول الإقليم، لرسم مواقع النفوذ في المنطقة…
تقدر مصادر جادة ودقيقة، ان مجموع الاموال المنهوبة في العراق، منذ سقوط نظام البعث سنة ٢٠٠٣ ولغاية تاريخه، قد بلغت ما يقارب ال ٧٠٠ مليار $ أمريكي، جرى توزيعها بين أطراف عراقية ولبنانية وإيرانية
لايقتصر “الدهاء المقدس” لنظام رجال الدين الايراني، على استعمال الشعارات المقدسة، والمزاعم المطلقة، والقضايا العادلة، من أجل تغطية مصالح النظام وأهدافه، في بسط نفوذه على دول المشرق العربي واليمن، وعلى زعزعة استقرار المجتمعات العربية، وتمزيق أنسجة الدول الوطنية فيها، بل يمتد لأطماع شرهة، في نهب ثروات الشعوب داخل ايران وخارجها، واستباحة الثروات لمصلحة رجال النظام الإيراني، والنافذين فيه من رجال دين وقادة في الحرس الثوري الإيراني، ففيما يعيش ثلث الشعب تحت خط الفقر في ايران، تلخص المنهبة القائمة في العراق شهية الموالي، وأدواتهم من الاحزاب العراقية، في استنزاف خيرات دولة غنية بمواردها الطبيعية والبشرية، وفي افقار شعبها، وانعدام الخدمات العامة في الصحة والتعليم والاستشفاء، وتأمين مياه الشفة والمواصلات والكهرباء، وتقدر مصادر جادة ودقيقة، ان مجموع الاموال المنهوبة في العراق، منذ سقوط نظام البعث سنة ٢٠٠٣ ولغاية تاريخه، قد بلغت ما يقارب ال ٧٠٠ مليار $ أمريكي، جرى توزيعها بين أطراف عراقية ولبنانية وإيرانية، تدين كلها بالولاء لمرشد إيران.
ولعله آن الأوان للتمييز بين القداسة والسياسة، بين المصالح الوطنية المشروعة والمطامح الاقليمية الجموحة، كما اصبح ملحا ان نبحث اكثر، عن أمر دنيء مدنس ومخفي، وراء كل شعار طنان مقدس