أمد/
فجأة تركت “حماس” الموجودة في قطر وقيادة القسّام الموجودة في أنفاق غزة معركة المصير. وطالبت الجماهير العربية بالانقلاب على حكّامها والسعي إلى ما سمّته “امتزاج الدم العربي في الشوارع العربية بالدم الفلسطيني في غزة”.
وجاءت الدعوة متزامنة بين حماس والقسّام وبين خالد مشعل ومحمد الضيف، من غزة وعمّان في الوقت ذاته.
ماذا يعني ذلك؟ ولماذا تأتي الدعوة منهما ولماذا الآن؟
قال لي الزعيم ياسر عرفات: “خطأ الثورة الفلسطينية الأكبر هو أنّها سمحت باختراق النظام العربي لها في تفاصيل صناعة القرار. وخطيئتها الكبرى أنّها دخلت في لعبة محاولة السيطرة على الأنظمة العربية التي عاشت فيها”.
قال لي أبو عمار هذه التصريحات وهو محاصر من جيش الاحتلال الإسرائيلي في مبنى المقاطعة برام الله. كان أبو عمار وقتها يعيش أصدق لحظات حياته السياسية. وكان حواره التلفزيوني الأخير، قبل أن يسافر للعلاج في باريس، بمنزلة اعترافات حول تجربة منظمة التحرير الفلسطينية.
لماذا تطالب حماس الشعوب العربية بالانقلاب على حكامها؟!
الأردن ولبنان وتونس… وفلسطين
هناك 4 تجارب تاريخية للوجود الفلسطيني داخل مجتمعات عربية:
الأولى: الوجود في الأردن نتيجة النزوح عقب حروب 1948 و1967، حرب لبنان الأهلية، والخروج الفلسطيني من لبنان عام 1982، وبعدها بسنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى ثمّ الثانية.
يقول الأمير الشريف المشير زيد بن شاكر، رحمه الله، أحد كبار الشهود على حرب أيلول الأسود عام 1970: كان الخطأ الرئيسي لمنظمة التحرير في الأردن أنّها تعاملت بمنظور أنّها فوق القانون الأردني وصاحبة السيادة الوحيدة على البلاد والعباد. ثمّ تعمّد الإقلال من مكانة العرش الهاشمي وشخص جلالة الملك حسين رحمه الله. سمعت ذلك بنفسي من الرجل وأنا أسجّل معه شهادته التلفزيونية حول مسيرة حياته.
فجأة تركت “حماس” الموجودة في قطر وقيادة القسّام الموجودة في أنفاق غزة معركة المصير. وطالبت الجماهير العربية بالانقلاب على حكّامها
الثانية: بعد الخروج من الأردن جاء النزوح إلى لبنان. حيث ارتكبت الفصائل الفلسطينية الخطأ ذاته في التورّط المباشر في اللعبة السياسية اللبنانية المعقّدة سياسياً وطائفياً. وأصبحت تشكّل مركز تأثير أمنيّ ووجوداً ماليّاً واقتصادياً عابراً لسلطة الدولة الوطنية في لبنان. وأصبحت السلطة الفلسطينية طرفاً مباشراً في الحرب الأهلية اللبنانية ونصيراً لما يعرف بـ”القوى الوطنية”، المتحالفة مع سوريا. ومعادية للقوى المسيحية المدعومة والمحميّة تاريخياً من الغرب. وانتهت الأمور بحصار جيش الاحتلال الإسرائيلي للعاصمة بيروت. وباتفاق عربي دولي شديد الصعوبة أدّى إلى خروج المقاومة بقيادتها وسلاحها إلى تونس واليمن والسودان.
الثالثة: في تونس حينما استقبل وزير الداخلية، حينها، زين العابدين بن علي، الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في منزل حكم بلعاوي ممثّل منظمة التحرير في تونس، بمنطقة سيدي بورسعيد. بادره بالقول: “يا أبا عمّار. أنت تعرف دعمي وعاطفتي غير المحدودة تجاه الشأن الفلسطيني. لكنّني كرجل أمن أنصحك منذ اليوم الأول لكم في تونس بعدم تكرار أخطائكم في الأردن ولبنان”. وأضاف: “عليكم أن تعرفوا. أنتم ضيوف أعزّاء في بلادنا. لكن لا توجد في هذه البلاد سوى بندقية واحدة وأمن واحد. وهما البندقية التونسية والأمن التونسي”.
الوجود الفلسطيني الآخر كان لبعض الفصائل مثل البعث العراقي وفصيل أبي نضال في بغداد. والصاعقة السورية والجبهة الشعبية (جورج حبش). والمكتب السياسي لحماس في سوريا وبعض الرموز (أبو نضال والجبهة الشعبية في مرحلة لاحقة في ليبيا).
كلّ هذه القوى كانت تحت السيطرة الأمنيّة التابعة لأجهزة أمن هذه الدول ليل نهار. تتابع تحرّكاتها وتحاول التأثير المباشر على تحرّكاتها.
تحوّلت حماس، المؤسّسة أيديولوجياً على فكر جماعة “الإخوان المسلمين” السنّية، ذات المركز الرئيسي في مصر، لتصبح إحدى أدوات مشروع الممانعة للمشروع الصهيوني
فلسطينان: غزّة… ورام الله
الآن بعد إخفاق السلطة في تحقيق مشروع تفاوضي دبلوماسي قادر على تحرير الأرض. وبعد إخفاق حماس في أن تؤدّي عمليّاتها العسكرية إلى تحرير أراضٍ فلسطينية جديدة، أصبحت لدينا فلسطينان.
الأولى: في رام الله. نجمت عن حلّ سياسي غير ممكن منذ اتفاق أوسلو حتى الآن.
والثانية: في غزة بقيادة حماس. حاولت في خمس مواجهات عسكرية آخرها في 7 أكتوبر (تشرين الأول 2023) أن تحصل على أيّ مكاسب سياسية إقليمية.
تحوّلت حماس، المؤسّسة أيديولوجياً على فكر جماعة “الإخوان المسلمين” السنّية، ذات المركز الرئيسي في مصر، لتصبح إحدى أدوات مشروع الممانعة للمشروع الصهيوني.
أصبح مركز الدعم الماليّ والتسليح والتدريب والتوجيه السياسي لحماس في الدرجة الأولى في طهران. وأصبحت حماس جزءاً من منظومة ما يعرف بـ”قوى المقاومة الممانعة” (حماس. الجهاد. الحشد الشعبي العراقي. الحزب. قوات زينبيون. قوات فاطميون).
آخر هذه الترتيبات والتحالفات هو لقاء ممثّلي هذه الفصائل أخيراً في بيروت. وزيارة وفد من قيادة حماس بزعامة إسماعيل هنيّة طهران ولقاؤه القيادة الإيرانية والمرشد الأعلى الإيراني خلال الأسبوع الماضي.
حماس – الدوحة.. حماس – غزّة
أصبح واضحاً الآن أنّنا أمام تيّارين داخل حماس.
تيار المكتب السياسي المقيم في الدوحة. الذي يباشر مفاوضات الهدنة المقترحة.
وتيار كتائب القسّام المقاتلة في غزة.
أصبح أيضاً واضحاً أنّ القرار النهائي في شكل العمليّات العسكرية وملفّ التفاوض وملفّ مبادلة الرهائن والمعتقلين كلّها في يد قيادة القسّام الموجودة في أنفاق غزة. وليس في يد المكتب السياسي الموجود في الدوحة.
حاول المكتب السياسي في مفاوضات الدوحة والقاهرة أن يقنع أو يسوّق المشروع الأميركي الذي عرضه ويليام بيرنز القائم على 3 عناصر:
1- إيقاف نهائي لإطلاق النار مقابل تبادل نهائي للرهائن دون شروط.
2- إيقاف اجتياح جنوب رفح.
3- كلّ ذلك مقابل ترتيب خروج 198 من قيادات القسام من قطاع غزة إلى عاصمة عربية.
قابلت كتائب القسام هذا المشروع بالرفض.
يتردّد أنّ زيارة وفد المكتب السياسي لحماس لطهران هي محاولة للاستنجاد بنفوذ القيادة الإيرانية على قيادة القسّام
من هنا يتردّد أنّ زيارة وفد المكتب السياسي لحماس لطهران هي محاولة للاستنجاد بنفوذ القيادة الإيرانية على قيادة القسّام لتمرير هذا المشروع تحت دعوة “المحافظة على ما بقي من كتائب القسام من التصفية ومنع مجزرة جديدة للشعب الفلسطيني في جنوب رفح”.
بالطبع يخضع هذا الملفّ للدراسة العميقة من الجانب الإيراني الذي يبني موقفه على أساس الإجابة على سؤال كبير هو: هل ترى طهران الآن أنّ مصلحتها هي في التعاون مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في إيقاف التصعيد الإقليمي؟ أم مصلحتها في خرق اتفاق مسقط مع واشنطن وتوسيع دائرة الاشتباك الإقليمي؟
مشعل يحرّض ضدّ النظام الأردنيّ
يأتي تصريح خالد مشعل الذي يشغل منصب رئيس حركة حماس في الخارج ليلقي بزيت مضاعف على نار متأجّجة في المنطقة حينما طالب الملايين من الأردنيين بالنزول المستدام إلى الشارع للانخراط في معركة طوفان الأقصى.
جاء الردّ الأردني الرسمي والشعبي على هذه التصريحات غاضباً. واعتُبرت نوعاً من التحريض على الدولة الأردنية ونوعاً من المراهقة والإفلاس السياسي. ومحاولة للتغطية على الأوضاع والأخطاء داخل حماس.
يعلم خالد مشعل، الذي يمتلك وثيقة سفر أردنية، بموجب خبرة حياتية وسياسية عميقة بالأوضاع في الأردن، أنّ مثل هذه التصريحات يمكن أن تحدث شرخاً في تماسك نسيج المجتمع الأردني. الذي لديه تركيبة ديمغرافية سكانية معقّدة وحسّاسة للغاية.
إذ يبلغ تعداد سكّان الأردن قرابة 10.5 ملايين نسمة. ويقدّر إحصاء أُجرِيَ في 2015 أنّ قرابة 35% إلى 40% من السكّان من أصول فلسطينية.
يوجد في البلاد عشرة مخيّمات كبرى للّاجئين. ويتمتّع كلّ فلسطيني في الأردن بكلّ الحقوق التي يتمتّع بها المواطن الأردني. ما عدا حقّ الانتخاب وحقّ الترشّح في الانتخابات.
لماذا تطالب حماس الشعوب العربية بالانقلاب على حكامها؟!
الملك حسين أنقذ حياة خالد مشعل
يشعر البعض في الأردن بخيبة أمل كبرى بسبب صدور هذه التصريحات بالذات عن خالد مشعل. الذي تدخّل الملك حسين شخصيّاً وأقام الدنيا ولم يقعدها حينما قام عملاء للموساد بمحاولة اغتياله في العاصمة الأردنية عام 1997.
السلطة في رام الله تعدّ نفسها لمرحلة التأهيل لتسلّم سلطة تأمين الأمر الواقع بعد توقّف رصاص القسام وإسرائيل
يذكّر هؤلاء بأنّ الملك حسين شخصياً هو الذي أشرف على إنقاذ حياته. وهو الذي أعاد الشيخ أحمد ياسين إلى غزة.
يصرح خالد مشعل بذلك بالتزامن مع تصريحات منسوبة إلى محمد الضيف، الرجل الثاني في كتائب القسام، الذي يتردّد أنّه المهندس العسكري لعملية طوفان الأقصى، والذي قال: “يجب إحداث انتفاضة شعبية من جماهير الأردن وسوريا ومصر والمغرب والجزائر”.
يحدث ذلك أيضاً بالتزامن مع تشكيل محمد مصطفى لحكومة تكنوقراط تمّ الترحيب بها رسمياً من الخارجية الأميركية. بانتظار أن يتمكّن من إدارة أمور غزة بعد نهاية الوجود العسكري والإداري لحماس.
المشهد الذي تُعدّ له طهران بمساعدة الوكلاء في المنطقة هو تسخين شوارع العالم العربي من الداخل
إيران تعدّ الجحيم للأنظمة العربيّة
كأنّنا أمام مشهد درامي ورئيسي في تراجيديا حرب غزة. فكلّ طرف فيها يستعدّ لمرحلة جديدة ويسعى إلى تهيئة نفسه لها.
– حماس (المكتب السياسي) تسعى إلى الإبقاء على ما بقي من نفوذ في غزة. وتحاول الحصول على النجدة والعون من طهران للوساطة مع الأميركيين من ناحية، وللضغط على القسام من ناحية أخرى.
– السلطة في رام الله تعدّ نفسها لمرحلة التأهيل لتسلّم سلطة تأمين الأمر الواقع بعد توقّف رصاص القسام وإسرائيل.
– إسرائيل تسعى إلى إعلان انتصار زائف بأنّها ضمنت عدم تكرار 7 أكتوبر آخر، وتهيّئ نفسها لعمليات نوعية ضدّ الحزب.
– بايدن يسعى إلى تقديم نفسه على أنّه حقّق معجزة دعم إسرائيل في حربها ضدّ إرهاب حماس، وفي الوقت ذاته قدّم أكبر مساعدات إنسانية للفلسطينيين.
– وزارة الدّفاع الأميركية ساهمت في بناء ميناء في غزة يساعد على وصول المساعدات الإنسانية. لكن نواياها الحقيقية هي تحويل ساحل غزة إلى منطقة استكشاف غاز تقدّر مخزوناتها للوهلة الأولى بـ1.7 تريليون قدم مكعب وتساوي 572 مليار دولار.
– أمّا حماس – القسّام التي لا تجد لنفسها دوراً حقيقياً فهي تهرب إلى الأمام لمحاولة خلق مشهد جديد عقب مشهد فشل الربيع العربي.
المشهد الذي تُعدّ له طهران بمساعدة الوكلاء في المنطقة هو تسخين شوارع العالم العربي من الداخل من خلال تحميل الأنظمة العربية تهمة ومسؤولية وخسائر ما حدث في غزة!
إنّه مشهد لما يمكن تسميته مشروع “الجحيم العربي”. إنّه ليس “طوفان الأقصى”، لكنّه الطوفان الأقصى!