أمد/
قد لا يحيد قولي عن جادة الصواب إذا قلت أن الكاتبة التونسية السامقة أ-نادية الأحولي تكتب بلغة خاطفة مليئة بالإيحاء،توهم القارئ بتمام وحدة معناها لكنها تبقى مفتوحة على التأويل فتأخذ من القارئ مساحات تفكير أكثر مما تعطيه معنى جاهزاً.
“قهوة صباح الأحد لها مذاق مختلف، قهوة بطعم الدلال والغنج،تراقصك وتنحني لك ترحابا، قهوتي لا سكّر فيها لكن الأمل يجعلها تقطر عسلا،قهوتي لمن ارتشفها مرة، لكنها وكتابي جعلا الكون يقطر شهدا.”
هذه الكاتبة الفذة تتقن (وهذا الرأي يخصني) فن الومضة التي تعتمدها غالبا في كتاباتها، وتنجح في استخدامها في كثير من الأحيان حتى في نصوصها الطويلة بعض الشيء،لأنها تعي تماماً وتعرف كيف تخطف المعنى في النص وإن كان طويلاً..فنصها ذو طاقة مكثفة قادرة على إطلاق دلالات،وقد تقوم لغته على المقابلة والتوازي والمفارقات تماماً كما هي قصيدة الهايكو اليابانية،التي تكتنز لحظة جمالية يمتزج فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان حيوية الفكرة داخل الوعي الإنساني لها.في قصيدة الهايكو يبدو المشهد الشعري ساكناً إلاّ أنه يختزن طاقة حركية في داخلها،لذلك نستطيع القول إن شعرية الهايكو تكمن في هذا اللبس الكامن بين ظاهرها الصامت وحركتها المخبأة في الداخل.
-وهم وأمل
كانت ترتق ثوب الأمل،تترنّم بتعويذات جدّتها،في محاولة يائسة أن تطرد شيطان الوهم.
كان يلوّح لها من وراء سراب،لا عود بعد اليوم،فجواسيسهم تملأ خياشيمي نجاسة،لا تنتظريني فلا رجاء منّي.
ما أتقنت منذ الصبا إلى المشيب غير خذلانكِ وردّكِ وأنت تتجرعين نُدوب الخيبة”
في الحقيقة هناك ما يشبه الهايكو في-ابداعات أ-نادية حيث تتجلى نصوصها مقتصدة لغوياً لكنها تطلق دلالالتها المطلقة ذهنياً..
“..أعدك أيتها الطفلة الرابضة بأعماقي أنني سأصونك مدى العمر ولن يلوث براءتك وطهرك زمن ولا بشر.
أنا من أنارت الشمس نهاري
وأضاء القمر ليلي
ندية طرية من ثرايا ارتوت السنابل
اخضوضرت الدروب أينع الزهر..”
اللافت في كتابات أ-نادية هو اتقانها لعبة الإشارة،فهي تعرف متى تجعل نصها يصمت ومتى تلقي ورقة الدهشة فيه،إلى جانب الاشتغال الواضح على الفكرة التي تحاول إيصالها للقارئ،من دون تكلف لغوي،لذا نلاحظ أن لغتها لغة مكثفة ومضغوطة تشبه إيقاع الحياة وتوترها..
قد تكون قصيدة الومضة «الهايكو» وسيلة من وسائل تجديد النص الشعري،وشكلاً من أشكال الحداثة إلا أنها تبقى استجابة لصوت الشاعر الداخلي الذي يريد إيصال فكرته عبر لغة متجددة.
هذا النوع من الكتابة الخاطفة ليس سهلاً إذ يتطلب تركيزاً ذهنياً عالياً لطرح الفكرة وإيجاد مفارقة تختمها بتساؤل يظل يدور في ذهن المتلقي،فالشاعر لا يقدم آراء،بل رؤية كما قال نزار قباني،ونص -نادية-يعمل بهذا تماماً في جل ابداعاتها.
لا يقتصر اشتغال أ-نادية الأحولي على الومضة الخاطفة وحسب،بل تذهب بها إلى أبعاد بصرية تضيف للنص جمالية،خصوصاً أنه نص مختزل ومختصر لذلك يخرج بتنويعات مختلفة،ويأتى كدفقة شعورية واحدة متتالية على شكل قصيدة يلحق كل شطر فيها الآخر لتكتمل الفكرة التي غالباً ما تكون في نهاية النص،وبهذا يمكننا ان نطلق على نص -نادية-” النص الدائري”إذ يلتف على نفسه ليعطي المعنى المراد في نهاية النص..
أكتبني لحن حنين
انثرني سنبلة عشق
في السبع العجاف
ترتوي بي
على سبيل الخاتمة:
لأن قصيدة الومضة تختزل الموقف والمفردة والشعور كي تعطي للمعنى بعداً مغايراً،وتمنح الصورة روحاً تجعل القارئ يحلّق إلى حيث تشظياتها ليمسك بخيوطها لذا فهي قادرة على التوصيل للمتلقي كل دفقاته الشعرية والشعورية، ضمن تعبير متميّز يحمل الروح والفكرة والشاعرية بكل ألق وإبداع لكونها ترتكز على الشحنة الدافقة والتي من طبيعتها تدهش القارئ..
نلاحظ أن الكاتبة/الشاعرة أ-نادية الأحولي ترتكز في ومضاتها على مصادر الجمال الفنّي الذي ينبع بالدرجة الأولى من جمال الصورة التي ترسمها والقدرة الإيحائية والصدمة المتولدة.
لذا نقول إن قيمة الصورة الشعرية في قصيدة الومضة لدى الشاعرة أ-نادية الاحولي كغيرها من شعراء الومضة هي نوع من الاختزال الرائع والتوافق وهذا يدل على عمق التجربة الشعرية التي تتمتع بها الشاعرة/الكاتبة وقدرتها في الجمع بين كثافة اللغة والصورة الإبداعية..
وفي الختام نقول: القصيدةُ الومضية هي التي تتعدّد فيها الأصوات الشعريّة وتحيل إلى بنية جديدة ونسيج وعلامات وإشارات متعدّدة تنطوي ثناياها على علاقات متنوّعة فيها من الإثارة والإدهاش ما يجعلها تثير المتلقّي وتجذبُ انتباهَه،وهذا ما قامت به الكاتبة/ الشاعرة الفذة أ-نادية الأحولي،لذا كانت للصورة أهمية استثنائية في نصوصها الومضية لأنها تُلتقط في لحظة انبهار ضوئيّ يكشف جزئيات،وحساسيات ذهنية في غاية الحدة.
لها مني باقة من التحايا المفعمة بعطر الإبداع.