أمد/
في صيف عام 1999، كان «عالم ديزني» يستعد لإقامة معرض ديزني الدولي للألفية الثالثة في «إبيكوت سنتر» بمدينة فلوريدا الأمريكية، والذي يستمر عادة لأكثر من عام، ويجذب إليه عشرات الملايين من المشاهدين في العالم. مهرجان دولي كبير، وحدث استثنائي مثير.
وقد شاع خلال التحضيرات أن المعرض سيتضمن جناحاً يحمل عنواناً يشير إلى «القدس.. عاصمة إسرائيل»، وقد أحدث هذا الخبر، وقتها، صدمة مزلزلة في العالمين العربي والإسلامي.
تحدثت معلومات منشورة حينذاك عن تبرع مالي من إسرائيل بنحو مليوني دولار، إسهاماً منها لبناء «جناح القدس»، والذي تبلغ تكلفته نحو عشرة ملايين دولار، وعملت الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها على تحديد مضمون ومحتوى هذا الجناح. وبدت شركة «ديزني» منخرطة في لعبة السياسة الشرق أوسطية الشائكة، كما كان يُقال وقتها.
في تلك الأزمنة، كانت الإحصائيات تشير إلى أن نحو ربع مليون عربي يزور عالم «ديزني» سنوياً، وأن هذه الشركة الشهيرة تجني أرباحاً هائلة من أفلامها وأنشطتها الأخرى في الوطن العربي سنوياً.
دعت وقتها دولة الإمارات، بتوجيهات من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إلى اجتماع طارئ لوزارء الإعلام العرب، حيث تقرر القيام بمقاطعة عربية شاملة لشركة «ديزني» ومنتجاتها، معتبرة أن مسألة القدس قد خصها مجلس الأمن الدولي بقراره 242 الداعي إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، كما أن هناك قرارات دولية أخرى تعارض ضم القدس إلى إسرائيل، من بينها القراران رقم 237، ورقم 405 اللذان اعتبرا القدس الشرقية أرضاً فلسطينية محتلة.
استدعى إرييل شارون، رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، رئيسَ شركة «ديزني» وطالبه بمقاومة الضغوط العربية، كما اتصل بالرئيس الأمريكي بيل كلينتون، ودعاه للتدخل، لكن الموقف العربي ظل صلباً ومصمماً على مقاطعة كل منتجات «ديزني»، وقد شاركت دول إسلامية ودعَّمت الموقف العربي ومن بينها باكستان.
في سبتمبر/ أيلول عام 1999، طلبت شركة «ديزني» الاجتماع مع ممثلين للإمارات والمغرب وجامعة الدول العربية، وعقدت سلسلة من اللقاءات، وانتهت إلى استجابة الشركة للمطالب العربية، وأعلن د. عصمت عبد المجيد، أمين عام جامعة الدول العربية، أن «شركة ديزني» قررت حذف أي إشارة إلى القدس كعاصمة إسرائيل.
بعد نحو ربع قرن من هذا الحدث، نتساءل: كيف حال القدس المحتلة؟ وما حال معالمها وتراثها وأرضها وأهلها وتاريخها المتسامح الحضاري مع أهل الأديان والأعراق والحجيج إليها، وقداستها… إلخ؟ وما دور الثقافة العربية، ولا أقول «أهل السياسة»، في التعريف بأوضاعها الموجعة، وتعزيز الوعي بأهميتها، وتأكيد عروبتها وهُويتها ونصرتها؟
تمر القدس المحتلة اليوم بمِحن شتى، وبخاصة بعد تغوُّل الاحتلال والاستيطان، والقرار الأمريكي الأهوج باعتبار القدس عاصمة للاحتلال، وها هو يُسرّع مخططاته لتهويدها، ويطمس معالم المدينة الحضارية، ويسلب حقوق أهلها، و«يؤُسرل» التعليم، ويتجاهل الوضع القانوني للقدس في القرارات الأممية، وبخاصة أماكن العبادة، من كنائس ومساجد، وعلى رأسها المسجد الأقصى الذي يواجه هذه الأيام أوضاعاً صعبة إلى درجة الخطر.
وتجدر الإشارة إلى وجود ظاهرة سلبية في معظم المدارس والجامعات العربية، حيث تفتقر مناهج التعليم إلى مادة تاريخية شاملة عن القدس، وتؤكد الإحصائيات أن من بين ثلاثة آلاف صفحة من مادة التاريخ التي يدرسها الطالب العربي في ثلاث عشرة دولة عربية هناك ثماني صفحات عن القضية الفلسطينية قبل عام 1948، ومن أسف، فإن المادة العلمية لمساق الثقافة أو الحضارة العربية الإسلامية لا تتعرض للقدس ولتاريخها وموقعها التراثي والحضاري والروحي، ولم تحظ القدس بمساق مستقل حتى في الجامعات الفلسطينية، ما عدا جامعة القدس المفتوحة، وربما كان ذلك في مرحلة إنشاء الجامعة فقط، ومن المحتمل أيضاً أن يرد ذكر القدس في ثنايا موضوعات ومساقات أخرى، وليس كمساق أكاديمي مستقل.
والتناول الإعلامي العربي لمسألة القدس لا يقل بؤساً عن التناول الثقافي والتعليمي، ويتردّى يوماً بعد يوم، ويظل في إطار التناول الموسمي، أو عند حدوث فعل غير روتيني رغم أن القدس مدينة مليئة بالحكايات، والتاريخ والمقدسات، والحقوق والأوجاع التي تستحق التغطية الإعلامية، والبحث عميقاً في أساسيات المعرفة بها.
إن التعمية على مسألة القدس وتاريخها العابر لآلاف السنين تسمح للسردية الاستشراقية للهيمنة وللأسطورة بأن تسود في ثقافة الأجيال، وتطمس التاريخ الحقيقي لهذه المدينة.. الحضارة والحقوق والقداسة والهُوية والوضعية القانونية التي أرستها القرارات الأممية.