د. عبد الرحيم جاموس
أمد/ هنا بداية أتوقف عند كلمة تحرر التي تتصدر العنوان، والتي تتداخل مع مصطلحين هامين هما: مصطلح الحرية، ومصطلح التحرير، والبون أو الفرق بينهما واسع وشاسع من حيث، المنبت، والمصدر، والمضمون.
فمصطلح ومفهوم الحرية ينتمي إلى إطار فكري مرجعي هو: إطار الفكر الفلسفي الليبرالي الفردي الحر، ويكتسب دلالاته فيه من كونه المفهوم المركزي، الذي تتفرع منه مفاهيم الفكر الليبرالي الحر المختلفة، الذي يستند إلى الحرية الفردية.
أما مصطلح ومفهوم التحرر، فقد تَكونَ داخل مرجعية فكرية مختلفة، (اجتماعية، وطنية، قومية، طبقية، استعبادية، استعمارية، سياسية، قانونية).
لذا لا يمكن البحث عن أصول أي منها في الآخر أو لدى الآخر، لاختلاف منشأ ومنبت ومصدر كل منهما عن الآخر، وكل منهما يقترن بإشكالية خاصة في السياسة والاجتماع والقانون.
الحرية حالة موضوعية في إطار دولة القانون والمؤسسات قبل أن يكتسبها المرء، وتصبح حالة ذاتية فردية، على أساس المواطنة في وطن ودولة مستقلة.
أما مصطلح التحرر ومفهومه فهو: (فعل أو فعالية جماعية، لجماعة أو طبقة، أو شعب، أو أمة)، ذاتية واعية وإيجابية، نافعة، وهادفة إلى الوصول إلى تلك الغاية، والحالة التي يطلق عليها اسم الحرية.
فالتحرر فعالية نضالية جماعية تمارسها الجماعات، وليست فعالية فردية منفصلة عن الجماعة، ولا تكون حرية الفرد من أهدافها إلا بقدر ما تمثله، كجزء من حرية مجموعة، كطبقة أو كشعب، أو كأمة، لذا نقول غن مجال الحرية الفردية، يكمن في احترام حقوق الإنسان السياسية داخل دولة مستقلة، تحددها له علاقة المواطنة، بين الفرد المواطن ودولته.
أما عملية التحرر الذاتي فإنها تتولد من الوعي الجمعي بالحاجة إلى تحقيق وإنجاز الحرية للجماعة، سواء كانت طبقة أو شعباً أو أمة مضطهدة، أو مستعبدة، أو مستعمرة، أي خاضعة لاحتلال أجنبي كما هي الحالة القائمة في فلسطين.
لذا ينبغي التمييز بين المصطلحين لعدم تطابقهما، فالتحرير يقع على موضوع (أرض، وطن، شعب، سيادة، تقرير مصير، واستقلال ناجز)، أما التحرر فهو الفعل الذي قد ينتهي إلى تحرير الوطن والشعب أو الأمة أو الجماعة، وقد يقع فعل التحرر دون أن يكون القائمون عليه ينعمون بالاستقلال التام، تماماً مثل الحالة النضالية المستمرة والمتواصلة للشعب الفلسطيني.
في سياق مقالتنا هذه نستذكر ما قاله كلاوس فيتز في الإستراتيجية، أن هدف المتحاربين في أي حرب هو: فرض إرادة كل منهما على الآخر، وهنا في حالة الصراع العربي الفلسطيني مع الكيان الصهيوني، يسعى الكيان الصهيوني إلى فرض إرادته ورؤيته على الشعب الفلسطيني، وعلى العرب والعالم أجمع، من خلال تشبثه باحتلاله ورفضه الانصياع إلى قواعد القانون الدولي ورفض الالتزام بتنفيذ قرارات الشرعية الدولية، لكن إرادة التحرر والنضال والكفاح، المختلف الوسائل والأساليب التي مارسها، أو ابتدعها الشعب الفلسطيني، ودعم الأشقاء والأصدقاء لنضال الشعب الفلسطيني، ولحقوقه غير القابلة للتصرف، قد حال كل ذلك دون أن يتمكن الكيان الصهيوني من فرض رؤيته وإرادته لا على الفلسطينيين، ولا على المجتمع الدولي الذي لازال يؤكد في قراراته المختلفة الصادرة عنه سنوياً، على الحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه، من حق العودة وتقرير المصير إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
إن فعالية التحرر الذاتي للفلسطينيين، تستوجب توحيد الوعي الجمعي بضرورة الاستمرار في عملية التحرر والكفاح الطويل المدى، من أجل إنجازها ونيل الحرية والاستقلال، هذه الغاية وهذا الهدف الوطني السامي والنبيل والجامع، يحتاج إلى روافع اجتماعية وسياسة وقانونية، على أساس وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة قواه الاجتماعية والسياسية المختلفة، التي تمثل أدوات التحرر الذاتي الوطني، من وحدة برامجه النضالية، واستقلال قراره الوطني، ورفض تبرير التبعية لأيٍّ كان من قوى ومحاور خارجية، دولانية أو حزبية، لما تمثل من اختراقات خطيرة، تضعف من وحدة الشعب الفلسطيني، وتضعف أدواته النضالية والكفاحية، سواء كانت سلمية سياسية أو قانونية وشعبية، أو أي أدوات أخرى بما فيها المقاومة العسكرية أو المسلحة، وتفتح المجال واسعاً أمام العدو والقوى المختلفة للّعب على تلك الاختلافات، واستغلالها بما يضعف ويقلل من تأثير وتيرة الكفاح الوطني.
إن إعادة تشكيل الوعي الجمعي للشعب الفلسطيني حول الهدف الرئيس، وحول الوسائل الكفاحية، شرط أساسي من شروط تحقيق وإنجاز عملية التحرر الوطني الذاتي للفلسطينيين، فلا يمكن مواجهة ووقف الاستيطان، وإزالة وإنهاء الاحتلال، وتحقيق إنجاز حق العودة للفلسطينيين، وممارسة حق تقرير المصير، وفرض إرادة ورؤية الشعب الفلسطيني على الكيان الصهيوني، لإنهاء الصراع في ظل ارتهان فعل التحرر المقاومة، لهذه الجهة أو تلك، وفي ظل استمرار انقسام وانقلاب سياسي وجغرافي آخذ في التعمق والتكريس، وفصل أجزاء الوطن بعضها عن بعض، لابد من تكريس وعي جمعي فلسطيني، مضاد لحالة الشرذمة والانقسام والانفصال والفصل، بين أجزاء الوطن الفلسطيني، وبين مكونات الشعب الفلسطيني الاجتماعية والسياسية والجهوية، خاصة وأن العدو الصهيوني يحظى بدعم كبير من دول كبرى، ذات إمكانيات ونفوذ كبير، توفر له الدعم المادي والسياسي والقانوني والمعنوي، كما يمتلك آلة عسكرية كبيرة، يستخدمها بالبطش دون هوادة أو روادع تردعه ضد الشعب الفلسطيني.
علينا كأكاديميين أن نبذل قصارى جهدنا، أن نبذل جهداً كبيراً من أجل توحيد الوعي الجمعي الفلسطيني، وتوحيد قواه الاجتماعية، والفصائلية، والمدنية، والسياسية، والمقاوماتية، والثقافية، والقانونية، وقواه الشعبية السلمية، وقواه المسلحة، والعمل على إنجاز وحدة القيادة والمؤسسة والبرامج، في أسرع وقت ممكن، حتى تؤتي عملية التحرر الذاتي مفاعيلها، وأكلها ونتائجها، المرغوبة في إنجاز عملية التحرر الوطني، والاستقلال، وتحقيق حق العودة والمساواة، وتقرير المصير، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة السيدة، التي سيتمتع فيها المواطن بحقوقه الإنسانية والسياسية الكاملة، بما تفرضه له حقوق المواطنة، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المعتقد.
تنبع أهمية الوحدة الوطنية والاجتماعية، والكفاحية للشعب الفلسطيني، من طبيعة التناقض القائم مع الكيان الصهيوني، المتفرد بسياسات الاحتلال، والاستيطان، والتوسع والإحلال، والفصل العنصري، هذه الطبيعة العدوانية لهذا العدو الصهيوني، تحول دون التوصل إلى أي حلول وسط معه، كما تحول دون هزيمته من الخارج، ما يؤكد على أهمية عملية التحرر الذاتي للفلسطينيين منه، من الداخل الفلسطيني أولاً، وانتزاع حقوقهم المشروعة منه، وفرض إرادتهم ورؤيتهم السياسية والقانونية عليه، فهزيمة الكيان الصهيوني، لا يمكن أن تتم إلا من شروط وظروف الداخل الوطني والسكاني الفلسطيني، وأما العوامل الخارجية فهي مهمة، ولكنها لا تعدو أن تكون مجرد عوامل ضاغطة ومساعدة للعوامل الداخلية المختلفة، ومنها عوامل الإنهاك والنضال والكفاح الفلسطيني الموحد بالوسائل والأساليب المختلفة.
أختم بالقول إن الحرية من غير تحرر وطني ومجتمعي، تبقى مشروعاً إنسانياً منقوصاً، ولا تتحقق الأولى أي الحرية، إلا بالثانية أي التحرير.