حميد قرمان
أمد/ اجتمع البعث برئيسه وحاشيته المركزية قبل أيام في دمشق، عاصمة تأسيس الحزب وانطلاقته، اجتماع لم يكترث له أحد إلا من جمعتهم القاعة ليستمعوا لخطاب أمينهم العام الذي أعيد انتخابه بالإجماع في نهج استمر عليه الحزب وأيديولوجيته القائمة على تفريخ وصناعة وإدامة نماذج من الدكتاتورية، التي حكمت بغداد بقبضة من حديد ونار، ومازالت تحكم دمشق بالقبضة ذاتها.
منذ تأسيسه سعى البعث للوصول إلى السلطة عبر عسكر الجيش وضباطه، كقوة قادرة على فرض أفكاره وتسويق نهجه، وضامنة لاستمراريته، مستحضرا نموذج انقلاب عبدالناصر وتنظيمه “الضباط الأحرار” في مصر، النموذج الذي مثل للحزب بيئة خصبة لنمو شعبيته، وبمراجعة تاريخية لمسار فكر البعث ومد القومية في الوطن العربي، وما تلاه من إرهاصات تآمر وصول الحزب بفرعيه العراقي والسوري إلى الحكم، نلمس مدى وحجم العنف والقمع والاستبداد كأدوات ساهمت بشكل سريع في اعتلاء الحزب سدة الحكم في البلدين.
أدوات الحزب قبل وصوله إلى الحكم لم تختلف كثيرا عن أدوات تثبيت أركانه في الحكم، بل ساهمت في دخول الحزب في متاهة الجمود الفكري ورتابة معتقداته ومبادئه؛ فلم يعد الحزب قادرا على إنتاج وتطوير أفكاره بما يتناسب مع التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة، خاصة بعد قصور مؤسسه ميشيل عفلق عن تحويل أيديولوجية الحزب من أفكار وعناوين فضفاضة إلى إستراتيجيات معمقة قادرة على فرض آليات تحقق مقومات الدولة الحديثة في كل من العراق وسوريا، فأصبحت الدولة البوليسية رويدا رويدا هي السائدة باسم القومية، دولة قائمة على حكم الفرد المستبد، تهتز أمام كل حركة احتجاجية شعبية لا تستطيع احتواءها.
النظريات الثورية ومنطلقاتها التي تبناها الحزب اصطدمت بواقع خلافات العسكر، واستنزفت بسطوتهم على الحياة السياسية وشهوتهم للسلطة، فلم يتسن للبعث إعداد القيادات للخروج من أزماته، لكونه أصبح يفتقر إلى نوعية القيادات المستمدة من طبقات مختلفة داخل المجتمع، التي وإن تسلل بعضها من خارج البوتقة الأمنية إلى المشهد السياسي العام تبقى رهينة لقيود السيطرة البوليسية وأجهزتها في الدولة.
انحدر البعث وتقزم فكره ليلائم مقاس الأنظمة القمعية -صدام حسين وحافظ الأسد وابنه من بعده الذي سار على نموذج والده القمعي أمام حقوق الشعب العادلة للحفاظ على حكمه وبقايا حزبه واصطفافه الإقليمي والدولي- فكان سيرك البعث الأخير، حيث قدم أمينه العام خطابا هزليا بلغة ركيكة ونظريات مستهلكة وتنظير شعارات بالية لا تتناسب مع قضايا المرحلة الراهنة، خطابا لا يليق بتاريخ وعراقة وثقافة العاصمة التي يتصارعون بدموية مع شعبها.
بعد عقود من تأسيسه لم تبق للبعث بسياساته وساسته دول ليحكمها، فالعراق انتهى باحتلال أميركي أقام حكما طائفيا يُسيره نفوذ إيراني، أما سوريا فلم يبق احتلال إلا وانتهك سيادتها وأرضها؛ فالوجود الأميركي والروسي والتركي والإيراني وحتى الإسرائيلي الذي يقصفها ليل نهار، جعل من بشار الأسد وبعثه أشبه برئيس ميليشيا إيرانية مثله مثل باقي ميليشيات المحور الإيراني.
أما بقايا جيوب البعث المبعثرة في بعض الدول العربية فبقيت لتمارس بيانات الندب والنواح على قومية لن تتحقق في ظل رسوخ مفاهيم ونظريات الدولة الوطنية في المنطقة.