أمد/
إنّ النصّ الشعري متوزعٌ بين جدليات مختلفة، ومن أبرز هذه الجدليات، جدلية الغياب والحضور، وأعني بهما، غياب الشاعر حال قراءة عمله الأدبي، وحضور الكتابة/ القصيدة نيابة عن شاعرها، ويتنازع القصيدة سلطتان: سلطة المعنى الغائب في ضمير الشاعر، وسلطة القارئ الذي يحاول التنقيب عن هذا المعنى من خلال فعل القراءة وممارستها. واللغة الشعرية التي تقنّع بها الشاعر – من ناحية أخرى – تمارس فعل التغييب بقوة الشاعرية، ولكنها من خلال فعل التأويل – الناتج عن القراءة – تفتح نافذة للقارئ يطل من خلالها على عالم القصيدة، ومن ثم تومض له المعاني من بعيد؛ فتتقافز شفرات النص على سُلَّم التأويل. ” إنّ التأويل يعني أن يبقى النص متحصّناً مهما حاولنا استفزازه لينكشف لنا معناه القصدي، أو لينكشف لنا سره. وهذا التحصّن يفرز تأويلات غير متناهية؛ فلا سبيل إلى القبض على المعنى بالفعل، وكل ما يقوم به المرء في سبيل ذلك، ليس سوى محاولة للإمساك بما يشبه السراب، أو محاولة للتعبير عن رؤيا، وفي الأحوال كلها، لا يمكننا الجزم بأنّ ما عبّرنا عنه هو القصدية، لأنّ هذه القصدية ستبقى هرمسية أو متّصلة بالغيب حيث نعجز نحن عن الوصول إليه مهما بلغت درجة تحرّينا أو توسعنا في التأويل.
ولكنَّ القارئ يظل يمارس سلطته على النص محاولاً استبطان معانيه بغية أن يتكشّف له موضوع القصيدة” إنّ السلطة التي أعطيت للقارئ، بصفة عامة، جعلت القراءات للنص الواحد متعددة، كلما انتقل إلى قرّاء آخرين. لقد بقي النص بنية لغوية متشابكة، ولكن المعوّل عليه، هو القدرة الخلّاقة على فضح أسرار النص الداخلية، والقدرة على شبك النص بالنص الغائب، أو استدعاء المتصوّر الذهني المتمثّل في مرجعيات النص أثناء القراءة.” ولكنّ اللغة الشعرية المتعالية تحاول أن تخفي موضوع النص في رحمها مغيِّبةً إيَّاه، ولا تسمح للقارئ أن يكتشف موضوعها إلا بعد معاناة ممارسة القراءة الشعرية، وبعد تلك المعاناة لا يتكشّف موضوع القصيدة إلا بقدر ما تسمح به اللغة الشعرية، وهكذا يظل النص الشعري منشطراً بين سلطتي الإبداع والتأويل، إذ لا تستسلم اللغة الشعرية لسلطة القراءة، ومن ناحية أخرى، يحاول القارئ فرض هيمنته على النص ” وبهذا الفعل، يمارس القارئ إنتاج نص على نص؛ أي أنّ القارئ بات شريكا حقيقيّاً للشاعر أو الكاتب في عملية الإبداع. وكلما اتسعت ثقافة القارئ، وموهبته الذاتية في التعامل مع النص، تحققت تلك الشراكة بمستوى أقوى. ولا يخفى أنّ سلطة القارئ ليست بريئة، بمعنى أنها تقرأ النص محكومة بمنطلقات مختلفة؛ فقد تكون بنيوية، أو سوسيولوجية، أو غيرهما، ولكنها على الرغم من ذلك لا تلغي تلك الشراكة بل تقويها.” إذن، النص الشعري – ومما لا شك فيه- واقع تحت وطأة هيمنة المبدع الذي يحاول إخفاءَ موضوعه في لغته الشعرية المتعالية وبين سلطة القارئ الذي يحاول فك طلاسم النص بغية القبض على قصدية المبدع، ومن هنا ينفتح النص الشعري على التأويل وتتعدد قراءاته ” فالنص ظاهرة فنيّة تظلُّ أغنى من عشرات التفسيرات وتظل متعددة المعاني، لا تمنح نفسها لتأويل واحد يمكن اختزاله بقانون رياضي ناجز، إنها إذن استعارة كبرى يكتنفها غموض سحري لا يمكن أن نلج عوالمها إلا من خلال اللغة.” تلك الأخيرة التي تمنح المبدع حق الهيمنة على النص، وتسمح للقارئ بممارسة سلطته بغية الوصول إلى مآربه.
ومن حيث اللغة الشعرية وتنويعاتها يتجلى النص الشعري في ثلاث مستويات من التمثيل: الأول، تلك اللغة البسيطة التي تسمح بظهور موضوع النص وقصدية الذات دون جهد جهيد من القارئ، والثاني، عندما تميل اللغة إلى الرمزية – غير المفرطة – والتي تسمح بظهور موضوعها بعد عناء وجهد يتطلبه النص الشعري من القارئ. الثالث، وهو المستوى الأعلى في الكتابة الشعرية، وفيه تنماز اللغة الشعرية بالتعالي، وتميل في تمثيلاتها إلى الإغراق الرمزي، والجنوح ناحية التخييل، وفي مثل هذه النصوص الشعرية تكون الغلبة فيها لذات المبدع، إذ يظل موضوع النص مغيَّبا في لغته التي تستعصي على التأويل، وتتأبّى على القارئ حتى لا يتمكن من فض بكارة النص. ويمثل النوع الثالث من مستويات التمثيل – وهو الأعلى – ديوان ” من أحوالها” للشاعر محمد عبدالستار الدش، هذا الديوان بداية من عنوانه – من أحوالها- حتى آخر جملة شعرية فيه، لا تستطيع القراءة القبض على موضوع الديوان، ولا تتكشّف للقارئ قصدية المبدع؛ نظرا لجلال اللغة الشعرية التي ينماز بها هذا الديوان.
بداية من العنوان يحاول الشاعر أن يطمر ويضمر موضوعه خلف قناع اللغة الشعرية، وقد تبدّى هذا الأمر، حينما غيّبَ الشاعر موضوعه في الضمير/ الهاء هذا الضمير الذي يعود على اللاشيء، إذ العنوان بكليّته خرج من إطار التركيب اللغوي التام إلى جملة شعرية تختزل مضمون الديوان كله في هاء ” من أحوالها” إذ انتصف المبدع لشعرية العنوان على حساب التركيب اللغوي، وكثيرا ما يفعل هذا ثلة من الشعراء النابهين، الذين يجعلون من عنوان الديوان جملة شعرية تتجافي عن التركيب اللغوي، إذ بتمامه – أحيانا – ينكشف موضوع الديوان منذ الوهلة الأولى، وانكشاف موضوع النص منذ البداية أمر يتحاشاه الشاعر النابه.
إنّ عنوان الديوان ” من أحوالها” يشتغل على الوظيفة الشعرية المحضة، ولم يؤد مهمته بالنسبة للقارئ، هذا الأخير الذي يتوخّى في العنوان بابا يلج من خلاله إلى العالم النصي، وعلى عكس ما يتوقع القارئ انخرط عنوان الديوان في الوظيفة الجمالية متماهيا معها. وهذا يجبر القارئ على الولوج إلى النص دون الاستعانة بالعنوان، ومن هنا أصبح منوطا بالقارئ أن يحلل نصين: متن الديوان، وعنوانه، وهذا ما يضطره أن يقرأ قراءة ارتدادية، بمعنى أنه – أي القارئ- عندما ينتهي من قراءة النص يعود مرتداً ليفكك شفرة العنوان بعد أن يستبطن معاني النص وخوافيه. أو تتفكك شفرة العنوان تلقائيا حال قراءة المتن النصي فيستضيء بها القارئ، ويعلم أن كل قصيدة في الديوان تمثل حالاً من أحوالها.
حددت القراءة ثلاث عتبات نصية وأخضعتها للدراسة والتأويل، وهي، العنوان، والجملة البدئية، وجملة الختام، اهتمت الدراسات السيميائية على اختلاف مدارسها وتوجهاتها في الآونة الأخيرة اهتماما ملحوظا بالعتبات النصية، لما لها من مقدرة على توجيه المقروئية وتحديد آلياتها (في معظم الأحيان) ومن العتبات الفارقة في ديوان ” من أحوالها للشاعر محمد عبدالستار الدش العنوان وجملتي البدء والختام.
” تمثل الجمل البدئية مفاتيح سيميائية في النص لا تقل أهميّةً عن بقية العتبات النصية والتي تسهّل عملية تلقيه، وقد تسهم في تفكيك شفراته، وتحديد أشكال معناه، ومن ثم اكتشاف بنيته ومضامينه السيميائية التي ينبني عليها، وتبدأ منذ أول نقطة مفضية إلى التخييل وتنتهي عند أول تحول وانتقال من وضعية إلى أخرى إن دلاليا أو تركيبيا.” وهذا يعني أن وظيفة الجمل البدئية تنتهي بمجرد القبض على أيَّة دلالة تفتح باب الدخول على النص ” ومن وظائف الجملة البدئية أنها تقدّم فكرة مصغّرة عن النص/ أو تختزل مضامينه وتثير فكر القارئ تمهيدا لإدخاله في عملية قراءة النص، وتقدم رؤية كليّة عن النص، وجملة من الترقبات والتوقعات لما سيأتي من بنى نصية درامية تجسّد النص.” والجملة البدئية التي اختارتها القراءة هي جملة ” الإهداء” والتي يقول فيها الشاعر:
إليها
في كل هيئة تظهر بها؛ فتبهج القلب أو توجعه.
إليها
حيثما تكون في دمي.
تلك الجمل المتتالية في تركيبها واختلاف تشكلها تمثل جملةً واحدة شعرية، يتمظهر من خلالها إهداء الديوان، والمهدى إليه غائب في الهاء (إليها) كما غيب من قبل موضوع الديوان في هاء الغياب (من أحوالها) ومرجع الضمير في العنوان وجملة الإهداء يعود على اللاشيء، إذ لا يتضح من هاء الغياب إلا الأنثى التي تمثل كل قصيدة من الديوان حالا من أحوالها، وإلى تلك الأنثى المغيبة في الهاء يهدي الشاعر ديوانه، لا يعرف القارئ عن تلك الأنثى إلا أنها تتشكل في أشكال مختلفة، حيث يقول: [ في كل هيئة تظهر بها] وأنّها مصدر للبهجة والوجع، فتلك الأنثى يتبدّل حالها وتختلف هيئتها، وكلما ابتعدت وحيثما كانت هي في الدماء باقية، ومفردة الدماء تدل على مدى الاتصال الروحي بين الشاعر وأنثاه التي لا نعرف ماهيتها، ولعلنا من خلال مطالعة جملة الإهداء تتبدّى لنا علاقة العشق التي تجمع بين الشاعر ومحبوبته التي مازالت تتقنع خلف اللغة. وكما أضمر وأخفى الشاعر موضوع نصه في العنوان الشعري، ستر محبوبته عن القارئ في هاء الغياب وأضمرها. ” إذا كانت الجملة البدئية عادة تقوم بوظيفة رئيسية هي اختزال النص، وتقديمه بشكل مكثّف وتعمل على إغراء القارئ بتفكيك المتن بحثا عن مضمرات الجملة البدئية، ومضمرات النص التي اختزلتها هذه الجملة، ومن ثم تأسيس القارئ كفاعل في برنامج الاتصال فينخرط في عملية القراءة بسبب فاعلية الجملة البدئية، فإنّ الجملة الختامية تقدم ما يشبه الإجابات التي تضمرها الجملة الافتتاحية، وتتحدد بأول لحظة ينتهي فيها الصراع والتأزم، ويتم الانتقال فيها إلى ما يشبه وضعية الاستقرار، أو ما يوحي بالاستقرار، ويشي بأن ما سيأتي هو خاتمة أو تلخيص واختزال لما سبق منذ الجملة البدئية حتى آخر فقرات النص، حيث الاستقرار النهائي نصيّاً على الأقل، وتقوم بوظيفة رئيسية تتمثّل في اختزال ما فُصِّل في النص، إنه اختزال مختلف عن الاختزال الذي تقوم به الجملة الافتتاحية، فالأولى تجمل قبل التفصيل، والثانية تختزل النص بعد معرفته ومكاشفته.” والجملة الختامية التي اصطفاها الشاعر محمد عبدالستار الدش، والتي رأى أنها قادرة على اختزال الديوان بالكلية، تلك الجمل الشعرية المتدفقة التي احتلت خلفية الغلاف والتي يقول فيها:
أخذت يدي
وأنا لها
أنّى تسير فلا أرى
إلا هوىً
صارت به مفتونةً
وشذى الغناء
يفوح منها بلسماً
للروح
يفصلني عن الضوضاء
من حولي
فأسبح
في فضاء سمائها.
عن قصد يمارس الشاعر فرض هيمنته على النص ومتلقيه، ويحلق باللغة بعيدا في عالم التخييل، فيغيب موضوع الديوان ولا يتجلى منه إلا وميض الأنثى التي يتعمد الشاعر إخفاءها خلف النقاب الشعري، وبعد تجريب العتبات النصية الثلاث على سلم التأويل، لم يستطع القارئ أن يستشف ماهية الموضوع، ولا انكشفت له قصدية الشاعر، وهذا – كما ألمحت سابقا – نوع من التمثيل الشعري المتعالي، وتجدر بنا الإشارة إلى أنّ الشاعر محمد عبدالستار الدش لم يغرق ديوانه في الرمزية المفرطة ولم يدخل به عوالم التخييل المتطرف، إذ كانت لغة الديوان من أوله إلى آخره تسبح في نهر الشعرية الناعم المفعم بالدلالات دون إغراق ولا استغراق، ولكن الشاعر بحرفية واقتدار وعبر أسلوبيته اللغوية استطاع أن يصنع من تلك اللغة عالما شعريا متساميا، وهذا السمو الأسلوبي لم يضطر الشاعر كغيره أن ينفلت من دائرة الوعي مغيبا نصه في عالمي التهويم والغموض، حيث ترك الشاعر للقارئ مساحة يمارس فيها سلطته محاولا البحث عن موضوع النص وقصدية الشاعر، فانفتح النص على التأويل” إذ النص الإبداعي مشحون بكثافة إيحائية لا يمكن حصر تعدد أبعادها واختزالها في بعد واحد، ومن ثمّ الزج بها في نسق منغلق على ذاته، قد يفقد النص انفتاحه الدلالي ويفرّغه من شحنته الإيجابية، ويجرّده من كثافته الترميزية فيأتي عارياً كجدران القبر خاليا من حرارة الدفء والتوهج.
انفتاح النص وتعددية الدلالة:
ديوان ” من أحوالها ” للشاعر محمد عبدالستار الدش يتجلى فيه الموضوع النصي في صورة الأنثى، بداية من العنوان حتى آخر جملة شعرية فيه، ولكنها ليست الأنثى أو المرأة المعشوقة على وجه التحقيق، إذ الموضوع النصي الغائب -والذي ينقّب عنه القارئ – يرتدي ثوب المعشوقة الأنثى، وتلك الأنثى بدلالاتها تفتح النص بكليته على متاهة التأويل، إذ تقوم الأنثى بدور المرآة التي تنعكس عليها ذات الشاعر، ولا تتجلى هذه الذات إلا من خلال اللغة الشعرية، وباستقراء هذه اللغة على المرآة/ الأنثى يحاول القارئ القبض على موضوع الديوان، فهل ثمة تناسب بين موضوع الديوان وتجليات الأنثى؟ أم أنه التشكيل اللغوي المنخرط في الشعرية دون قصد ووعي من الشاعر؟
مما لا مراء فيه أنّ اللغة الشعرية تتشكل من الوعي واللاوعي في آنٍ واحد، ويمكننا أن نقول إنّ اللاوعي لا يتناقض مع العقل، إنّ العقل يتناقض مع اللاعقل. فاللاوعي لا يعني الهلوسة أو الجنون، وإنما هو موضع لمخزون معرفي أو عاطفي أو تجاربي لا يكون العقل على علم به في الحالات العادية، وهذا المخزون المنسحب، لا يتناقض مع العقل، بل هو عقلي أيضا. فاللاوعي في تعريفه العلمي، هو مجمل المحتويات غير الحاضرة في المجال الواعي الراهن. ولذا يقول (البياتي): إنّ بعض القصائد التي أكتبها لاتضيف إلى معلوماتي عن نفسي شيئا جديدا، والبعض الآخر يمنحني معرفة جديدة بنفسي لم أكن أملكها من قبل. وإني أستغرب أحيانا كيف أنّ هذه العوالم كانت مخبوءة داخل نفسي وخرجت إلى الضوء، وأكتشف أحيانا ملامح كلمات سمعتها في الطفولة، أو أشكال حلم حلمته قبل عشرين عاما. نعم إنّ أحلاما قديمة تدخل غالبا جسد قصيدتي الجديدة… ويواصل (البياتي) حديثه فيقول : ” أحيانا حينما أكتب قصيدة ثم أقرأها أرتجف، وأحس أنّ هناك صورا جاءت من الذاكرة الجمعية، وهي صور لم أعشها، ولكنها انتقلت من خلال الوراثة أو الذاكرة الجمعية، وهي ليست ذاكرة الحاضر فقط، بل وذاكرة الماضي أيضا، وليست ذاكرة فرد بل ذاكرة الجماعة، وهذا يعني أنّ اللاوعي وسيلة معرفية مادام يوفّر للشاعر معرفة إضافية بذاته أو بغيره.
يتشكّل ديوان ” من أحوالها” للشاعر محمد عبدالستار الدش من سبع وعشرين قصيدة تدور كلها في فلك الأنثى المعشوقة التي لا ندري كنهها ولا نعرف شيئا عن ماهيتها. ويتصدر الديوان قصيدته الأولى ” تشكّل” والتي يقول فيها:
هي ذي تحبك
هل وعيت حوارَها؟
في لمعة العينين
والكلمات
والصوتِ المشبّع بالندى؟
في لفتة الوجه الخجول
وبسمة الصبح الحنون
وما بدا من قولها
عن تضحيات العاشقين
وحالهم؟
في نسجها
لقصيدة الشمس الزكية
حين ترسل روحها
للكائنات بلحنها
تصحو
تشبّح
تبتغي
باب القبول
وبعده باب الرضى؟
…
ونراها في أبهى التشكّل
ترتدي
من كل زهر حولها
وجميع رفقتها
الطيور الفاتنات تزفها
من موضع للحالمين
لموضع للعاشقين
لموضع للطالبين
ولا جواب سوى إشارات الأصابع
تخطف الأبصار فتنتُها
وتمضي لا ترى إلاك
في كل اتجاه
هي ذي تحبك
هل وعيت منامها؟
في سردها العفوي
ملفوفا بعطرٍ
عُتّقَت أزهاره
منذ ارتويت بصدرها زمناً
وأنت تخطّ أولى معزوفاتك
في الحياة.”
يحاول القارئ في القصيدة الأولى الموسومة بــ ” تشكّل” أن يتعرّف على تلك الأنثى مجرّبا كشف النقاب عنها. تتشكّل القصيدة في صورة ” مونولوج” داخلي يطرح فيه الشاعر السؤال ويستطرد في تفاصيله فتتجلّى الأنثى داخل القصيدة في صور شتّى فتارة تبدو الأنثى هي القصيدة، وتارة أخرى تبدو ويكأنها الوطن، وأحيانا أخرى كأم ارتوى الشاعر من صدرها زمنا، فتنفتح القصيدة وتتعدد دلالاتها، ولكل دلالة ما يؤكدها في النص، فربما تكون الأنثى هي الأنثى، وربما تكون وطنا أو أمَّاً أو قصيدة، فكلما حاول القارئ أن يتوقف عند دلالة بعينها، تأبى القصيدة الوقوف عند تلك الدلالة، وهذا الانفتاح والذي ينماز به ديوان ” من أحوالها ” للشاعر محمد عبدالستار الدش ليس سببه الميل إلى الغموض المتعمد، ولا الرغبة الملّحة من الشاعر في الجنوح إلى التخييل واللعب بالكلمات، ولكن السبب المباشر في هذا الانفتاح، هو التوظيف الشعري للغة، تلك اللغة البسيطة في مفرداتها والعميقة من حيث تركيبها الشعري، وهذا العمق يمنح القارئ بدائل متعددة، ويظل الصراع قائما بين هيمنة المبدع وسلطة القارئ، فالمبدع يُحجّب موضوعه النصي باللغة الشعرية المتعالية، والقارئ على امتداد الديوان يحاول فض بكارة الموضوع المتخافي، وهذا الصراع ينتج نصوصا متعددة من قِبَل القرّاء بوصف القارئ مشاركا ومنتجا للنص هو الآخر” إنّ المحلل ينتج نصّاً جديدا هو النص الواصف عبر عمليات التحليل وترتيباته التي أجراها على النص الأصلي موضوع التحليل. لكن هذا النص الواصف هو في الحقيقة حسب – بارت – النص الأصلي نفسه وقد تشظّى وانبذرت معانيه وتفاعلت أنساقه وتجلّت إيحاءاته وتشكّلت صورة حركته الداخلية إنه النص الأصلي وقد تحرر من قماطه وقيوده.” فالقراءة الشعرية هي إنتاج نص على نص، فنص القارئ به يكتمل المعنى وتتبلور الفكرة.
إنّ القصيدة الجادة لا تمنحك موضوعها، ولا تكشف ستارها، فهي كالأنثى اللعوب تغريك بالمعنى، وسرعان ما يتلاشى في حضرة التأويل اللامتناهي، وهنا تكمن الشعرية التي يتغياها القارئ، وأرى أنّ ديوان ” من أحوالها” للشاعر محمد عبدالستار الدش مثالا حيا على الشعرية الجادة، التي لا تسلم نفسها للقارئ بسهولة إلا بعد معاناة وقراءة واعية، وليتها بعد هذا العناء ينكشف سرها، بل يظل ديوان ” من أحوالها ” بكرا غضا كلما قرأته يعطيك معنى جديدا ” فالأشكال الشعرية أو اللغة الجديدة التي تتزيّا بها القصيدة، وكل جديد تكتنز به القصيدة لا يكون في البداية هدفا من أهداف الشاعر بل إنه يولد من خلال المعاناة والتعبير عن التجربة الشعرية.” فعلى امتداد الديوان لا يستطيع القارئ أن يقف عند حدود دلالة بعينها، وهنا تكمن متعة القراءة الشعرية، فالقارئ منذ البداية يعلم أنه يطالع نصا شعريا يحتاج إلى كثير من التأويل، فيحاول أن يستنزل شهد المعنى من رحيق الكلمات.
ابتدر الشاعر ديوانه -كما ذكرت آنفا – بقصيدة ” تشكّل” وبعد مطالعة هذه القصيدة ومحاولة تأويلها، ظللت أبحث عن صويحبات هذه القصيدة الأم في الديوان – حتى وإن كان الديوان كله لحمةً واحدة – فاكتشفت قصيدتين تنتميان إلى قصيدة ” تشكّل” وهما: قصيدة ” تأسيس”، وقصيدة ” خلود”. ومن خلال مطالعة العناوين الثلاثة رأيت القصيدة الأولى ” تشكّل ” البذرة الأولى التي بذرها الشاعر محمد عبدالستار الدش في أرض الديوان، وشبهتها بالبذرة لأنّ جُلَّ قصائد الديوان تنتمي إليها، فكأنها كانت الفسيلة الأولى التي استحالت نخلةً متعالية وقصائد الديوان تَمْرُها الحلو. وبعد هذه البذرة وتشكّلها تأتي قصيدة تأسيس والتي يقول فيها الشاعر:
فقالت: اتركهم قليلاً
يظهروا ما يضمرون
على بساط الشمس
واسكب فوقهم
ماء المحبّة
واستمع للحالمين
ورتّل الأوراد
من عهد الولادة
في الحياة لعهدنا
في حضرة الضوء المطلّ
على حقولي من غدٍ
نعدوا إليه
محمّلين بأغنيات
لا ترى
غير التوهج في القلوب
وهاتهم
لحديقة الحب الكبيرة
ملتقى كل الوجوه
الشاخصات لنورها الأسمى
تطلّ على الجميع
نسائم الشمل الجميل
تلفّهم بحريرها
وتقول رقيتَها عليهم
في خشوع.”
يفصل بين قصيدة ” تشكّل” وقصيدة ” تأسيس” اثنتا عشرة قصيدة، وتمثل هذه القصائد الفاصلة مراحل التكوين، واكتمال التشكّل، ومنطقيا أن تأتي قصيدة ” تأسيس” بعد هذا الاكتمال، ومن خلالها يصدح الشاعر بحبه علانية لمعشوقته، ولكنه يصارحها أنّ ثمة أناسا لا يعرفون حقيقتها ويجهلون قدرها، بل ربما يضمرون في أنفسهم ما لا يتناسب مع عظم وقدر معشوقة الشاعر، وأصبح منوطا بالشاعر أن يدعو الجميع (لحديقة الحب الكبيرة) ثم تطل عليهم معشوقة الشاعر( وتقول رقيتَها عليهم في خشوع). وهنا يضيّق الشاعر المسافة بينه وبين القارئ ليتعرّف على معشوقته التي تبدو أنها مصر الوطن، والتي يدعو الشاعر الجميع لحبها وعشقها والفناء من أجلها.
تتوقف حركة التأويل وتتخذ مسارا مغايرا بعد أن انكشفت حقيقة أنثى الشاعر، إنها الوطن. وتأتي قصيدة ” خلود” والتي يرثي فيها الشاعر ” ميّادة أشرف” التي استشهدت في أحداث (عين شمس) في تلك الفترة التي كنا نحاول فيها أن ننتزع مصر الجبيبة من يد الإخوان المسلمين، الذين كانوا يضمرون الشر لمصر وأهلها، إذ أن مرجعيتهم لا تعترف بقداسة الوطن ولا بفكرة الانتماء إليه. جاءت قصيدة خلود في نهاية الديوان كمؤول نهائي تتوقف عنده حركة التأويل، إذ تعرّف القارئ على المعشوقة الوطن، وعلم أنّ كل قصيدة من قصائد الديوان تمثل حالا من أحوالها، ولذا كان عنوان الديوان ” من أحوالها” فالمعشوقة من وجهة نظر القارئ هي الوطن، وربما تكون المعشوقة شيئا آخرا يتوصل إليه قارئ آخر.
إنّ القارئ للنص الشعري لا يتوقف عند حدود موضوع النص، ولكنه يفتش عنه الجمال المنبعث في اللغة الشعرية، وعن معايير الجودة للنص الشعري. وبالنسبة لديوان “من أحوالها” تمثلت فيه كثير من معايير الجودة التي ينقب عنها القارئ في كل نص شعري، ومن أهم هذه المعايير: ” المتعة الأدبية أو التلذذ بما هو عزيز على النفس البشرية، ولا شك أن هذا المعيار يشكّل القاسم المشترك الأعظم بين النظريات الشعرية التي وصلتنا من التراث العربي أو من النقد الغربي. فابن رشيق يقول في كتاب (العمدة): ” إنما الشعر ما أطرب وهزّ النفوس وحرّك الأطباع”. ويقول المبرد في القصائد العظيمة أنها تلك التي ” ترتاح لها القلوب وتجذل بها النفوس وتصغي إليها الأسماع وتشحذ بها الأذهان” أما ( ت. س. إليوت) فيقول : ” إنّ أولى وظائفه التي نستطيع أن نكون على يقين منها، هي أنّ الشعر يمنح اللغة المتعة” وهي الوظيفة التي يسميها الناقد البنيوي رولان بارت (لذة النص). ويضيف الناقد يوسف اليوسف ” أنّ النص لا يمكن له أن يمتعك إلا بمحتويات روحك نفسها، وهي منظومة القيم الرفيعة المركوزة في داخلك منذ الأزل. وقد تجلى معيار ” المتعة الأدبية” في ديوان ” من أحوالها بصورة واضحة تظهر مدى تمكن الشاعر من لغته وتوظيفها توظيفا شعريا يحدث لذة ومتعة يشعر بها القارئ في أكثر من موضع في الديوان، حيث كانت الجمل الشعرية قادرة على بلوغ سويداء القلب أو إلى ينبوع الوجدان، والتأثير في المتلقي ومعنى التأثير استيلاء حساسية الشاعر على حساسية المتلقي استيلاءً كليا أو نسبيا.
ومن أهم المعايير التي ينماز به ديوان من أحوالها للشاعر محمد عبدالستار الدش” حرية الاندلاع وتلقائية التعبير أي تنبثق القصيدة انبثاقا تلقائيا حرا، دون أن تكون مقيدة ومجبورة أن تكون، وهذا المعيار أسس له التراثيون: الجاحظ والآمدي والقاضي الجرجاني، ويبقى واحدا من أوليات المعايير الناقدة للشعر العظيم.” فلم يتعسّف الشاعر في جمله الشعرية ولا في صوره المتخيلة بل كانت معظم قصائد الديوان تلقائية حرّة تسبح في الفضاء الشعري دون قيود، وهذا يدل على الشاعرية المفرطة والغنائية المتعالية التي ينماز بها الشاعر محمد عبدالستار الدش.
المصادر والمراجع:
-إبراهيم أحمد ملحم: تحليل النص الأدبي” ثلاثة مداخل نقدية “، عالم الكتب الحديث،الأردن، ط1، 2016م.
-عصام واصل: في تحليل الخطاب الشعري (دراسات سيميائية)، دار التنوير الجزائر، ط1، 2013م.
-جان بيلمان نويل: التحليل النفسي والأدب، ت: حسن المودن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1، 1977م.
-ليلى شعبان شيخ محمد رضوان، سهام سلامة عباس: المنهج السيميائي في تحليل النص الأدبي، حوليّة كليّة الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالإسكندرية، مج1، عدد 33.
-رولان بارت: التحليل النصي، ت: عبدالكبير الشرقاوي، دار التكوين، سورية، ط1، 2009.
-يوسف اليوسف، ما الشعر العظيم، تقديم نزار بريك هنيدي، اتحاد الكتاب العرب، سورية، سلسلة الكتاب الشهري، ع37، د.ط، د.ت.
-عبدالله العشي: أسئلة الشعرية – بحث في آلية الإبداع، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2009.