د. عقل صلاح
أمد/ تهدف هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على ركيزة الدعم الدولي لإسرائيل، وذلك ابتداء من وعد بلفور مرورًا بوعد ترامب وانتهاءً بوعد حماية الاحتلال من خلال الحرب الإرهابية على غزة من أجل تثبيت أركان دولة إسرائيل في فلسطين، وبلورة هوية لليهود بالقوة الدولية. وتقوم هذه الركيزة على مبدأ الانحياز والتبني الدولي من قبل بريطانيا قديمًا والولايات المتحدة حديثًا من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة المتساوقة مع إسرائيل والتي قامت بتنفيذ ما عجزت عنه الحركة الصهيونية من خلال صفقة القرن التي تم الإعلان عنها رسميًا من قبل الرئيس دونالد ترامب وبحضور رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في 29 كانون الثاني/يناير2020، وهذا يعبر عن الامتنان الأمريكي للدور الوظيفي الإمبريالي الذي لعبته إسرائيل على مدار وجودها ولا زالت تؤدّيه بامتياز، والذي يُشكل المصدر الوحيد لقوتها، واستمرارها. بالإضافة إلى أطماع الغرب في فلسطين قديمة العهد لما يمثّله موقعها الجغرافي من أهمية استراتيجية اقتصادية وعسكرية ودينية، وقد كانت بريطانيا على رأس الدول الاستعمارية الطامعة في السيطرة على المنطقة، حيث ازدادت رغبتها في السيطرة على المنطقة العربية من أجل تأمين مصالحها وحماية طريقها إلى الهند. فكانت الركيزة الأساسية لهذا الدعم اللامحدود منذ وعد بلفور الذي تم إعلانه في 2تشرين الثاني/نوفمبر1917، الذي فتح المسار التاريخي للصراع العربي – الإسرائيلي الممتد على مدار أكثر من قرن المعتمد على الدعم الأمريكي والبريطاني الواضح والمستمر لإسرائيل في حربها الإرهابية المتواصلة على الشعب الفلسطيني.
فبريطانيا التي تبرعت بفلسطين للحركة الصهيونية بإعلان الوعد إلى ليونيل دي روتشيلد، لم تكن تحتل فلسطين التي كانت لا تزال تحت سيطرة الدولة العثمانية. وفي الثامن من كانون أول/ديسمبر 1917 احتلت القوات البريطانية القدس، وفي سبتمبر/أيلول 1918 استكملت احتلال باقي فلسطين، وظلت السلطات البريطانية في حكم فلسطين لمدة سنتين، حيث أخذت بريطانيا على عاتقها تهيئة فلسطين كي تصبح وطناً قومياً لليهود.
لقد أرسلت الحكومة البريطانية وزير خارجيتها آرثر جيمس بلفور في 5نيسان/أبريل1917بمهمة رسمية للاتصال بممثلي المصارف الأميركية من أجل إبلاغهم رسميًا بأن بريطانيا ستتبنى مشاريعهم المتصلة بالصهيونية السياسية مقابل تعهدهم بإدخال أميركا الحرب إلى جانب بريطانيا وهذا ما تم تنفيذه من قبل الطرفين. حيث أرسل روتشيلد أحد قادة الحركة الصهيونية للحكومة البريطانية نصًا يتضمن فقرتين للموافقة عليه، وهو ما أصبح فيما بعد يعرف بوعد بلفور. وكان بلفور معارضًا للهجرة اليهودية إلى شرق أوروبا خوفاً من انتقالها إلى بريطانيا. وفي سنة 1906 حين التقى بلفور بالزعيم الصهيوني حاييم وايزمان أعجب بشخصيته، فرأى في الصهيونية قوة تستطيع التأثير في السياسة الخارجية الدولية وبالأخص قدرتها على إقناع الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى إلى جانب بريطانيا. وحين تولّى منصب وزارة الخارجية في حكومة لويد جورج في الفترة من 1916 إلى 1919 أصدر وعده المعروف بـوعد بلفور انطلاقاً من تلك الرؤية.
وتجدر الإشارة إلى أن عصبة الأمم أقرت الانتداب بشكل رسمي في 11أيلول/سبتمبر 1922 على أساس وعد بلفور. وفي 22 تموز/ يوليو من نفس السنة أعلنت شروط الانتداب البريطاني لفلسطين، وجاء فيها أن الانتداب مسؤول عن تنفيذ إعلان بلفور. لم يكن وعد بلفور جزءاً من سياسة الانتداب البريطاني في فلسطين فقط، وإنما أصبح جزءاً أصيلاً من مواثيق الأمم المتحدة وقراراتها الخاصة بالقضية الفلسطينية.
وخلاصة القول، إن وعد بلفور هو ليس فقط نقطة التحول الكبرى في المشروع الصهيوني، وإنما قام بتغيير مستقبل الوطن العربي، من خلال زرع دولة إسرائيل بدلًا من دولة فلسطين. إن وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود مهد لتأسيس دولة قمعية واستعمارية في المنطقة، وإن الهدف من إقامة إسرائيل كان تفتيت الوطن العربي، وأن تلك الدولة الصهيونية الآن أصبحت عبئًا ومصدرًا للإرهاب، وأضحت أداة لقتل الفلسطينيين وتشريدهم، وما وعد بلفور في الحقيقة إلا كارثة على الشعب الفلسطيني. لقد ثبت الانتداب البريطاني الكيان الصهيوني في فلسطين من خلال أربع منهجيات رئيسية؛ انتزاع الأراضي الفلسطينية، ودعم وتشجيع الهجرة اليهودية، والتشجيع والدعم للمشروعات الاقتصادية اليهودية، وقمع الشعب الفلسطيني. وقامت بريطانيا خلال عشرات السنوات التي تلت الوعد، بالعمل على جعله ممكنًا وبشكل عملي، وتسابقت الدول الكبرى من أجل الاعتراف بدولة إسرائيل.
ولكن مع بداية حرب 1948، قام اليهود بتظاهرة توجهت إلى بيت بن غوريون مطالبين بالعودة إلى الدول الأوروبية لأنهم لا يشعرون بالأمان في فلسطين، فطلب منهم أن يمهلوه عدة أيام. خلالها تدخلت بريطانيا مع الحكام العرب، وتم فرض الهدنة الأولى في حزيران 1948، بعد أن كان المجاهدون على أبواب تل أبيب، وحاصروا المستعمرات. استقدم بن غوريون صفقة أسلحة تشيكية كانت سبباً في تحول الحرب لصالح العدو. ومنذ ذلك الوقت حرص الغرب على استمرار تفوق إسرائيل العسكري، وهذا مكن إسرائيل من توجيه ضربة ساحقة للعرب سنة 1967، وتم احتلال الضفة، وغزة، والجولان، وسيناء.
وتأسيسًا على ذلك، تم إصدار الوعد الثاني من قبل الرئيس ترامب في 6كانون الأول/ديسمبر2017 الذي نص على الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وعلى نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس المحتلة، ولقد تم تجديد ركيزة الدعم للكيان الإسرائيلي من خلال وعد ترامب، فبعد قرن على وعد بلفور تم إعلان وعد جديد، ولكن هذه المرة جاء الوعد من أمريكا -وعد ترامب- الذي يمنح القدس لإسرائيل من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية للقدس. لقد تكرر مشهد بلفور “الذي أعطى من لا يملك لمن لا يستحق”. والمهم أن وعد ترامب لا يمكن أن يحدث لولا الموقف العربي المتخاذل والموافق على هذا القرار، وأكبر دليل على ذلك أن كل المواقف العربية الرسمية بعد اتخاذ القرار لم تتجاوز الاستنكار والشجب، وتم المضي في طريق الخنوع من خلال التطبيع العربي مع دولة الاحتلال.
وترى إسرائيل أن القرار الأمريكي لا يحمل سوى دلالة رمزية فقط بالنظر إلى سيطرة إسرائيل واقعيًّا على المدينة، لقد أصدر الكونجرس الأمريكي هذا القرار في سنة 1995، وعلى مدار 22 عامًا قام الرؤساء الأمريكيين بتأجيل تنفيذه بصورة روتينية كل ستة أشهر. وإسرائيل منذ احتلالها لكامل أرجاء المدينة سنة 1967 عكفت على تعزيز هيمنتها على القدس، ووصلت المحاولات أوجها في سنة 1980 بإصدار “قانون أساس: القدس عاصمة إسرائيل”. ويتجلى مما سبق، أن الموقف الرسمي العربي- الإسلامي تجاه قرار ترامب يؤكد بأن علاقاتهم مع إسرائيل أهم من المقدسات الإسلامية ومن القضية الفلسطينية.
وعلى خلاف ذلك أطلقت حركة حماس عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، ردًا على الممارسات الإسرائيلية والمستوطنين المتواصلة على الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته في الضفة الغربية، وضم الضفة الغربية وتهويد القدس واستهداف الأسرى في السجون في جملة قرارات تحرمهم من حقوقهم كأسرى حرب وزيادة عمليات القمع وقتلهم حيث وصل عدد الأسرى الشهداء إلى 252 شهيدًا من سنة 1967، واستمرار حصار غزة منذ ما يقارب عقدين ورفض إسرائيل لصفقة تبادل مع الحركة وزيادة حدة القتل وحرق الممتلكات في الضفة من قبل المستوطنين واستهداف المصلين في القدس والتخطيط لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا وصولًا لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم كما فعلت إسرائيل في الحرم الإبراهيمي، وانسداد الأفق السياسي وتهميش القضية الفلسطينية وزيادة حدة التطبيع العربي الإسرائيلي والدعم الدولي المطلق على جميع الصعد للاحتلال، حيث نفذت حركة حماس هجومًا كبيرًا برًا وبحرًا وجوًا وخاضت حرب شوارع مع الجيش الإسرائيلي، ومنذ اليوم الأول للحرب أطلقت إسرائيل على حربها على القطاع “السيوف الحديدية” وشنت غارات مكثفة على غزة التي تعاني من أوضاع معيشية متدهورة جراء الحصار الإسرائيلي المطبق عليها منذ عقدين تقريبًا.
وتواصل إسرائيل حربها على غزة منذ أكثر من سبعة شهور، حيث تقوم الطائرات الحربية بتوجيه غارات جوية على جميع أنحاء غزة، مخلفة دمارًا واسعًا في المساكن حيث دمرت 75% من القطاع، وأكثر من 35ألف شهيد وأكثر من 100ألف جريح، وأسفرت الغارات المتواصلة عن حالة نزوح جماعي. حيث تجلت المواقف الأمريكية تجاه الهجوم الإسرائيلي على غزة، وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن والبيت الأبيض عن نقل حاملة طائرات أمريكية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط وتقديم المساعدات العسكرية والمالية الهائلة والمتواصلة، وقد قال وزير الحرب الأمريكي لويد أوستن: “لقد وجهت المجموعة الهجومية لحاملة الطائرات في التحرك إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، كجزء من جهودنا لردع الأعمال العدائية ضد إسرائيل أو أي جهود تهدف إلى توسيع نطاق هذه الحرب، وسنبذل كل ما في وسعنا لتزويدها بالدعم الذي تحتاجه”. فالولايات المتحدة ومعها بريطانيا والعديد من الدول الغربية تشارك إسرائيل في حربها الظالمة على القطاع على جميع الصعد والمستويات ضاربة في عرض الحائط جميع القوانيين الدولية، ومتخلية عن حقوق الإنسان والديمقراطية، حيث تجردت من كل الأخلاق والأعراف عبر إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل بإبادة الشعب الفلسطيني وممارسة حرب التجويع وتزويد الاحتلال في كل القذائف والصواريخ الذكية والغبية التي حصدت أرواح أطفال ونساء غزة تحت يافطة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فهذا العالم الذي يكيل في مكيالين ويخترق كل القوانين والمواثيق الدولية من أجل حماية الاحتلال ودعمه في احتلاله وقتله للشعب الفلسطيني لهو دليل على طبيعة هذه الدول العدوانية ومشاركتها من الألف إلى الياء في هذه الحرب العالمية الثالثة على الشعب الفلسطيني التي خلقت الوعد الثالث بالدعم المنقطع النظير من قبلهم لتثبيت ركائز الاحتلال وإبادة الشعب الفلسطيني.
فبعد ستة وسبعون سنة على الهجرة الأولى مازال الاحتلال يهجر ويبيد بالشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من الحروب المستمرة منذ سنة 1948 إلا أن الشعب الفلسطيني تضاعف 10 مرات، وبالنهاية الشعب الفلسطيني سيعود لأرضه التي شرد وهجر منها والاحتلال سيرحل.
إن أي قراءة موضوعية لمجريات الأحداث، منذ وعد بلفور مرورًا بوعد ترامب وانتهاء بالحرب على غزة، لابد أن تقودنا إلى جملة من النتائج، لعل أبرزها أن من يمتلك القوة يكون قادراً على التأثير في مجريات التاريخ، وأن من يمتلك الحق دون القوة لن يلتفت إليه أحد في عالم لا تعنيه كثيراً قضايا الضمير والعدل إن لم تتوافق مع مصالحه؛ فجاءت عملية طوفان الأقصى لتؤكد هذه النتيجة المهمة التي خلخلت أسس هذا الكيان الذي تم زرعه منذ ستة وسبعون سنة، ولتقول هذه العملية أن الصراع لا يمكن حسمه بالدعم الغربي المطلق لإسرائيل فرجال فلسطين قادرين على توجيه الضربات القاسية للاحتلال ولركائز الدعم له، واستطاعت المقاومة تحويل القضية الفلسطينية من قضية مهمشة ومشيطنة إلى قضية محورية على المستوى العالمي.
ونخلص إلى قاعدة أساسية حكمت الواقع العربي الرسمي إبان إصدار وعد بلفور ووعد ترامب وحرب الإبادة على غزة أن النظام العربي في الوعد الأول كان عاجزًا عن الدفاع عن القضية الفلسطينية، بينما كان النظام العربي الرسمي عند إعلان الوعد الثاني والحرب المستمرة على غزة متخاذلًا متآمرًا على القضية الفلسطينية.
وهناك قاعدة واحدة حكمت الدعم الأمريكي والبريطاني لإسرائيل ففي الوعد الأول البريطاني تم تأسيس دولة الاحتلال في فلسطين وفي الوعد الثاني الأمريكي بعد قرن على الوعد الأول تم منح إسرائيل ما تبقى من فلسطين، وفي الوعد الثالث-الحرب على القطاع-الصادر عن بريطانيا وأمريكا تم وضع الركائز المساندة لوقوف إسرائيل على أرجلها وبقائها في فلسطين بعد ما استطاعت المقاومة مسح هيبتها وتهديد بقائها.
وهناك قاعدة أثبتتها عملية طوفان الأقصى أن إسرائيل يمكن هزيمتها وزمن الهيمنة والعنجهية العسكرية قد تم طمسه بلا عودة، وألغت السردية الإسرائيلية بأنها القوة التي لا تقهر، حيث تم قهرها وفرض السردية الفلسطينية؛ فزمن الانتصارات الإسرائيلية السريعة على الجيوش العربية قد انتهى واستطاعت المقاومة بالجبهات الأربعة -القطاع، والجنوب اللبناني والعراق واليمن- تكبيد الاحتلال الخسائر الكبيرة التي تعد هزيمة واضحة لإسرائيل في الحرب المستمرة على غزة، وفي ذكرى النكبة استطاع رجال المقاومة أن يحولوها من نكبة إلى انتصار.
*كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.