حميد قرمان
أمد/ لا يمكن دراسة تاريخ الصحافة العربية من دون التعرج على نموذج محمد حسنين هيكل، صنعت ملامحه النظام السلطوي الذي انشأه انقلاب الضباط الأحرار في مصر.
فمن صحفي مقرب من النظام إلى ناطق باسمه رئيسه وراسم ومروج لسياساته.
اقتصار وسائل الإعلام بالصحف والاذاعات في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ساهم في انطلاقة حسنين هيكل، وقربه من دوائر صنع القرار رسخت اسمه، فعاث برواياته المشكوك بصحتها بتاريخ المنطقة، فظن متوهما أنه ندا لأنظمة ودول، فاختلق معارك سياسية وإعلامية ورثها نتيجة اصطفافه الناصري، حيث كان ظل عبد الناصر وقلمه، وهو ما لم يستطع تحقيقه مع الرئيس أنور السادات الذي أراد من هيكل أن يكون كاتبا لأفكاره وليس موجها لها، وهو ما يفسر حالة المعارضة التي تبناها هيكل في مقالاته اتجاه سياسات السادات فيما بعد، لتتحول تدريجيا إلى عَداء شخصي عبر عنه في كتابه خريف الغصب.
نموذج محمد حسنين هيكل وهالته لم تستمر، فاندثرت رويدا رويدا أمام اكتمال المسار التاريخي للاحداث بانقشاع الحقائق التي ساهمت باظهار الصورة الكاملة التي وظف هيكل اجزاء منها سابقا لصالح انتهازيته كصحفي يلعب على أوتار “الناصرية القومية” التي جلبت الويلات للمنطقة.
في المقابل ظهور اساليب صحفية تفوقت على اسلوب هيكل؛ الروائي بسرد المعلومة من خلال الكتب والمؤلفات، وتسارع التطور التكنولوجي لوسائل الإعلام، شكلت عقبة أمام استمرارية انتشار هيكل ومواقفه الصدامية التي سعى لاستثمارها حتى الرمق الأخير، وهو ما جعل دولة قطر تعيد احيائه من خلال فرد مساحات إعلامية عبر قناتها الجزيرة لاستفادة من إرث هيكل المعادي لدول في المنطقة على رأسها السعودية، ومن جهة أخرى التسويق لإيران واجنداتها الذي ظل ينادي بضرورة العلاقة وعدم تجاوزها لغاية وفاته.
العلاقة بين قطر الساسة والدولة وبين هيكل لم تدم بسبب زوال نظام محمد مرسي واخوانه وعشيرته، واتخاذه موقفا مؤيدا للنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، فتنبّهت قطر لضرورة خلق نموذج شبيه لمحمد حسنين هيكل، يرث عرشه ويجلس على رأس هرم الصحافة والتنظير السياسي في منطقة الشرق الأوسط، فأتت بنموذج رديف لتجربة هيكل، عزمي بشارة، الرجل التي ولد سياسيا داخل دولة الاحتلال ليعتلي منصة الكنيست، ليُتهم بتزويد معلومات لحزب الله خلال حرب عام ٢٠٠٦، ويُعلن عن محاكمته بعد أن سمح له، بطلب قطري، مغادرة اسرائيل، في محاولة لاظهاره بمشهد البطولة والبسالة تحضيرا لدوره القادم في المنطقة، دور لم يتأخر كثيرا، فوُظف الرجل وأفكاره لترويج ثورات ما يسمى الربيع العربي من منطلق تنويري ديمقراطي توازي به قطر داعمها للخط الإخواني في ذلك الوقت بقيادة يوسف القرضاوي.
دور ساق بشارة على أعتاب بوابات الديوان الأميري، ليُكلف بمهمة اعداد الأمير تميم لخلافة والده حمد بن خليفة بداية العقد المنصرم، وهو ما عزز مكانته ونفوذه داخل المؤسسة الحاكمة، فستغل الرجل الإمكانيات المتوفرة له لإعداد مركز أبحاث ودراسات سياسية يتضمن وسائل الإعلام مرئية تلفزيونية (تلفزيون العربي) وصحف ورقية ومنصات الكترونية عديدة أهمها؛ العربي الجديد، بعد أن أدرك أن الجزيرة بعمقها الإخواني ليست ملاذه الفكري والسياسي، فالرجل ذو طموح أكبر من مجرد سياسي تحت مسمى مفكر يخرج على شاشتها، فاسس منظومته بمباركة الأمير الشاب، الذي رأى بتوجهات بشارة أداة لتثبيت توازن حكمه داخل قطر.
التحوّل الدرامي لبشارة من سياسي وبرلماني داخل إسرائيل إلى مطارد بصورة بطل مناضل إلى مفكر عربي يمارس التنظير السياسي بخطاب فلسفي تملأه لغة جسد استعلائية تعكس هوس الرجل ورغبته بأن تكون لكتبه ومؤلفاته الأثر في تغيير المنطقة وقلبها لمصلحة دولة قطر التي يظنها ستخلد اسمه في التاريخ على غرار تخليد عبد الناصر اسم هيكل، فتصدر بعض حروب قطر الإعلامية والسياسية، تماما كما تصدر هيكل بعض حروب عبد الناصر الإعلامية والسياسية. وكما استغل هيكل الناصرية القومية في ترويج كتبه ومقالاته ومكانته كأستاذ الصحافة العربية، استغل بشارة التنوير لقيم الديمقراطية لترويج لكتب ومقالاته وترسيخ مكانته كمفكر عربي، قيم لا يستطيع هو ممارستها داخل الدولة التي يخدم مشروعها في المنطقة.
نقاط التقاء تجمع نموذجي هيكل وبشارة، أبرزها ترويج العلاقة مع إيران كنظام يتناقض مع الولايات المتحدة وحلفائها، بغض النظر عن أيديولوجيته الاستعمارية التي تغلغلت في أربع عواصم في المنطقة العربية، وهو ما يعكس فكر الرجلين اتجاه التبعية لدول إقليمية انطلاقا من ايديولوجيات بالية، ترى الديمقراطية شعار مفصل على مقاييسهم كحل لنهوض الأمة.
ما سبق.. قراءة نقدية مختصرة لتقييم تجربة سياسي مارس الصحافة والتنظير السياسي تحت لقب استاذ سعى لتبرير مغامرات حاكم جلب الويلات على المنطقة، ومحاولة لاستقراء نموذج سياسي تحت لقب مفكر، يسعى لتبرير مشروع دولة تغامر في مستقبل المنطقة برمتها.