حسن عبادي
أمد/ المتلازمة هي علامات وأعراض طبية مرتبطة مع بعضها ومتعلقة بمرض أو اضطراب معين، وأشهرها متلازمة داون، وها هو الكاتب فراس حج محمد يطل علينا بكتاب عنوانه “متلازمة ديسمبر”، وقال بأن التسمية نتيجة ما يعانيه من اكتئاب في هذا الشهر كل عام. وأضاف إن أجواء من السوداوية والتشاؤم تسيطر على النصوص، دالّة على خيبات أمل متعددة ومتنوعة لأسباب مختلفة.
جاء الكتاب بقصص وسرد تتناول العلاقة بينهما؛ بين الرجل والمرأة، لحم ودم، بعيداً عن تلك العلاقة السريّة عبر الشاشة الزرقاء كما عوّدنا في كتابه “نسوة في المدينة”، بشفافيّة صارخة وفاضحة دون مواربة وتمويه، اللهم إلّا التستّر على هويّة ثلاثتهن، وتتخلّلها ممارسة الجنس والعلاقة الحميميّة مع اثنتين منهن، وربّنا ستر بأنّه “لا يضعُ قلمه في محبرة غيره”، ممّا رحم أوّلهن ورحمنا برحمته، وهو كاتب السيناريو والمخرج وبطل فيلمه… والمصوّر.
وسم فراس الكتاب، كما جاء على الغلاف، بقصص وسرد؛ (220 صفحة من القطع المتوسط، التصميم: حسن جيمي، إصدار: دار بدوي للنشر والتوزيع في ألمانيا لصاحبها الدكتور محمد بدوي. صدر له 34 كتاباً ومن آخرها: ديوان “على حافّة الشعر: ثمّة عشقٌ وثمّة موت”، “في الوجه والمواجهة”، “في رحاب اللغة العربية”، “سرّ الجملة الاسمية”، ديوان “في أعالي المعركة”، و”تصدع الجُدران”، وحرّر 16 كتاباً).
لفت انتباهي الإهداء كعتبة نصيّة، يخصّ به الكاتب ثلاث محظيّات من”نِسوته”؛ يسرد قصته معهن، وأشار إلى كل واحدة منهن في الإهداء بحرفين من حروف اسمها؛
(أخذني الإهداء للقائي بالصديقة صفاء أبو خضرة في إربد، على هامش حفل إطلاق “رنين القيد” للأسير عنان الشلبي، حين قالت لي مرحّبة: “شوأخبار صاحبنا أبو الحروف؟”)، (ف. ن) التي تركته بعد تسع سنين ليأكله ذئبالحزن، و(ش. ح) التي أمدّته بالحياةِ في أربع ليال وصال شبقيّة ولم تعُد،و(ف. ف) التي يذكّرها أنّه ما زال حياً يكتب ولم يمت كما تمنّت له، فالأعمار بيد الله.
جاء الكتاب في ثلاثة فصول؛ الفصل الأول عنونه: “إلى فاء نون”؛ وفيه تناول ظاهرة اكتئابه ليعرّفنا على (ف. ن)، بعيداً عن الفضول، ويحدّثنا عن موت الحبّ في عيد الحبّ، لا أكثر ولا أقلّ، يا لها من مفارقة، والساديّة في المواجهة، ورحلة شهرزاد من حضورها الكامل إلى غيابها الكثيف.
والفصل الثاني عنونه “يوميات”؛ يوميات شتاء قارس، ويوميات “هدى”العاصفة، وأوراق لم تسقط عمدا، ويوميات منزوعة من دفتر القلب، وهوامش على كلام الأبراج
والفصل الثالث عنونه: “عن نابلس وأشياء أخرى”؛ قصص وسرد جميل، إلى حبيبة من مدينة نابلس، وأفتقد تلك القطة بالتأكيد، وطقوس الليالي السبعة.
يحتل العالم الافتراضي والفيسبوك والشاشة الزرقاء حيّزاً لافتاً في الكتاب، كما لمست حين قرأت كتابه “نسوة في المدينة”، فله اختبارات وذمة ومصيدة لبناء علاقات عابرة وأخرى طويلة الأمد.
لفت انتباهي تعامله مع الصور؛ فحين قرأت “في تأمّل الصور” ثانية كأني بالكاتب يمأسس لدراسة/ كتاب جديد حول دور الصور في مخيّلته وحياته وأهميّتها لتعوّضه عن فقدٍ ما… وصورة الكيلوت الأزرق التي لا تفارقه؟
فراس قارئ نهم ومثقّف جداً، ومن متابعتي لكتاباته، بعيد كلّ البعد عن “النسخ/ لصق” المستشري في عالم كلّ من ادّعى أنّه من حملة القلم، ولكنّه مصاب بجنون العظمة وتروق له رِفقة باريس وعلاقته بمحبوبته أثينا المتزوجة التي اختطفها لتكون معشوقته، يصول ويجول معه متخيّلا فاء نونه وكأنّها أثينا، لا أكثر ولا أقلّ.
لشكسبير حضور طاغٍ في كتابات فراس، وكأنّي به مثله الأعلى، سيرة ومسيرة، ممّا جعله، بلا تشبيه، يتخيّل فاء نونه (كم هي محظوظة) وكأنها جولييت التي عشقت روميو ولم تحظَ بالزواج منه فصارت مضرباً للأمثال لتلك المعشوقة المشتهاة صعبة المنال، القريبة/ البعيدة، الحاضرة/ الغائبة، فهرب من كذبة الحب والحبّ الكاذب للشعر.
أمّا حكاية فراس وغسان كنفاني فشرحها يطول؛ قرأت في حينه مخطوطة فراسيّة تحمل عنوان “استعادة غسان كنفاني” وتساءلت: “هل يجترّ فراس ما كُتب وما قيل عن غسّان مكرّرًا فرسان “النقل واللصق” التي شاعت في زمن العولمة والقرصنة والغوغلة؟ فوجدته فعلاً يستعيده وكأنّي به حيّ يُرزق، تقصّى واقتفى أثره، وتناول علاقته به ومعه، وأكّد علاقته وارتباطه الوجداني به كشخصية أثّرت فيه كثيراً كما أثّرت في غيره. وها أنا أجد حبل السرّة بينهما، غادة السمان و(فاء نون)، تجمعهما الكتابة والحب/ العشق دون زواج، حبّ دون ممارسة الجنس، ففراس مصرّ ألّا يضعَ قلمه في محبرة غيره. من أين لك هذا اليقين أنّ المحبرة ما زالت تنتظر قلمك؟ وكأنّي بفاء نون تتمختر، صارت بين ليلة وضحاها شبيهة أثينا وجولييت وغادة، مضرباً للأمثال.
وها هو فراس يهرب من غريمه شكسبير وينتقم من فاء نونه أشدّ انتقام، رغم أنّني على يقين بأنّ “صفرةً” منها تعيده إلى أحضانها راضياً مرضياً.
خلق الكاتب شيفرة أخلاقيّة لافتة للنظر، “يُحلّل ويُحرّم” على كيفه، يطلق لنفسه العنان ليضاجع هذه وتلك، بشرط ألّا تكون متزوّجة و”محبرتها” ملك وحِكر لغيره، فتساءلت: لماذا ازدواجيّة المعايير، إن صحّ التعبير”، وشو أفرقت يا فراس؟
صوّر بحرفيّة مشاهد جنسيّة وشبقيّة بورنويّة؛ ليلة فندقيّة في الطابق السابع “بحركة سريعة خلعت الكيلوت الأحمر، وَردتها كما هي دائما، ملساء، هادئة، وشفافة، تبعث على الشهوة وسرعة الانتصاب،…. خلعتُ ملابسي أنا أيضاً بسرعة… بلحظة خاطفة ونحن تحت الماء المنعش، امتدت يدها نحوي، اقتربت أكثر، تدفق ماؤها واختلط، بعد أن أدخلت ذكري المنتصب فيها، لقد انزلق بسرعة، حضنتني بشدة، وضغطتني إليها، وأنا فعلت مثلها… احتد الأمر وصار أكثر عنفواناً، في أقل من دقيقة إضافية، انطفأنا معاً” (ص. 48-49). ورحلة الجنس مع (ش. ح) لأربع ليالي فندقيّة، دون جوانية هول وودية ماجنة، كلّها لذّة ونشوة ووصل وجماع “أولجت فيها ثلاث مرّات، وفي كلّ مرّة أرى دمها عليّ، أسترجع تلك اللحظة كيف كانت نشوتها لا يمكن وصفها، ارتبكنا معا، لنعرف في الصباح أنه كان دم بكارتها”. (ص. 101)
“أسترجع في ذاكرتي أيّام تفتّح فتوّتي… وتشدّني أكثر إلى طفولة عشتها في حمأة من عذاب مخفي موجع، أسترجع بكلّ ألم كيف كان ينظر إليّ الأهل والمقرّبون؟ وكيف كانوا يعاملونني، وبالذات أمّي وأبي، فلم يشعروني في يوم من الأيام إلّا بنقصي وعجزي، وكانوا دائمي التذكير بإعاقتي” (ص.173)، وجاء الكتاب مكدّساً بروح انتقاميّة شرّيرة منهن ليعوّض بعضاً من عجزه ولو بعد حين. وجاء انتقاماً لذيذاً.
راقت لي شيفرة الحب “دير بالك على حالك”!
همسات لا بدّ منها: لم يرق لي لبسه قبّعة المرشد التربوي والمُريد لتمرير فلسفته الحياتيّة بنصوص موجِّهة، بعيدًا عن النص وبمعزل عن مجريات الأمور؛ كنظرته الفلسفية السوداويّة عن طبيعة العلاقة مع الأبناء (ص 119-121)، “من هذا الذي يفرّط بحبة عنب خليلية ليشتري العنب المهرمن؟ وربما كان (إسرائيليا) كما قالت المرأة” (ص 211)، ولد الكاتب تحت نير الاحتلال ليشاهد ازدواجية معايير المجتمع الدولي: “عام هجري بدأ في فلسطين حيث المستضعفون نساء ورجالا وأطفالا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، محاصرون في علبة من سردين القطاع المحاصر المنكوب، تتسلى بهم آلات البطش والموت، ويسهر على بريق دمائهم وعزف أناتهم المترفون من نبلاء العالم الحر، عالم الديمقراطية والإنسانية وحقوق الإنسان” (ص 159) وغيرها، ولكن ما يشفع له أنّها اكتئاب ديسمبريّ عابر.
وأخيرًا؛ أهمس في أذن فائك/ نونك يا فراس وأقول لها: “لو تعلمين كمخسرت!”