محمد المحسن
أمد/ على هامش المشهد السياسي الكوني :
-من المؤكّد إذا أنّ نظاما كهذا،هو نظام لا يؤسّس للمساواة بين الدول كما أنّ السلم الذي يتحجّج به هو فرض شروط الإستسلام على كل الأمم الضعيفة،وهو بالتالي نظام رأسمالي لا متكافئ وظالم على الصعيد الإقتصادي،كما أنه قطبي وأحادي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد السياسة الدولية.( الكاتب)
قبل أن يطوي القرن العشرون صفحاته ويذهب إلى ذمة التاريخ شهد العالم في العقد الأخير من هذا القرن المنصرم تطوارات ومتغيرات دولية وإقليمية ساهمت في مجملها في خلق نظام كوني تتمسّك فيه مجموعة من الدول بمقود القيادة وتمارس مختلف أشكال الوصاية والهيمنة على العالم في ظل ما اصطلح على تسميته بالعولمة..ولذا فقد دخل هذا العالم مع مطلع عقد التسعينات مرحلة جديدة،خصوصا بعد التغييرات العاصفة التي جرت في أوروبا الشرقية وتفكّك الإتحاد السوفياتي وإنتهاء دوره كقوة عظمى،ضاهت في حجمها قوة الولايات المتحدة الأمريكية ووقفت لها موقف الند طوال الحقبة الماضية التي امتدت من إنتهاء الحرب الكونية الثانية إلى السنوات الأخيرة من عقد الثمانينات..
من ثنايا هذا المناخ الكوني العاصف،انبجس نظام أحادي القطب مناط بالولايات المتحدة الأمريكية التي راحت تلبس قبعة القوة العظمى الوحيدة وتنصّب نفسها بدون تفويض شرطيا على العالم بلا منافس تحت مسميات مخاتلة،بإسم الشرعية الدولية حينا،وبإسم الدفاع عن حقوق الإنسان حينا آخر،وأصبحت بالتالي تلجأ إلى التدخل بإستخدام القوّة تارة وفرض العقوبات تارة أخرى،نظرا لما تمتلكه من إمكانات ضخمة في مختلف المجالات الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وقد عبّرت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة عن طبيعة هذا النظام في تعليقها عن الموقف الأمريكي من الأزمة العراقية بقولها:”إذا كان لا بد من إستخدام القوّة ضد العراق فلأننا أمريكا..”وهذا يعني أنّ الرؤية الأمريكية لطبيعة هذا النظام الكوني لا تقوم فقط على مبدأ الإخضاع والسيطرة،بل وعلى أنه نظام مليء بالتهديدات لهذه السيطرة،بالإضافة إلى هذا فإنّ سياسة إزدواجية المعايير والكيل بمكيالين باتت تمثّل سمة من سمات النظام العالمي الجديد،حيث يبيح-أشياء-لدول معينة ويحرّمها ذاتها على دول أخرى،كما يبيح لبعض الدول بعض الممارسات ويفرض على دول أخرى العقوبات لمجرّد التفكير فيها،علاوة على ذلك فإنّه يدعي تحقيق السلم العالمي وإقرار سيادة القانون في العلاقات الدولية،ومبدأ المساواة وتقوية دور المؤسسات العالمية للأمم المتحدة ومجلس الأمن،إلا أنّ هذه الشعارات الخلاّبة تتعارض معه من حيث المضمون،فقد فرض حظرا جويا وعسكريا على ليبيا بموجب قرار مجلس الأمن رقم 748 في 15/4/1992 تسبّب في تداعيات مؤلمة دفع ثمنها الشعب الليبي،وفرض حضرا شاملا على العراق لم يميّز فيه بين النظام والشعب،وذلك دون أن نعلم أين كان مجلس الأمن عندما احتلت إسرائيل جنوب لبنان؟
وأين قراراته عندما غزت روسيا جمهورية الشيشان،أم أنّ هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون صفقة مقابل صفقة العراق؟!
هذا في الوقت الذي يسعى فيه هذا النظام الأحادي القطب إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل،يسمح لإسرائيل بإمتلاك تلك الأسلحة بدعوى الحفاظ على التفوّق العسكري،حيث تردّد أنّ بحوزتها 2500 رأس نووي!
وعلاوة على هذا وذاك،فإنّ الإمتنان الغربي حيال الدول الأقل نموا ليس مرده مدى إلتزام هذه الأخيرة بالديمقراطية وحقوق الإنسان كما يقولون،بل على أساس مراعاة هذه الدول للمصالح”الأوروأمريكية”إلى درجة تصنَّف من خلالها أنها متقدمة أو متخلفة،متحضّرة أو بدائية،أصولية أو إرهابية على أساس تلك المرجعية،وهذا يعني أنّ هذا النظام الكوني-بزعامة أمريكا-يهدف أساسا لخدمة مصالح بلدان الشمال حتى ولو تحقّق ذلك على حساب وضد مصالح بلدان الجنوب،كما أنّ الواقع الذي يصوغ العلاقات الدولية يكشف بوضوح تام تناقض الخطاب المعلن مع حقيقة ممارسات البلدان الغنية والداعية لإقامة هذا النظام.
من الواضح أنّ نظاما انبثق من دخان المعارك وتشبّع بسعير الحروب لن ينثني أبدا عن إشعال فتيل اللهب في أية لحظة،فهو يرفع شعار السلم لكنه يستخدم الحرب كأداة والعنف كوسيلة،وهذا ما تجلى واضحا حيال الإحتلال الغاشم للعراق،والتهديدات الأمريكية المحمومة ضد أي دولة ترفض الدخول صاغرة إلى بيت الطاعة الأمريكي،وذلك من خلال رفع شعار مخاتل:”من ليس معنا فهو مع الإرهاب” بما يؤكّد أنّ التهديد والعنف ولغة الحرب والحصار لا الحوار،هو أسلوب هذا النظام الذي يدعي دعاته بأنّه قائم على القانون والمشروعية الدوليين !
ومن هنا يٌحقّ لنا أن نتساءل على ضوء الممارسة الفعلية لا على ضوء جمالية الخطاب عما إذا لم يكن القانون المقصود هنا هو قانون الأقوى،والمشروعية المحال عليها هنا هي مشروعية القوة،وعما إذا لم يكن اللجوء إلى القانون الدولي وإلى الأجهزة الأمنية هي مجرد تغطية قانونية لإرادة الهيمنة الأمريكية والغربية!..؟
من المؤكّد إذا أنّ نظاما كهذا هو نظام لا يؤسّس للمساواة بين الدول كما أنّ السلم الذي يتحجّج به هو فرض شروط الإستسلام على كل الأمم الضعيفة،وهو بالتالي نظام رأسمالي لا متكافئ وظالم على الصعيد الإقتصادي،كما أنه قطبي وأحادي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على صعيد السياسة الدولية.
وإذن؟
وإذا،فإنّ وموازين القوى ستظل تحكم العلاقات الدولية رغم أوهامنا التي لم تنقشع بعد تحت شمس الحقيقة،وسيظلّ العمالقة الإقتصاديون والعسكريون يتحكمون في السياسة الدولية ما لم تتبلور مراكز قوى متعددة،فاعلة وقادرة على توجيه ضربات تاريخية لسيطرة المجتمع الحربي الصناعي،كما أنّ الصراع لن يتوقّف،وستجد دول العالم الثالث نفسها في مقدمته،ذلك أنّ”الحرب الباردة”بين الشرق والغرب قد انتهت لصالح هذا الأخير والذي صار حرا بإشعال “الحرب الساخنة” كيفما شاء ومتى لمس تهديدا يستوجب ذلك.
ما أريد أن أقول؟
أردت القول أنّ الشعارات الجوفاء التي يرفعها الماسكون بزمام العالم والمتمثلة في المساواة بين الدول ليست إلا شعارات خادعة،سواء من حيث العضوية في مجلس الأمن أو من حيث قيمة الصوت أو من حيث المواقف من الدول الأخرى كلها تؤكّد أنّ هناك أمما هابطة وأخرى صاعدة،وأمما تمثّل الإستثناء،فإسرائيل مثلا تتصرّف وكأنّها دولة استثنائية يُحقّ لها بناء المستوطنات-بنهم فظيع-وتهديم البيوت وإغتيال رؤوس المقاومة،كما لها الحق في دعم ترسانتها بالأسلحة المحرمة دوليا والتي لا حق لجيرانها في إمتلاكها مثلما هو الشأن للعراق الذي مُنِع-زورا وبهتانا-من دخول النادي النووي أو تطوير قدراته العسكرية والتكنولوجية.
ماذا يعني هذا؟
هذا يعني أنّ تحقيق السلام وتطبيق القانون والمشروعية الدوليين هي مجرد ايديولوجيا للفترة الحالية من سيطرة الغرب تحت الهيمنة الأمريكية،هذه الفترة التي تمّ خلالها تقويض كل الإنجازات التي حقّقها العالم الثالث وعلى رأسه حركات التحرّر الوطني ودول الجنوب عامة،سواء منها المكاسب الأيديولوجية أو الإقتصادية أو السياسية،سيما وأنّ التناقض لموقف بلدان الشمال وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة الأمم المتحدة،غدا سافرا،حيث أثبتت الأحداث التي عرفتها السنوات الأخيرة أنّ دعم هذه الهيئة الأممية وتقوية نفوذها لا يتحقّق إلا بالقدر الذي يخدم مصلحة تلك الدول ويتواءم مع استراتيجيتها وهي وضعية تصبح معها المنظمة العالمية مجرد امتداد لنفوذ تلك القوى العظمى وإطارا لإضفاء الشرعية الدولية على سلوكها(!)
نواقيس الخطر
من المؤكّد أنّ ما حدث يوم 11 سبتمبر 01 من انفجارات مرعبة بنيويورك وواشنطن والتي ذهب ضحيتها مدنيون أبرياء،كانت إفرازا حتميا لتراكمات مشحونة بالتوتر والغضب والرمادية،كرّسها الغرب الإستعماري وعلى رأسه أمريكا من خلال نظام كوني لا حظ للضعيف فيه..وأيا كانت مشاعر الإنسان الشخصية حيال الأعمال الإرهابية،وأيا كان مقدار استفظاعه لها فإنها في مرجعية-الإنسان المتحضّر-مرفوضة وجائرة وغير عقلانية،ورغم أنّ هذه الأحداث قد تكون كشفت في جوهرها حالة الإحتقان والغضب للضعيف المنكسر حيال-القوي المتغطرس-إلا أنّها قد تؤسّس وفي المدى المنظور لرؤية مغايرة في طبيعة العلاقة بين الشمال والجنوب وبين الهويات الخائفة والعولمة العاصفة،بإعتبار أنّ راسمي الوضعية الدولية ظلوا عاجزين عن تلبية مطالب شعوب مضطهدَة وعن إحترام حقوق أمم ناضلت ومازالت تناضل من أجل أن يسمعَ صوتها وتحتَرَم حقوقها منذ بداية الحرب الباردة إلى التحولات الراهنة،وصدرت في حقها قرارات أممية لم تنفَذ بعد(!).
إنّ أحداث -ثلاثاء الرعب-كشفت عزلة أمريكا عن العالم وعدم قدرتها على استيعاب هموم المستضعفين في ظل نظامها الكوني،إلا أننا ورغم رفضنا لما حدث وتعاطفنا مع الشعب الأمريكي في محنته،فإننا نرفض بشدة التصعيد الغربي المسعور ضد الإسلام حيث بدأت نظرية صموئيل هينتجون اليهودي الأصل”صدام الحضارات”ترخي بظلالها القاتمة على الساحة الدولية في محاولة بائسة لتسويق الصراع على أسس دينية وثقافية بدلا من كونه صدام بين الأيديولوجيات أو القوميات،وفي ظل الليبرالية العالمية التي تهدف إلى خلق حضارة عالمية أو ثقافة كونية واحدة،ما علينا ونحن في هذا المنعطف التاريخي الحاسم إلا أن نتساءل ونسأل في ذات الآن و-ببراءة-صانعي القرار في كواليس الدول الكبرى:
أليس واردا النظر إلى الإستقطاب العالمي،أي إلى البؤس المادي الذي تخلقه الرأسمالية بالضرورة لدى ثلاثة أرباع البشرية بإعتباره مرشحا بإستمرار إلى أن يكون المشكلة الرئيسية لعصرنا..وهل سيظل الفقراء يقتاتون من فواضل إقتصاد الربع الأرقى لهذا الغرب المتقدّم؟!
ثم بسؤال مغاير نضيف:أليس واردا كذلك أن ينبثق من دخان الجنون وجلبة القوة إرهاب أعمى يجبر آلاف الضحايا على السير حفاة إلى قبورهم!؟
إذا كان ذلك كذلك فإلى أين نحن ذاهبون ومن أي الجهات ستشرق شمس الإنسانية المتمدنة..!؟
أم أننا غدونا جميعا على عتبات الجحيم وانخرطنا بدون وعي منا في حرب هستيرية على إرهاب لا وطن له..!؟
السؤال في حد ذاته جواب.