أمد/
في بداية كانون الثاني عام 2009 تأسّس منتدى الكتاب الحيفاويّ، كان اللقاء الأوّل مساء الأربعاء 28 يناير، نناقش خلاله كتابًا كلّ آخر يوم أربعاء من الشهر، يركّزه الطبيب الحيفاويّ أمل جبارين (يسّر اللقاء لسنوات أديبنا الراحل حنّا أبو حنّا، وفي لقائنا مساء 02.02.2022، وقبل اللقاء بدقائق فُجعت بخبر وفاته، فاقترحت بعفويّة إطلاق اسمه على المنتدى فقبل الزملاء الاقتراح دون تردّد وبات من يومها “منتدى حنا أبو حنا للكتاب”) وفي لقائنا الأخير ناقشنا رواية “الباب” للكاتبة الهنغارية ماجدا سابو، (رواية، 288 صفحة، ترجمة أسماء المطيري، دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام– المملكة العربية السعودية).
تدور أحداث الرواية في حيّ لا تتعدّى مساحته عشرات الأمتار، جوهرها خلف باب موصد، تصوّر علاقة مركّبة بين شخصيتين متناقضتين؛ بين كاتبة موهوبة تشقّ طريقها نحو القمّة وبين خادمتها العجوز –إيمرنس-الصارمة التي تعمل ليل نهار في منزل الكاتبة وغيره من المنازل، وفي الحيّز العام، وهي محور الحياة في البلدة. تعتزل منزلها، خلف بابها، دون سرير تنام عليه، وباب لا تفتحه لأيّ كان، مرّت بطفولة قاسية وعلاقة حبّ فاشلة، وفقط بعد أن تتوطّد علاقتها بالكاتبة وتشعر كأنّها ابنتها “ماقدوشكا. لم ينادني أحد بهذا الاسم سوى والديّ. لا أحد غيرهما أبداً. تسمرت في مكاني، في انتظار ما سيحدث” (ص.245) تفتح بابها للمرّة الأولى بوجه غريب.
تصوّر الرواية بحرفيّة تلك العلاقة المفاجئة، القريبة والعميقة رغم التناقضات والهوّة بينهما، لتكمّل الواحدة منهما الأخرى، فرغم تعالي الكاتبة وتصرفها تجاه إيمرنس، لا تشعر الخادمة بالدونيّة، بل تعاملها بنديّة قاتلة لأنها تحمل تجربة حياتيّة كبيرة وصاحبة إرادة قويّة، جرّبت مرارة الحياة وعاصرت التغيّرات المجتمعيّة والسياسيّة التي مرّت بها هنغاريا وتغيّر النظام من الفاشية إلى الشيوعية، مما زادها صلابة وعنفواناً، وفرضت احترامها على الجميع، بمن فيهم الكاتبة وزوجها، واستمرت العلاقة بينهم عشرين عامًا، كلّها صداقة صادقة واحترام متبادل.
تشمل الرواية 23 فصلا؛ تبدأ بالباب وتنتهي بباب آخر (جاءت عناوين الفصول موفّقة وموجّهة وذات دلالة على فحوى كل منها وكأنّي بها تلخّص الرواية؛ الاتفاق، إخوة في الدين، فايولا، الأصدقاء والجيران، طبق زجاج مورانو، التخلص من الخردوات، بوليت، السياسة، نادوري وتشابدول، التصوير السينمائي، اللحظة، الصوم الكبير، مفاجأة عيد الميلاد المجيد، الفعل، دون غطاء رأس، حفل التكريم، فقدان الذاكرة، شوتو، النهاية، الميراث، الحل)، وكلّ فصل يصلح أن يكون قصّة قصيرة متكاملة، وكلّها تشكّل فسيفساء روائيا مترابطا وجميلا.
وجدت الباب البطل الضمني للرواية؛ “هو حلم واحد يتكرر، بكل تفاصيله دونما تغيير. رؤيا واحدة ما تنفك تزورني. في هذه الرؤيا الثابتة، أجدني أقف في مدخل بيتنا عند بداية الدرج، قبالة زجاج نافذة الباب الخارجي الذي لا يمكن أن ينكسر بإطاره الحديدي. أحاول جاهدة فتح قفل الباب. في الخارج، أرى سيارة إسعاف. من خلال الزجاج الغائم، يمكنني أن أتبين أجساد المسعفين، أجساد بأحجام غير معقولة، بوجوه منتفخة تحيط بها هالة البدر. أتمكن من إدارة مفتاح القفل، ولكن دون جدوى من ذلك؛ لا يمكن فتح الباب.”(ص. 5، وتتكرّر ص. 286). وكذلك تقول: كل باب مقفول هو حد فاصل بيننا وبين الآخرين، وقد نفتحه بحسب أولوية الحب والاهتمام، وتصل إلى خلاصة مفادها “لا معنى للحياة، إذا لم يكن هناك من يسعد بنا حين نعُود إلى بيوتنا.”
تمتاز الرواية بأسلوبها الوصفيّ الجميل، وكأنّي بالكاتبة تحمل كاميرا ثلاثيّة الأبعاد، وكذلك أسلوب السخرية السوداويّة القاتلة لتظهر بمجهريّة فاضحة زيف العلاقات بين الناس والنظام، فلا فرق بين ممارسات الحاكم، فاشياً أم شيوعياً “لقد رأيت من عمليات الشنق ما يكفي في هذه المدينة. عندما كان الجيش الأبيض إبان الحرب الروسية الأهلية يتولى زمام الحكم، شنق أفراده العديد، وعندما انقلب الوضع وتولى الجيش الأحمر القيادة فعلوا المثل، وكانت خطاباتهم قبل عمليات الإعدام هذه هي نفسها، وأقدام الضحايا التي تركل في الجانبين بنفس الشكل، لا فرق يحدث في مَن يعلّق من” (ص.103).
تبدو الكاتبة مثقّفة موسوعيّة، متأثرة بالأدب اليوناني وأساطيره وراق لي اقتباسها لشوبنهاور: “كلما سمحت لأشخاص أكثر بالاقتراب منك، ازدادت نقاط ضعفك.” (ص. 145) لتلخّص وجهتها بالتعامل مع الغير.
برعت بتجنيد أسلوب الاسترجاع والاستحضار flashback))؛ أي انقطاع التسلسل المكاني أو الزمني للرواية لاستحضار مشاهد ماضية لتلقي الضوء على موقف ما وكانت هذه التقنية مقصورة أصلًا على السينما فوظفها الكتّاب لاحقًا في كل مجالات الأدب، فبدأت الرواية ” لا بد أن أبوح. لقد قتلتُ إيمرنس.” (ص.7)
تتناول بأريحيّة الحياة والموت، بعيداً عن الدين ومعتقداته؛ فراق لي ما كتبته على الإكليل والقبر: “هنا تنتهي الوحدة. فلترقدي بسلام. إيمرنس”. “لا تمنعي أحدهم من الذهاب، إذا ما نفد الرمل من ساعته”(ص.110)
تتناول الرواية فلسفة حياتيّة مغايرة لتكشف زيف المجتمع وقادته بناءً على تجربة حياتيّة طويلة “وكأننا نحن أنفسنا لسنا بحيوانات؛ إن الفرق بيننا وبينها هو أن الحيوانات أكثر كمالا منا. لا يمكن لحيوان أن يشي بنا، أو ينشر الأكاذيب عنا، وحين يسرقون فإنهم يسرقون لسبب وجيه وهو أنهم لا يستطيعون الذهاب ببساطة إلى محل أو مطعم” (ص.105)، وتخلص إلى نتيجة مفادها “الميتون يفوزون دائما، والأحياء هم من يخسرون” (ص. 283).
لفت انتباهي بعدها كلّ البعد عن نظرة الاستعلاء الغربيّة النمطيّة تجاه العرب والمسلمين، وحبّذا لو يحذو حذوها كتّابنا “المستغربون” فتقولها بعفويّة بنيويّة “يخبئ غطاء رأسها جبينها. لم أعلم حينها أن المرة الوحيدة التي سأراها دون غطاء رأس ستكون وهي على فراش الموت. حتى ذلك الوقت، لم تخلعه أبداً، كما لو كانت كاثوليكية متدينة أو يهودية في حداد. كما لو كانت عقيدتها تحرم التقرب من الرب دونما حجاب”. (ص. 8)، نعم، هكذا تنظر للأمور بصدق ومصداقيّة، ودون محاباة.
وأخيراً؛ راقت لي “نصيحتها” لأصدقائي الكتّاب: “إن الكتابة ليست ربة عمل متساهلة؛ فالجمل التي لم تُكمل، لا يمكن أن تنتهي كما بدئت بجمال وسلاسة. والأفكار الجديدة تثني جذع النص، فلا يستقيم تماماً مع منبته.” (ص. 109)