صالح عوض
أمد/ مع استمرار تدافع موجات طوفان الأقصى نجد أنفسنا مدعوين الى اعادة الاعتبار للجغرافية السياسية وحمولتها من التاريخ.. فنلاحظ مباشرة أن الشام واليمن والعراق كانت ساحات للمواجهات الفاصلة في الأمة، ولئن استعصى اليمن على الغزاة وظل محتفظا بتميزه وعدم انكساره أمامهم، فلقد كان الشام والعراق ساحة الحسم والمواجهات الإستراتيجية في مواجهة الغزاة.. وتتميز هذه البلدان منفردة ومجتمعة بخصوصيات الجيوبوليتيك والجيواستراتيجيك ما يجعلها مطمعا مغريا للغزاة للسيطرة وتوسيع دائرة النفوذ كما للقوى الإقليمية المجاورة للعرب.. وتتميز بتداخلها الاجتماعي وحساسيات الجغرافية والنسق الحياتي المتشابه الى حد كبير الأمر الذي جعل منها ترموتر حالة الأمة… من هنا تأتي قيمة نصرة اليمن والعراق ولبنان لفلسطين على اعتبار انها الصف الاول الذي ستتبعه الامة بعد قليل.
تغييرات دراماتيكية في العقل الصهيوني:
ان ما ينبغي تأمله بهدوء هو ذاك الذي حلّ بالكيان الصهيوني وبالعقيدة الأمنية له، جراء طوفان الأقصى وتفاعلاته فلقد كان واضحا منذ اللحظات الأولى أن هذا الكيان مصطنع بالقوة والمال من تحشيد ليهود أوربيين-شرقية وغربية- تحت اشراف استعماري اوربي امريكي، ومنذ اللحظة صفر كان قادة الكيان يدركون ان العنف وحده هو الوسيلة المثلى في احتلال فلسطين، وعلى مدار عدة عقود تم تكريس الرواية الصهيونية من خلال تكاثف الاعلام الغربي والسياسة الغربية ولقد تسلح الكيان الصهيوني بمجموعة مؤثرات نفسية تضبط السلوك الغربي اعلاميا وثقافيا وسياسيا.. ومن الواضح أن العملية صيغت ونفذت بتوافق تام بين الدول الغربية والكيان الصهيوني فكان شعار معاداة السامية وشعار الدولة الديمقراطية و شعار دولة اليهود التاريخية وشعار المظلمة التاريخية والهولوكوست كل ذلك لتحصين الكيان وملاحقة كل من يشكك في أيّ من هذه المقولات..
وأصبحت سلطة هذه المقولات نافذة في المؤسسات الاعلامية والسياسية بل وعلى المستوى الشعبي بحيث لم يكن من السهل تجاوز ايّ منها من قبل آحاد الناس او جماعاتهم.. ولعلنا نتذكر كيف واجه الفيلسوف الفرنسي جارودي المحكمة والسجن والغرامات لأنه شكك في الهولوكست، بل لعل من قال أقل من ذلك وجد نفسه مطرودا من عمله كالصحفي الفرنسي دونفير الذي بمجرد ذكره كلمة الوطن الفلسطيني تم تصنيفه نازيا ومعاديا للسامية و لقد حرقت مكتبات في باريس لانها كانت تضم كتب فلسطينية تتحدث عن تاريخ فلسطين و الامر يتوسع في الدول الاوربية الاخرى المانيا وبريطانيا كما في الولايات المتحدة.
لقد كان هذا الحصن الحصين للمشروع الصهيوني وكرته الرابح في العلاقات مع المؤسسات الغربية جميعها حتى تلك التي تتسم بالاكاديمية والعلمية.. فلم يكن يخطر على بالنا حجم التعاون الذي كان قائما بين كل جامعات اوربا وامريكا والكيان الصهيوني ودورها في تطوير اسلحته وتطوير اقتصاده باستثمارات في البحوث العلمية وتبنيها لاسيما مؤخرا على صعيد المعلوماتية.
وفي المنطقة وجد الكيان الصهيوني نفسه مدعوا الى فرض حالة قمع لأي محاولة بحث عن قوة ونهضة هكذا فعلوا مع الاقليم جملة لاسيما العراق الذي ضربوا مفاعله النووي مبكرا كما قصفوا المفاعل السوري ولاحقوا العلماء المصريين اغتيالا ومحاصرة في محاولة لتفريغ المنطقة في الوقت نفسه كان واضحا ان الرد الصهيوني على أي محاولة لمقاومته ان يكون فوق منسوب المقاومة بكثير ليس فقط لكي الفعل وكي الوعي وانما كذلك لاجتثات عناصر المقاومة له.
ماذا جرى خلال الاشهر الثمانية؟ ان التدبر لما حصل في الكيان الصهيوني على كل المستويات يكشف لنا أن هناك انهيارات رهيبة وتغيرات دراماتيكية في كل مفاصل الكيان.. نبدأ بالصيغة التي كانت مقدسة له في الغرب فلقد سقطت اركانها الواحد تلو الاخر من المظلومية التي انهارت تماما واصبح في نظر الجميع ان الهولوكست الحقيقي هو ما يصنعه الكيان الصهيوني لاهل غزة، ثم هذا التغيير الجذري في العقيدة الامنية فلقد اثبتت الاشهر الثمانية اكذوبة ما اشتهر بان الجيش الصهيوني جيش لايقهر وان العرب لا يستطيعون مواجهته مهما بلغت قوتهم وعدتهم لانه يتفوق تفوقا استراتيجيا، ولكنه بعد ثماني اشهر يكشف حقيقته انه عصابات متوحشة قاتلة لا تحسن الا قتل الاطفال والنساء وتدمير البيوت والمستشفيات والمساجد والمدارس وتعطيل حياة الناس وتجويعهم بشكل لم يكن مسبوقا في التاريخ البشري.. وأصبحت هذه المشاهد مادة فارضة نفسها على الوعي الانساني فانتفض الضمير الانساني في حراك عالمي أتخذ من الجامعات الامريكية منطلقا له مع انه لم يتوقف فقط في اطار الجامعات بل امتد داخل المؤسسات الرسمية في امريكا واوربا بالتبعية وهكذا يكون العقل الغربي قد وجد فرصته ليتحرر من استعباد استمر عدة عقود وليكتشف ان المواطن الامريكي البسيط كما اموال الدولة الامريكية يذهب الى عصابات مسلحة تقتل الاطفال والنساء وترتكب ابشع اصناف التطهير العنصري ضد شعب فلسطين.
وكذلك سقطت العقيدة الامنية الصهيونية بتطور مراحل طوفان الاقصى فكما قال افي ديختر: “عضو المجلس الوزاري ان 7 اكتوبر كشف بوضوح كيف تم احتلالنا في خلال ساعة..” ومن تلك اللحظة التاريخية الفاصلة بدأ تسطير عقيدة عسكرية صهيونية جديدة اساسها قتل المدنيين وان الحرب تعني ابادة كلية لكل ما هو فلسطيني وان الانتصار على المدنيين لا بد ان تصل الى حالة تعويض الخسارة الكبيرة على مستوى سمعة الجيش العسكرية ولكنه هنا وقع في مطب جديد انه تطور المقاومة الفلسطينية وقدرتها على استمرار المواجهة وباشكال مختلفة تشير الى قدرتها على التحكم في المعركة والحاق خسائر في الارواح والعتاد الامر الذي الحق بالجيش وضباطه انهيارات معنوية الى الدرجة التي يعلن فيها اكثر من نصف ضباط الجيش عن نيتهم عدم المشاركة في الحرب القادمة..
وفي العقيدة الامنية الصهيونية حصل الانهيار لتعيد صياغتها من جديد على وقع يوميات حرب الاستنزاف في الشمال ضد المقاومة اللبنانية التي اظهرت تحكما وارادة على المواصلة طالما ان العدوان الصهيوني مستمرا على غزة.. لم يكن مقبولا ابدا لدى العقيدة العسكرية الصهيونية سابقا ان يتلقى الكيان الصهيوني ضربة فيقابلها بمثلها بل كان يحول المنطقة الى جهنم من الحرب الجنونية كما حصل في تموز 2006 الا انه الان يواجه الضربات العنيفة على مدار 8 اشهر يضطره الى اجلاء 300 الف مستوطن من الشمال الفلسطيني الذي احترق بالصواريخ اللبنانية.
والعقيدة الامنية الصهيونية تكتشف الى اي مدى كانت مجرد أوهام وتضليل عندما يصبح البحر الاحمر كله خارج المتاح للسفن الصهيونية او تلك التي تتوجه الى موانيء فلسطيني المحتلة ويواصل الحوثيون سيطرتهم على البحر الاحمر وبحر العرب بل اتجهوا الى ضرب السفن المتوجهة لموانيء حيفا ويافا في البحر المتوسط.. وهنا تصبح أيدي العصابات الصهيونية مشلولة فيما يصعد اليمنيون من قصفهم المرتبط بحالة العدوان على قطاع غزة.. وما يتم من العراق ما هو الا بدايات نهوض للعراق بكل مكوناته خلف المقاومة العراقية التي تستهدف من حين الى اخر مواقع عسكرية صهيونية في النقب او حيفا..
ولايمكن اغفال نهضة الضفة الغربية والاشتباكات المستمرة بما يشبه حرب الاستنزاف وقد انتفضت قرى الضفة ومدنها ومخيماتها في اشتباكات مسلحة غير مسبوقة وهي تتطور وتتوسع من مدينة الى اخرى ومن قرية الى اخرى.. وقد بلغت في بعض مشاهدها ملحمة كبيرة تشير الى طبيعة المستقبل في الضفة الغربية.
عدم توسيع الحرب كان بلا شك رغبة أمريكية ومن غير المؤكد أنها كانت تأخذ في الاعتبار قدرة المقاومة على الاستمرار أشهر طويلة أو صمود الشعب وتحمله العدوان الجنوني ورفضه الرحيل عبر ممرات آمنة.. الا ان ساحة العمليات تتوسع لتشمل جبهات اليمن والعراق ولبنان والجولان.. الامر الذي يعني بوضوح ان واقع التوسع هذا سيقود الى انفجارات في اكثر من مكان ولن تستطيع الادارة الامريكية ولا قيادة العصابات الصهيونية التنبوء بما سيكون في المرحلة القادمة.
ومع هذا الانكسار البليغ للعقيدة العسكرية التي طالما افتخرت العصابات الصهيونية على ترويجها واقتنع بها كثير من نخب العرب السياسييين والمثقفين الى الدرجة التي هرول البعض الى اقامة علاقات استراتيجية امنية معها..
لقد حقق طوفان الأقصى أهم انجازاته بانه عرّى الكيان الصهيوني عن حقيقة قوته وطبيعة رسالته وعرّى طبيعة علاقاته مع القوى الدولية والعالمية.. ولقد كان لاستمرار المواجهات من جهة وتواصل العدوان على الامنين الفلسطينيين من جهة أخرى دورا كبيرا في عزله و تحرر الناس من روايته الباطلة ودخولهم في الرواية الفلسطينية افواجا..
فمن محكمة العدل الدولية و المحكمة الجنائية حيث مذكرات الاعتقال لقادة العصابات الصهيونية الى موقف الامم المتحدة على لسان الامين العام بان اسم اسرائيل سيصبح مدرجا في قائمة سوداء لارتكابها مجازر بحقوق الاطفال.. و ما صرح به حكام الكيان عقب تصريح الامين العام الا تعبير عن مدى الخوف والانهيار ومن جهة اخرى يعبر عن مدى الغطرسة وعن سلوك البلطجية.
عودة على بدء:
لن تتوقف العمليات على ما انتهت اليه في المنطقة، ومن الواضح ان الساسة الامريكان ليسوا جادين في التوصل الى حل وانهم لا يملكون القدرة على الضغط على قادة العصابات الصهيونية او انهم غير مسموح لهم الوصول الى نقطة اصدار الامر.. وكل يوم يمر دون توصل لاتفاق وقف اطلاق نار انما هو يقربنا من الاشتباك الكبير في المنطقة ولن يستطيع الحاكم العربي في المنطقة الوقوف سدا في مواجهة غضب الناس واصرارهم ان يكونوا جزءا من مقاومة الشعب الفلسطيني.
يبدو ان المقاومة الفلسطينية قد حققت النقطة الاستراتيجية في عدم الرجوع الى الخلف، ويبدو أن معطيات جديدة نتجت عن الصمود والمواصلة من قبل قواتها عبر قطاع غزة كله حتى تلك المناطق التي ادعى العدو انه قضى على المقاومة فيها، ويبدو الامر مريحا لدى المقاومة رغم التضحيات البالغة في صفوف المواطنين من اطفال ونساء..
ليس واضحا ولا مقنعا ان العصابات الصهيونية ستوقف الحرب، ومن غير الواضح ابدا ان هناك نية لدى الامريكان باتخاذ خطوة حاسمة في الضغط على الكيان الصهيوني، ولعله وصل الاجماع الى ذورته لدى قادة الكيان بضرورة تحطيم المقاومة، والاختلاف بين التوجهات فيه فقط حول الاولويات وترتيب المراحل.. وهذا ما سيجعل الحرب تجري بعيدا عن التهويش والوساطات والتصريحات.. ان الحرب لن تتوقف قريبا وحتى لو حصل اتفاق على هدنة فان الحرب سريعا ما تندلع لان الكيان الصهيوني يحتاج حسب اعتقاده ترميم صورته من خلال العنف والعنف المضاف ولكنه في هذه الحالة سيخسر على كل الاصعدة بدءا من قوته وروحه وسمعته وامنه.. وعلى الجبهة الاخرى سوف تلتحق قوى عربية اخرى بالمقاومة اللبنانية والعراقية واليمنية وسيجد احرار العرب حاضانات لمقاومتهم ان استعصى عليهم تحرك دولهم.. ولن تصمد هياكل الكيان الصهيوني لضربات من معاقل المقاومات العربية بالاضافة الى تصاعد مقاومة الشعب الفلسطيني في الضفة والاردن وما جاور فلسطين.
الكيان الصهيوني يتآكل دوليا وروحيا وامنيا وفي المقابل حقق الفلسطينيون لقضيتهم وضعا متقدما كما ان طلائع الامة تؤكد من جديد ان بؤر المقاومة والايمان بوحدة المصير لازال يعتمل في اعماق روح الامة وارداتها.. من هنا لن تكون اطالة ايام المعركة شرا فقط بل ان فيها خيرا كثير ولله حكمة في كل شيء ..والله غالب على أمره..