أمد/
-تقديم : للشعر جمالياته التى تختلف عن جماليات النثر.ومابين العاطفة في انطلاقها والفكر في تحديده يبرز دور المبدع في ضبط تجربنه الشعرية لخلق حالة توازن بين الإدراك الشعوري لعالم التجربة الشعرية وللعالم المحيط بها،مع قدرة فنية عالية في توازن الصورة الشعرية في وحدة تجمع بين نقيضين رئيسيين، ونقائض فرعية تصب كل منها في واحد من منبعيهما،دون أن يظهر شيء من تنافر أو نشوز في الصورة نفسها.
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن الشعرَ ليس في طبيعته جُزءاً أو نسخة من عالم الواقع،ولكنَّه عالمٌ بذاته مستقلٌ كاملٌ،فإذا أردتَ أنْ تمتلكه كاملاً فلابدّ من أنْ تدخلَ ذلك العالم..
إذن هو عالمٌ يمتلكُ طبيعته الخاصة،ففن كتابة القصيدة له خصائصه وصفاته،وكذلك فن قراءة القصيدة،فهي ليست كأيّ فن أدبي آخر..
أنْ نجمعَ بعضاً من الصُوَر الشعرية التي التقطتها القُدرة المُبدعة على تجسيد الإحساس ونقله من مرحلة الوجود في قلب الشاعر ليكونَ صوتاً يُسمَعُ ويُحَسُّ وفي الآن ذاته يُرافق هذا الصوت صورة مُبدعة تُمثِل لذلك الصوتِ حكايته..
بعضُ الصُوَر الشعرية تظلُّ تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهر اليد كما قال طرفة بن العبد،إنّها صورة،فقط،ولكنها تبدو في ذاكرتك كصورة سقطت فجأة من كتاب قديم،ولاحت معها كلّ الذكريات والوجوه المنسية..
والسؤال :
ألا يبدو لنا كلّ ذلك شبيهاً بانعكاس الوجوهِ على المرايا،و المرايا لا تكذبُ مُطلقاً،لكنَّها تجعلك ترى وقتما شئت،إذا أردت أنْ ترى الصورة وهي تنبضُ بالحياةِ تماماً كقصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي
طوفان من الذاكرة
كلما اختلى النسيم بذاتي
ازداد عمق معاناتي
فما أسعفني الانتظار
وما جمعت شتاتي
وذلك النبض مبتور
يصهل في سبات
تراودني الأماني
تداعبني ذكريات
حيث كنا
نختلي في الليل
نحن منقسمون
من تلابيب القمر
حين كنا
ننشد لحن السمر
ونعيد الحلم كي يبدو فتيا
حتى يبدو النور
من بعد السحر
ونغوص في بحار الحب نسعى
ونعود كلما جن الظلام
نستقي حبا وعشقا
حين كنا
طاهر مشي
لقد وظف الشاعر الكثير من الأدوات والمفردات الشعرية التي جعلت نصه دراما حقيقية تُشاهَد وتُسمع كما تُقرأ ككلماتٍ بالعين، والتي تُشكل محوراً أساسياً من محاور أسلوبيته وشخصيته الشاعرة.فكان الانزياح بأنواعه والرمزية العميقة المحوران الرئيسيان اللذان اتكأ عليهما لإيصال رسالته الراسخة في ذاته.ولم يألُ الشاعر جُهداً في توظيف كل ما يحرك ويهز روح وعقل المتلقي من استفزازٍ شيق ودلالي عميق لكل حواسه،بهدف زجّه في أمواج هذا النص يعاركها ويدور معها حيث دارت..
يُتقِن الشاعر اللعب الاستعاري،بما يحرّك الراكد من أفق تلقّي النص الشعري لدى القارئ،الأمر الذي يرتهنُ إليه نصيب القصيدة من الإبداع،وذلك باختيار زاوية النظر التي تمهّد لموضوعه الأساس، بما يشبه موقف المصوّر البارع الذي يختار موقعًا له يُعينه على التقاط الصورة المعبّرة عن الحدث..
لقد كان د- طاهر مشي موفقاً جداً في تعاطي اللغة الشعرية وتشكيلها وإزاحتها عن معياريتها ليصل إلى غايته،وليوصلنا معه إلى هذه الغاية رغم وعورة المسار وشائكيته التي تتطلب جُهداً وخبرة واطلاعا واسعاً للغوص في الأعماق لاستنباط الدلالات.
أعرفتم الآن لماذا أحببتُ تشبيه الصورة في القصيدة بانعكاس المرايا..؟
ولأنَّ الصورة الشعرية هي رسمٌ لصورةٍ ذهنية في مخيلة القارئ أو لنقُلْ لوحةً فنيةً عميقةَ الرؤى قد لا تخلو هي أيضاً مما يُشبهُ ضربات ريشة فنانٍ رقيقة حول الصورة المعنية..
كانت تلك صورة في منتهى الجمال،استنطقناها بقراءتنا لقصيدة الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي( طوفان..من الذاكرة) والسر،في جمال فن الشعر نفسه،يبقى خالداً،في تلك النبضة الرقيقة وذلك الإحساس الصادقُ الذي يمتثلُ لها،ولتلك اللغة العبقرية التي تستوعبُ كلَّ إيماءة،ويقظة شعور،وتَوَقُد فكرٍ وحضور بديهة من شاعرها ثُمَّ تترجمه حروفاً ليكونَ إبداع القصيدة،على غرار قصيدة شاعرنا السامق د-طاهر مشي..” طوفان..من الذاكرة”
وأخير،وعلى سبيل الختام..قصيدة طوفان..من الذاكرة ” تنبض بملامح وجماليات فنية أخرى وتشابكات استعارية ودلالية عديدة،استطاع بها الشاعر ( د- طاهر مشي) أن يخلق مشهدا شعريا متناغما ومنسجما،مما يعد بأعمال أخرى آتية بزخم شعري خلاق.
وحريّ بكلّ من يقرأ هذه القصيدة أن يعانقَ فيها جماليات اللغة في ألفاظها وتراكيبها،وبدائع الصور في مجازاتها وانثيالاتها،وأسرار المعاني في توهّجها وانهمارها.
*تنويه: عندما أتناول أي عمل شعري استقراءا أو نقدا،أحاول بادئا ببدء الغوص في هواجس الشاعر والتنقيب فيها،محاورا “رموزها وايحاءاتها” غير غافل عن السلامة العروضية بما تشتمله من لوازم واتساق وتناغم الجرس الموسيقي،وكذلك أستنطق المفردات من حيث خدمتها لموضوع القصيدة،ومن ثم أقتفي البديع والمحسنات اللفظية لأخلص في النهاية إلى رؤية شمولية ما استطعت لذلك سبيلا..