سليمان سعد أبو ستة
أمد/ بعد أن أكد الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أن استمرار المقاومة اللبنانية في إسناد غزة حتى وقف الحرب عليها أمر قاطع ونهائي وحاسم، بات من المؤكد أن أمام الكيان -إذا كان حريصا على عدم التورط في حرب إقليمية- مسار واحد لوقف خسارته في الشمال الفلسطيني المحتل، وهو إنهاء الحرب على غزة، ولأن نتنياهو لأسباب شخصية وحزبية وإيديولوجية يريد استمرار الحرب إلى أطول أمد ممكن، حتى بلغ ببعض المصادر الصهيونية أن أكدت أنه يريد حربا لسنوات طويلة في قطاع غزة، فلا مجال أمامه إلا الذهاب إلى تغيير موقف حزب الله المذكور.
ورغم أن حزب الله لا يريد حربا مع الكيان الصهيوني وإنما يلعب -كما أكد- دور جبهة إسناد حيوية وضرورية لغزة، إلا أنه لا يمكن تغيير موقف الحزب إلا بأحد أمرين إما توسيع دائرة المواجهة وتكثيف الضغوط عليه، وهو ما حاول فعله الكيان ولم ينجح، وإنما قوبل بتوسيع مضاد، جعل لهيب الحرائق المندلعة في الشمال الفلسطيني مشهدا ضاغطا بشكل هائل على نتنياهو وائتلافه، ليخرج وكبار قادة حكومته متوعدين بمزيد من الضربات لتغيير الواقع، وصولا إلى مطالبة وزير المالية سموتريتش باحتلال لبنان وتفكيك البنية التحتية لحزب الله.
أما الأمر الثاني والذي لم يتبق أمام نتنياهو سواه إذا أراد استمرار العدوان على غزة: فهو الذهاب إلى عملية عسكرية مباغتة، يهاجم فيها بيروت بقوة، مقدرا -وهو التقدير الخاطئ في ظني- أنه يمكن أن يصل بعد أيام من التدمير إلى اتفاق مع حزب الله ينهي حالة الاشتباك القائمة في الشمال، ويعود مجددا إلى مواصلة حربه إلى غزة.
وقد أشار نتنياهو إلى ذلك بقوله عقب زيارة مستوطنة كريات شمونة قرب الحدود اللبنانية الفلسطينية: إننا مستعدون لعملية قوية جدا، وسبق أن وصف تلك العملية في زيارة لمقر قيادة قوات جيشه في المنطقة ذاتها بأنها ستكون عملية مفاجئة، وهو ما برع فيه نتنياهو من قبل، متناسيا أن الواقع على الأرض بات مختلفا بعد السابع من أكتوبر، وأن المقاومة متنبهة لسلوك الاحتلال ومستعدة له، وتسبقه بخطوات في الأغلب.
ولو كان نتنياهو في وضع داخلي أفضل من الناحية السياسية، ولا يخشى تفكك ائتلافه الحاكم، وعدم فوزه مجددا في الانتخابات القادمة، ولا يخاف من تحميله مسؤولية الفشل الذريع في السابع من أكتوبر، ومسؤولية عدم نجاحه بعد ذلك في تغيير الواقع في غزة، لو لم يكن كذلك؛ لذهب إلى اتخاذ قرار خبيث بوقف العدوان إلى غزة واستعادة أسراه عبر صفقة تبادل، ووقف التصعيد في الشمال، ليباغت بعدها المقاومة في لحظة ملائمة له ولكيانه، لكن المصالح الشخصية واللحظة المفصلية الحرجة للكيان هي التي جعلته أمام أخطر مأزق في تاريخ الاحتلال.
الولايات المتحدة تدرك أن الحرب في الشمال حتمية ما لم يتم وقف العدوان على غزة، ولذا تبذل كل جهودها لإقناع نتنياهو بذلك، لتحول دون حرب إقليمية كبرى محتملة قد تنفجر في أي لحظة إذا هاجم الاحتلال لبنان، وهو ما يعد المسار البديل لما حاولته فرنسا عبر جهودها لإقناع حزب الله بالفصل بين الساحات المقاومة تجنبا لأثمان كبيرة يدفعها الحزب والدولة اللبنانية.
لكن حزب الله بوعيه السياسي يدرك أن تلك الأثمان ستدفع سواء إذا استمر في إسناد غزة أو توقف، لأن الكيان بعد السابع من أكتوبر بات مدركا لحجم الخطر الوجودي الذي تمثله حركات المقاومة على الحدود المحيطة بفلسطين.
فإذا كان ألف من النخبة القسامية قد هددوا وجوده في صباح ذلك السبت، فكيف بوجود عشرات آلاف المقاتلين شمالا وجنوبا، والذين باتوا أكثر جرأة، وأكثر إدراكا لحجم ضعف الاحتلال، وعجز قوته التدميرية الهائلة عن حسم المعركة، وهو الخطر الذي يريد الاحتلال إزالته كليا في غزة عبر المعركة الحالية، وفي لبنان عبر معركة قادمة لا محالة.
ويبدو أن الكيان اليوم يعيش اللحظة التي عاشتها المملكة الصليبية قبيل تحرير القدس في حطين، حيث وضعهم صلاح الدين أمام ممرين إجباريين بحصاره طبريا، إما تركها تسقط، وإما الذهاب لإنقاذها في ظروف غير مواتية لهم، ومناسبة جدا لصلاح الدين وجيشه، سواءً من ناحية التوقيت أو الجغرافيا أو الاستعداد المسبق.
واليوم الاحتلال أمام خيارين: إما وقف الحرب إلى غزة أو الذهاب إلى حرب مدمرة، ليس مع حزب الله فحسب، وإنما أيضا مع المقاومة في غزة، والتي ما زالت في تقدير كثير من المراقبين تحتفظ بالغالبية العظمى من قوتها البشرية والعسكرية، وتنتظر الفرصة المناسبة لمواجهة تكسر الاحتلال وتحقق أهداف الشعب الفلسطيني.
علما أن الاحتلال يذهب إلى تلك الحرب، وقد عاش حالة استنزاف كبيرة، جعلت محللين عسكريين صهاينة يتحدثون بشكل واضح عن التآكل الجسدي والنفسي لجنوده، بعد حرب طويلة لم يُهيئ لها في قطاع غزة، وبعد مواجهة استهلكت جزءاً مهولا من ذخائره وذخائر حلفائه، استهلكت في واحدة من أكبر حملات القصف الجوي في التاريخ، دون نجاح جوهري في استهداف قوى المقاومة بغزة.
كما خسر الاحتلال غالبية شرعيته الدولية، وخسر صورته، وبات مطلوبا للمحاكمة وموضوعا على القائمة السوداء للأمم المتحدة، وعبئا على حلفائه وأنصاره، ومحملا بكل ذلك ليس أمامه إلا وقف الحرب إلى غزة، والاستجابة لمطالب مقاومتها، أو الذهاب لحرب واسعة لا يدري أحد نهايتها ولا امتداداتها.