أمد/
هوذا الشاعر التونسي الكبير د-طاهر مشي..عيناه ترصدان الإبداع المتمثّل سنابل شعرية..تنحني للقطاف.
هي سيرة حياة مذهلة،اعتبرها أطول -قصيدة-كتبها،جبلها من ترابه ورصعها بفسيفساء متقنة اكتنه اسرارها وعبث بالوانها.
بدا لنا كذواق يلتهم الزمن ويتأنى في تذوقه،ينافس نفسه بصدق وعناد،ويأبى أنن يقلب حياته على جمر حارق.
أحب الحياة كعاشقٍ ابدي مهما جانبت توقعاته،وانتصر دوماً على ضعفها وراودها عن اذيّته، وواجهها بملامح ونظرات جُبلت بالتحدي والصبر والذكاء.
والحياة عنده قطار طويل وسكة ومحطات ولذة ارتحال..والكتابة عنده رحلة لا يرجو منها وصولاً ولا راحة…هي نسق حياة،سبحة لا نهائية..ومحطات عديدة ،وظل يُكمل بهجة الاستكشاف،يعاند الصعوبات،ويحوّل التعب الى ثمار،والثمار الى لذة…
هو شاعر فذ وقاص مثابر مُجدّد،يراهن على الكلمة وامداء وحيها،يصطفيها كميثاق خلاص، يرميها كنردٍ اكيد من ربحه او يناوشها كأفعى في جحرها.
إن التكامل الجمالي -في قصائد هذا الشاعر المتألق-تونسيا وعربيا -يكمن في روح البناء الكلية من حيث الشفافية والعمق والتماسك الجمالي بين الأنساق،فثمة قيمة جمالية في الاندماج والتلاحم بين الأنساق الوصفية والمضافة،مما يرتد على إيقاع القصيد بشكل عام،لاسيما في العلاقات الجدلية التي تعطي جمالياتها على الشكل النسقي التضافري الذي تشكله -القصيدة-.
إن خصوصية التجربة الشعرية والقصصية لدى د-طاهر مشي- تمتاز باكتنازها بالرؤى والدلالات المراوغة التي تباغت القارئ في مسارها النصي،وهذا يعني أن الحياكة الجمالية في قصائد وقصص د-طاهر-حياكة فنية يطغى عليها الفكر التأملي والإحساس الوجودي،وكشف الواقع بمؤثراته جميعها..
إن الحياكة الجمالية في قصائد وكذا قصص-د-طاهر مشي-ترتكز على المخيلة الإبداعية،ومستوى استثارتها،الأمر الذي يؤدي إلى تكثيف الرؤى،وتحقيق متغيرها الجمالي.
ذهب في -قصائده-الى اقاصي العذاب كما الى اقاصي العشق،متقناً شهوة الاسترسال وبراعة الومض..يكتب ويكتب وكأن الكلمات تتوالد وتنساب بسعادة الى ناشره بسهولة الى القارئ من اصابعه المتعرشة على قلم لا ينضب حبره.
لا يحاول -الشاعر التونسي القدير د-طاهر مشي-أن يسترضي قارئه او يستميله او يمجّد ابداعاته العذبة.هو يصافح البؤس البشري،ويروي -أحيانا-سقوط الانسان في هاويته،ويفتح بجرأةٍ ستارة تفضح ما نوّد ان نخفي لإراحة ضمائرنا..يكتب الحياة مشدداً على وجهها المُعتم كي يحتفي ببهائها المتعالي على التراب المُعّفر.
ختاما أقول :
مثل ساحر متمكّن يقود -د-طاهر مشي-القارئ في كل قصيدة من قصائده،أو في كل قصة من أقاصيصه -اللذيذة-،يقوده سيرا حيناً وركضا في الكثير من الأحيان. نتابع الكلمات والأحداث بلهفة الفضول والحيرة ونلتهم الكلمات التهاما،ومن ثم لا نملك فرصة للهرب من فتنة سرده،منذ أول جملة في القصيدة أو القصة،حتى آخر نقطة في آخر صفحة.
لا نستطيع أن نهرب من فتنة حكاياته المتداخلة،حيث تتحول اللغة إلى مجرد أداة،وتصبح بالتالي مثل إزميل النحات أو فرشاة الرسام،ولا تكون في أحيان كثيرة محور القصيدة أو القصة،مثلما تعودنا من بعض الكتاب العرب الذين يهتمون باللغة وزركشتها على حساب الحكاية وأحداث البنية القصصية أو الشعرية.
سواء في القصيدة أو القصة القصيرة تكشف لنا أعمال الشاعر والقاص التونسي القدير د-طاهر مشي عن مدى قدرته على الانتفاع من معارفه الأدبية والثقافية والفكرية،بدون أن يسقط في نرجسية «ذات الكاتب»،التي تقول: «أنا موجود بالقوة».وإنما يستثمر كل ذخائره مراعيا حدود الجنس الأدبي،ومحافظا على الحس الجمالي والأثر الفني للعمل الأدبي.
ختاما أقول :
الشاعر التونسي السامق د-طاهر مشي،إنما هو شاعر يكتب بحبر الروح ودم القصيدة،تخضع المفردات لأحاسيسه الجيّاشة،فتنتظم أجمل القصائد وأكثرها شاعريّة،معجم مفردات ثريّ قائم بذاته، تتناثر الكلمات منه كورود شاردة من حطام الحياة،تلامس عباراته شغاف القلب-فنرقص على ايقاعها-رقصة زوربا اليوناني-
كلّ لحظة يعيشها،نعيشها معه في قصيدة تخترق وجداننا،وتلامس أرواحنا.
تحبس مشاعره الكون،فتتحرّر قصائده محمّلة بأسرار الأرض ومكنونات السّماء،ولعلّ الوضع السّياسيّ الّتي تمرّ به بلادنا العربيّة،جعلت-أحيانا-من اليأس تربة خصبة،ليزرع فيها قصائده الحزينة كما ناي مكسور،لتنمو في الرّوح كسيف ينصل الأوصال بقسوة.
خير مدافع عن اللغة العربيّة الّتي يعتبرها الهويّة والأصل والجذور،كتب القصيدة الخليليّة،واستهوته قصيدة التفعيلة والنثر.
وسار على درب الإبداع بخطى ثابتة..مثل خطى الأنهار في حقولٍ، تجري فيها وتكسوها ثياب الاخضرار.
شعره يصدق وصفه بأنه حقولٌ تترامى فيها السنابل الذهبية المتمثلة بحبَّاتها،والرّائية إلى روّاد قطافها القادرين على النفاذ إلى الجوهر الشعري،الممتلك جاذبيّة كأنّها السحر الحلال،وليد الخيال الخلاق.
أنت حر كالسحاب..يا ” الطاهر”..مبارك عطاؤك المتميز..وإلى المزيد منه.وأدعو الملحنين إلى تلحين نماذج من أشعارك،كي يتغنى بها القادمون..في موكب الآتي الجليل..