مهدي مبارك عبد الله
أمد/ يعد التسلل تكتيكًا عسكريًا يهدف إلى التقدم نحو المناطق الخلفية للعدو من خلال استغلال الثغرات في دفاعاته لتجاوز خطوطه الأمامية أو دفاعاته واختراق الحدود والتحصينات بعيدًا عن الرقابة وفي حالة الصراع الدائر بين قوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال الإسرائيلي تبرز عمليات التسلل لغايات تنفيذ عمليات هجومية أو استطلاعية داخل حدود الأراضي الفلسطينية المحتلة بهدف إجبار الجيش الاسرائيلي على التراجع أو الانسحاب وتقليل قدرته على المناورة وتكبيده خسائر على مستوى الأفراد والاليات
العقيدة العسكرية والقتالية المتقدمة لدى فصائل المقاومة تراعي بشكل دقيق خصوصية القطاع وحجم التهديد الإسرائيلي والتسليح المتوفر لديه ولهذا اعتمدت خططا عسكرية بشكل مستدام ومنظم مع التغيير المتواصل في وسائلها وتكتيكاتها العسكرية بما يفقد الاحتلال قدرة العمل الاستخباراتي لجمع المعلومات عن المقاتلين وطرق عملهم التي سرعان ما تتغير من عملية الى اخرى
في تحدي حمساوي سافر بعد 244 يوم من الحرب وضمن مفاجأة ميدانية وعملياتية جريئة ومدروسة نفذت عناصر مؤهلة ومدربة من كتائب القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس يوم الخميس الماضي 6 / 6 / 2024 تحت غطاء من الضباب عملية تسلل خلف خطوط العدو تمكنوا خلالها من اختراق السياج الحدودي الفاصل في غلاف غزة بالمنطقة الواقعة بين كرم أبو سالم وحوليت عبر نفق قديم لم ردمه وذلك عند الساعة الرابعة فجراً ومهاجمة مقر قيادة فرقة الجيش الاسرائيلي 162 العاملة في مدينة رفح جنوب قطاع غزة والتي ادت الى قتل جندي اسرائيلي عربي يدعى ( زيد مزاريب ) من بلدة الزرزير شمالي إسرائيل ويعمل قصاص أثر في الجيش الإسرائيلي كما أصيب في الحادث جنديان آخران واستشهاد ثلاث مقاتلين من حماس بعدما استدعى جيش الاحتلال للمكان دبابة وطائرات لاغتيالهم حيث كانوا مسلّحين بالرشاشات الالية والقنابل وقذائف آر بي جي وقد نجح أحد المقاومين بالانسحاب والعودة سالما لقطاع غزة
بيان كتائب القسام المقتضب حول العملية البطولية يعيد الى اذهاننا المشوشة وذاكرتنا المتعبة بعض من سجل الفخار لعمليات التسلل والإنزال السابقة التي نفذها ابطال المقاومة الفلسطينية خلال الحرب على غزة عام ٢٠١٤ والتي كان أبرزها ( إيريز وناحل عوز وأبو مطبيق وزيكيم ) وغيرها من العمليات ذات التحولً الاستراتيجيً في التكتيكات الهجومية وإدارة المعركة
اجتياز السياج الحدودي والتسلل خلف خطوط العدو نفذ في محور الجهد الرئيسي لجيش الاحتلال في منطقة رفح ليكون بمثابة دليل جديد تقدمه المقاومة من الميدان مباشرة تبعث فيه عدة رسائل سياسية وعسكرية تشير فيها إلى قدرتها على تنفيذ عمليات نوعية وصعبة باعتمادها على التخطيط المنظم وجهوزية المقاتلين والمعلومات الاستخبارية الدقيقة في تحديد الاهداف واختيار التوقيت والمكان المناسبين بعد معرفة عناصر الكوماندوز بنقاط الضعف والثغرات الامنية حول السياج ومعاينة عمق وتعقيد البنى التحتية في الموقع والتغلب عليها
وهو ما يؤكد جليا بأن الاحتلال لا زال بعيد جدًا عن أي ادعاءات واهمة وكاذبة بتفكيك وهزيمة العديد من فصائل المقاومة والثابت انه حتى الان لم يستطيع تحيد ابسط القدرات الهجومية في مناطق العمليات الرئيسية بعد مراجعة قيادة كتائب القسام الميدانية وفصائل المقاومة الفاعلة خططها على الأرض واستخلاصها للدروس والعبر من مرحلة المواجهات السابقة وابتكارها التقنيات والتكتيكات القتالية الاحدث التي تحددها طبيعة المعارك
من الناحية العسكرية ورغم الواقع الميداني الخطير والمعقد الذي جرت فيه العملية خاصة في ظل انتشار ٦ ألوية قتالية عسكرية داخل مدينة رفح جنوب قطاع غزة تدعمها امكانات لوجستية وقدرات استخباراتية كبيرة ومتطورة الا ان المهاجمين الاربعة تمكنوا بعد خروجهم من عين النفق تجاوز السياج الحدودي وجميع الألوية القتالية المنتشرة في المكان وصولا الى َمقر قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي واستهدافها بشكل مباشر اما في البعد السياسي فقد جاءت هذه العملية مع تهديد وتعنت نتنياهو وتفاخره المستمر بالسيطرة العسكرية على القطاع كما تزامنت مع انسداد افق المفاوضات لوقف العدوان وانجاز صفقة تبادل الاسرى
هذه هي المرة الأولى منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي التي تعلن فيها القسام عن اختراق بعض كوادرها للسياج الفاصل بين غزة والأراضي المحتلة حيث كشفت العملية النوعية والمتميزة من جديد عن حجم واهمية الأوراق التي ما زالت تحتفظ بها المقاومة وانها قادرة بعد ثمانية شهور من الحرب على إدارة العمليات القتالية واستنزاف قوات جيش الاحتلال والوصول الى عمق تحصيناته العسكرية الاولية بعقلية عسكرية متزنة وبعيدًة عن ردات الافعال العشوائية بعدما اظهرت عناصر حماس أساليب وتكتيكات قتالية دقيقة من حيث الانسحاب السريع بعد الهجمات الاسرائيلية والاختباء في اماكن امنة ثم إعادة التجمع مرة أخرى في عدة مناطق اعتقدت إسرائيل أنها خالية كليا منهم
في ذات السياق وخلال محاولات تحديث وتطوير اساليب المواجهة تجنب مقاتلو المقاومة الدخول في اشتباكات لفترات طويلة مع كل توغل لجنود الاحتلال وانتظار انتشارهم وتمركزهم ثم نصب الكمائن لهم وشن الهجمات عليهم بالقنابل البدائية الصنع ومدافع الهاون المختلفة اضافة الى اتباع اسلوب الكر والفر السريع لإحباط محاولات الجيش الاسرائيلي للسيطرة على مناطق عدة في القطاع وللحد ايضا من الخسائر البشرية في صفوفهم حيث اتاحت هذه التكتيكات المدروسة لعناصر حماس مواصلة القتال لأشهر
بالدعم المتواصل من الأسلحة المهربة إلى غزة عبر شبكة الانفاق تحت الأرض بطول 500 كيلومتر كما تمكنت حماس من بناء قدراتها القتالية بالأسلحة التي يجري إعادة تصنيعها من الذخائر الاسرائيلية غير المنفجرة أو التي تم الاستيلاء عليها من الجيش الإسرائيلي وبعد مرور 17 عام من الحصار المطبق بقيت كتائب القسام تتربع على عرش الجهاد والمقاومة في أرض فلسطين بعدما أصبحت أشد بأس وقوة وأكثر عنفوان وأتقن تنظيم وتطورَ في أدائها العسكري بشكل نوعي مضطرد على كافة جبهات الفتال
اللافت هنا انه وفي حالة نشوة فريدة وزيادة الثقة بالنفس والقدرات القتالية وضمن حملة دعائية موازية عمل بعض مقاتلو حماس على تصوير مقاطع فيديو للكمائن التي ينصبونها للقوات الإسرائيلية قبل أن يقوموا بإدخال تعديلات فنية عليها ونشرها على موقع تلغرام وتطبيقات التواصل الاجتماعي الأخرى حيث تحولت الصورة إلى سلاح فتاك ورمز قوي لهذه الحرب وشاهدة على اجرام وبشاعة الاحتلال الإسرائيلي وعنصرية الفكر الديني المتطرف الذي يغذّي عقيدة قياداته وجنوده والتي كانت الدافع الاول لخسارة اسرائيل صورتها لدى شرائح واسعة من الرأي العام العالمي الذي خرج في معظم دول العالم بشكل تلقائي لمناصرة الفلسطينيين وهو ما اثار جنون وعضب تل ابيب بعدما حشرت انسانيا وسياسيا وقانونيا في الزاوية الحرجة
العدوان القائم على قطاع غزة يشكل أطول وأشرس صراع تخوضه إسرائيل منذ اجتياحها لبنان عام 1982 وبغض النظر عن حيثيات ونتائج عملية التسلل القسامية خلف خطوط العدو والتي ليس بالضرورة ان توقع خسائر كبير في صفوف الجنود الاسرائيليين حيث يكفي ان تقوم المقاومة الفلسطينية بعملية خارج السياج الفاصل في هذه المرحلة النضالية الحساسة والصعبة لتؤكد أن حماس ما زالت تملك زمام المبادرة والقدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية حول قوات الاحتلال والتخطيط والتحرك المفاجئ لتنفيذ هجمات متقدمة ضدها حيث لا تزال فرق المقاومة تحتفظ بالكثير من حيويتها وبنيتها التحتية من خطوط اتصالات وأنفاق وذخيرة والتصنيع والسيطرة ومتابعة عمليات الرصد واتخاذ القرارات الميدانية المؤثرة كما اكدت الأيام الأخيرة للمعارك تمكن كتائب القسام من إعادة التموضع وتجديد قدراتها القتالية واعادة الانتشار في كافة مناطق القطاع التي انسحب منها جيش الاحتلال
باعتراف عسكري إسرائيلي موثق المقاومة باتت تمتلك القدرة الكبيرة على انتهاج تكتيكات عمليات هجومية بمجموعات صغيرة مكتفية ذاتيًا تنفذ ضربات نوعية خلف خطوط العدوّ باستخدام السلاح المناسب في الوقت المناسب على طول محاور تقدُّمه وان إسرائيل بزعامة النتن ياهو ومجلس عصابته المصغر بلا ادنى شك أخطأت الحسابات والتوقعات حين راهنت في عدوانها على المقاومة في غزة على طول أمد الحرب لانهاك المقاومة وفقدانها الاندفاع والحافز والمبادرة ونفاذ ذخيرتها وبالتالي اعلان هزيمتها واستسلام مقاتليها امام هذا التدمير الهائل والقتل المرعب الذي سيصيب عناصر المقاومة بالصدمة والخوف والارتباك والتشتت
على ارض الميدان كل هذه التوقعات والتمنيات سقطت وفشلت امام قوة وعنفوان كافة فصائل المقاومة وصمود ابناء عزة وجراء ذلك الواقع المرير خسرت اسرائيل مكانتها العسكرية والسياسية والانسانية والمعنوية واصبحت على القوائم العالمية السوداء قاتلة مجرمة للأطفال ومنبوذة دوليا بعدما كشف العالم كذب وتضليل وزيف السردية والرواية الاسرائيلية اثر ( هولوكوست غزة الدامي ) في المقابل بات من الواضح ان المقاومة في غزة ازدادت تماسكا وفاعلية مكنتها من المواجهة والتحدي ومضاعفة العمليات النوعية وهو ما جعل مظلومية الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته تعود من جديد لتتصدر العالم باسره بعدما بلغ عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع ازيد من 36096 فلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال و81136 مصاب وقرابة 10 الاف مفقود
السؤال الأكثر أهمية والذي يطرح نفسه بإلحاح هو كيف تمكن المسلحين الفلسطينيين من التسلل بهذه البثقة الكبيرة واجتياز كافة منظومات الحراسة وقوات الجيش الإسرائيلي والدبابات وناقلات الجنود المدرعة وقوات المشاة والهندسة والطائرات في الجو وعمليات المراقبة المستمرة على مدار الساعة في منطقة السياج الذي يتألف من طبقات متعددة من التكنولوجيا والدفاعات المادية الحديثة جدا لتعزيز الأمن والسيطرة اضاقة الى وجود سور طويل ومرتفع ومحصن ومزود بأسلاك شائكة وكميرات مراقبة
في المحصلة مجمل ما يمكننا تأكيده هو ان العملية كانت رسالة واضحة على استمرار جاهزية وقدرة المقاومة ليس فقط على صد الهجمات الإسرائيلية بنمط قتالي دفاعي بل ايضا قدرتها على تنفيذ هجمات تظهر المرونة التكتيكية العالية لدى عناصرها مقابل قوات الاحتلال التي تعاني من حالة ( العمى الاستخباري ) ونفاد بنك الأهداف العسكرية الحيوية والهامة لذا لجأ الجيش الاسرائيلي في اكثر من معركة إلى الالتماس المباشر والتوغل العشوائي من أجل صناعة أهداف دعائية وهمية خلافًا لتكتيكه التقليدي القائم على ضرب جزء مهم من الأهداف قبل عمليات التوغل وهو ما أفقده مرونة الحركة والقدرة على المناورة وجعله جيشًا ثقيلًا يشبه ( سرب بط ) يسهل اصطياده مقابل مقاومين خفيفي الحركة وذوي رشاقة ومرونة ومهارات قتالية عالية
على الجانب الاخر لا زال رئيس الوزراء الإسرائيلي النتن ياهو يعتقد بأنه يستطيع التهرب من وضع خطة منطقية عاجلة لإنهاء الصراع في غزة بألاعيبه السياسية المكشوفة وتعليقه الوقت على شماعة خلافاته الداخلية مع الاحزاب والتيارات المختلفة وامام ذلك نجد انه قد حأن الوقت المناسب والضروري ليمارس العالم كل الضغوط اللازمة لإيقاف هذا العدوان الاجرامي الظالم وحرب الإبادة الجماعية المنظمة ضد ابناء الشعب الفلسطيني الاعزل خاصة وان الاحتلال لم يستطع حتى الساعة بترسانته العسكرية الضخمة أن يحقق أي من أهدافه المعلنة أو السرية التي قدمها في بداية الحرب بينما وفي ذات الوقت استطاعت كتائب القسام وفصائل المقاومة الاخرى تنفيذ عمليات نوعية متعددة خلف خطوط العدو قتلت وأصابت العشرات واوقعت بعض الجنود في الأسر لتصنع في كل موقعة كبرياء وشموخ بارقة الامل للنصر المرتقب الذي سيخلص الأمة من ذلها وخنوعها ويستعيد أمجادها الأولى
الخلاصة لجل ما ورد بين سطور هذا المقال تؤكد بأن المسار الاستراتيجي للمعركة يسير ميدانيا لمصلحة المقاومة والنصر حليفها بأذن الله رغم شراسة العدوان وبشاعة القتل والاجرام والدمار بعجنا وضع جيش الاحتلال في مأزق عملياتي واستراتيجي غير مسبوق في كافة حروبه السابقة ومن ناحية أخرى فإن إمكانية التوصل إلى اتفاق هدنة ما زالت عصية ومستبعدة في ظل غياب الرؤية الإسرائيلية العقلانية بسبب جملة تناقضات سياسية وعسكرية تتجدد وتتفاقم يوميا داخل اروقة الحكومة الاسرائيلية المصغرة التي يسطر عليها تيار اليمين المتطرف الذي يمارس اقصى السياسات العنصرية والعدوانية تجاه الشعب الفلسطيني بصيغ دينية متعصبة ومدعومة بمرجعيات توراتية مزورة وتصورات سياسية مضللة