أمد/
نستطيع وبكل أريحيّة أن نقول: أنّ الرواية الآن في عصرها الذهبي، ولم تزل صاعدة نحو أفقٍ بعيد ومتجدد؛ ولذا تعددت أشكالها، واختلفت أنماطها، حتى اضطررنا إلى النظر مرة أخرى في قضية التجنيس لفن الرواية.
إنّ تعددية أنماط الكتابة الروائية، وانفتاح الرواية على الأجناس الأخرى، طوّر من أدائية الشكل في البنية السردية، بل انعكست هذه التعددية على الموضوع (المضمون) الروائي ذاته، حيث استطاعت الرواية أن تستجلب إلى حقلها كثيرا من الموضوعات التي لم يكن يحفل بها ميدان الرواية من ذي قبل.
ومن هنا تتوجّه هذه القراءة إلى رواية ” أنا والمستحيل” للكاتب عبدالسلام خليفة، والتي اتخذت مسارا مغايرا – تماما – ومختلفا عن الأشكال المعهودة في الكتابة السردية الروائية، فالرواية قسيم مشترك بين الفلسفة الحياتية بوصفها مرتكزا رئيسا في الرواية من حيث مضمونيتها، وبين الشعريّة المتعالية في البناء السردي للرواية، إذ لا تتوقف (الشعرية) عند حدود الشعر بوصفه جنسا أدبيّا، ولكن الشعرية اخترقت كل مجالات الفن الكتابي بداية من الشعر حتى القصة الومضة.
وعند مطالعتنا لرواية ” أنا والمستحيل” لعبد السلام خليفة، وجدناها تنبني في أفق الفلسفة، وتتعالى من حيث أسلوبية التعبير بشعريتها، التي كانت سببا مباشرا في اندثار البنية السردية – أحيانا- تحت وطأة اللغة الشعرية، التي اعتمدها الكاتب أسلوبا مناهضا للسرد، ولعل لهذا الجنوح تجاه الشعر دلالات نتعرض لها في حينها.
في البداية انبنت الرواية في أفق الحوار المتخيّل بين الأنا، والتي تنشطر بين (أنا) الماضي وبين (أنا) الحاضر، ويتصدر (المستحيل) ليكون نتاجا لمتخيّل (الأنا) والتي شطرها الوقت بين ما حققته في الماضي (التاريخ) والذي يمثل التاريخ العربي على امتداده الماضوي، وبين ما ينتظر هذه الأنا في مستقبلها، ولكن (المستحيل) يقف حائلا بين الذات وحلمها المؤجّل في الأفق البعيد، والذي لا يبدي وميضا يبشر هذه الأنا بما سيؤول إليه حالها.
ارتكزت الرواية على الحوار المتخيّل بين التاريخ والأنا، وبين الماضي والحاضر، وبين الانكسارات والأمل. ولكن الروائي جعل من هذه الأيقونات: التاريخ/ المستحيل/ الماضي/ الحاضر/ الانكسارات/ الأمل شخصيات لها وجودها الحقيقي. وتمثل هذه الشخصيات الجانب السّايكولوجي لـ (الأنا) والتي تتجلى رؤيتها للعالم في إطار فلسفي محض، تخضع فيه (الأنا) لسلطة الفلسفة بوصفها ميدانا من خلاله يتجلى الوجود وهو متدثر بعباءة الذات التي سلّمت قياد أمرها للفلسفة الوجودية. ولذا دخلت الشعرية مخترقة بنية السرد، بل تعالت عليه أسلوبا وبناءٍ وتركيبا، حتى انمحى السرد في بعض المقاطع وتماهى مع الشعرية في أطر الجمال، وكأنّ الشعرية كانت المخرج الوحيد الذي من خلاله يستطيع عبدالسلام خليفة أن يتخطّى حدود واقعه؛ فالسرد يقوده الواقع، والشعر يتخطى الأخير، والذات الساردة واقعة في إشكاليّة الواقع ذاته، وهي رافضة له، ولذا كانت اللغة الشعرية هي المخرج الوحيد الذي يتحقق من خلاله الوعي الممكن الذي تصبو إليه أنا السارد.
وهنا تنشطر الرواية بين الفلسفة بوصفها ركيزة لرؤية الأنا الساردة وبين اللغة المتعالية التي يحاول الروائي من خلالها كسر نمطية العالم/ الواقع.
تنبني رواية ” أنا والمستحيل” على أساس انشطار الهوية، تلك الأخيرة التي تتخذ أبعادا مختلفة في الرواية، فالروائي يبحث عن هوية الذات، والهوية العربية، وهوية الإنسان، وهوية الجنس الروائي الذي يمارس عليه عبدالسلام خليفة فعاليته الكتابية من خلال البناء السردي. وهذا الانشطار الهووي لم يقف عند حدود (الأنا) ولكنه تخطّى الأنا (الذات) إلى (أنا) الرواية نفسها، فالرواية هنا تعاني – أيضا – مشكلة هويتها، لما تعددت أنماطها واختلفت أنواعها، وتماهت مع الجنوس الأخرى. والكاتب يحاول إعطاء نمطه الروائي المغاير والملبس شرعيّة الوجود، إذ الرواية كتبت بأسلوب لا يمت بصلة إلى ما عهدناه من قبل من أشكال الكتابات السردية، ونالت رواية ” أنا والمستحيل” شرعيّة وجودها على يد كاتبها من وجهة نظرٍ تخصه، لآن هذا النمط الذي جاءت به الرواية يتناقض في شكله ومضمونه مع المعهود الروائي، حيث انطمرت الرواية في كليتها تحت سقف الفلسفة الرئوية، وتوزعت الفلسفة في الرواية بين الشكل الذي تأثر كثيرا بأنماط التفكير الفلسفي، وبين المضمون الذي انبنى هو الآخر على قاعدة الفلسفة. نحن نؤمن – تماما – بوجود ما يسمى بالرواية الفلسفية، ولكن النسق السردي الذي جاءت به رواية ” أنا والمستحيل” يختلف كثيرا في المبنى والمعنى على حدٍّ سواء.
ظلّ المستحيل قابعا في أفق الذات حتى تكسّر هذا المستحيل على وميض الحلم الذي تحقق في واقع الذات الجديد مع (خديجة) هذه الأنثى التي استطاع وجودها أن يغير ملامح الوجود ذاته، فأصبح المستحيل سرابا مع وجود الأنثى (خديجة) التي انخلقت بها الذات من جديد، وتحققت من وجودها في العالم، وكأنّ الأنثى ستظل هى الملكوت الذي به تتحقق الذات من وجودها.
تحتاج رواية ” أنا والمستحيل” إلى عملية توصيف جادة فنحن في صدد عمل أدبي تبحث فيها الذات عن هويتها المنشطرة بين ماض له حضوره القوي في الحاضر، وبين مستقبل غائم يحجزه الحاضر بملابساته. والذات تعاني ضياع هويتها، وهذه التجربة المريرة التي تعانيها الذات أثرت وعن طريق اللاوعي في نمط الكتابة الروائية. ونستطيع القول: أنّ هذا النمط المغاير والمختلف لجنس الرواية بصورتها المتعارف عليها، هو انعكاس حقيقي لمعاناة الذات، فالشكل أو البنية ما هي إلا مرايا تتجلى عليها (الأنا) وتطلعاتها للوجود.
حاول عبدالسلام خليفة أن يكون له نمط كتابي مختلف، ولكن هذا النمط المتوزع بين سردية التجربة وشاعرية اللغة، ومركزية الفكر الفلسفي في حاجة إلى إعادة نظر في قضية التجنيس الروائي، فالرواية مازلت تتسع لأنماط مختلفة وأشكال متعددة.
ولعلنا في مرحلة لاحقة نحصل على كتابات تشبه كتابة عبدالسلام خليفة ليكون لدينا دليل قاطع على شرعيّة وجود هذا النمط الكتابي لفن الرواية المعاصرة.