أمد/
يا حاديَ العِيسِ خَفِّفْ صَيحةَ الحادي
وقُلْ لهُ قد مضى للنومِ عُوّادي
اسرِعْ كما شئتَ ، هذي مَحضُ راحِلَةٍ
فليسَ تبلغُ فرساناً بأجيادِ
وَهَدِّئ السَّيرَ ، هذا الدربُ أنتَ له
نجمٌ يقودُ إلى بَحرٍ وأَنْجادِ
تعالَ واقضِ معي ليلاً يُسَّهِّدُني
فلم يعُدْ قمري يحنو لإسْعادي
وَجُدْ عليَّ لعلّ الرّكبَ يحملُني
لأبلغَ الدارَ في أحضانِ أجدادي
تلك التي نَهَبوها ذاتَ محرقةٍ
وقطّعوا قلبَها في صدرِ أولادي
هذي البلادُ تعالت فوق مشنقةٍ
فضاؤها دَمُنا يَروي فَمَ الصادي
والصاعدون لها بالجرحِ تحسبهم
مجرّةً حولَ رُوحِ الرّائحِ الغادي
سرى إليها ذبيحُ الفجرِ فانسَكَبتْ
معارجُ الضوءِ كَشْفاً في رؤى البادي
***
يا الناصريُّ على الغيماتِ كنتَ لنا
بُشرى النّوارسِ في أعراسِ ميلادِ
علّمتَنا أنّ يومَ الأرضِ قنطرةٌ
من النجيعِ إلى أعتابِ أمجادي
وقلتَ: ما من كراماتٍ ستجمعُنا
إنْ ظلَّ قاتِلُنا ، أو طالَ إبعادي
علّمتنا كيف نبقى في مرابِعنا
وَشْماً على الجذعِ أو نَصْلاً لِحَصّادِ
هتفتَ في الشجرِ العالي فما برَحَت
أغصانُهُ وتراً في شَهْقةِ الشادي
وكنتَ مَن أشعلَ النجماتِ موقدةً
لتحرقَ الليلَ في سجّانِ أجسادي
بقيتَ في الصخرِ نبعاً فائضاً ويداً
تهدِّمُ الحقدَ أوثاناً بأطوادِ
وكلّما حزّت الأحزانُ أغنيةً
من خافقيكَ تعالت شمسُ إنْشادي
وفَجّرَ الكرزُ الدّامي مجامرَهُ
وحَمْحَمَ السّرُّ في شريانِ آسادي
وفَزّ من نهركَ الموّارِ أحصنةٌ
أعرافُها صَهْدُ أصداءٍ لوقّادِ
نداؤكَ الأرضُ، ما صَغَّرتَ قنطرةً
تقولُ: ما ضلَّ مَن صَلّى بأورادي
وشِعْرُكَ الماءُ يهمي فوق كَرْمِلِنا
يرنِّقُ الزّهرَ رُمّاناً بأكبادي
فما عليكَ إذا صِحْنا على وَجَعٍ..
وما تقوَّلُهُ ،في الشِعرِ، نُقّادي
لسوفَ تبقى من الألحانِ أجمَلها
ودربُكَ البرقُ أسيافاً لأغمادِ
وخَطوكَ الرّعدُ غيّاثاً لمَن عطِشوا
وحرْفُكَ الحُرُّ آفاقاً لآمادِ
صهيلكَ الموجُ يسري نحو مَن خرجوا
حتى يعود إلى السُّمّارِ أحفادي
ونفتح الدّارَ شبّاكاً وأغنيةً
إلى المشيمةِ في أرحامِ ولّادِ
ويرقصُ البيدرُ البدريُّ ثانيةً
وقد تغافلَ عن ذئبٍ وأحقادِ
ويرقصُ الظبيُ من عشقٍ إذا جرحت
رموشُهُ نابضي.. إذ راحَ حُسّادي
وإنْ تناسى طغاةُ العصرِ ما اقترفوا
هتْكَاً بِبيتي وأشجاري وأعيادي
فإنّه الطينُ يبقى فوقَ زلزَلةٍ
والنارُ تَصْهدُ من بركانِ أصفادي
***
يُصالِحون على الأشْهادِ قاتلَهم
ويفرشون وثيرَ النفطِ للعادي!
والمستحيلُ ،إلى الأسوارِ، هَبّتُهم
فلن تُحَرَّرَ أوطانٌ بأوغادِ
تُرمى الطرائدُ بالأقواسِ إنْ طُلِبَت
وليس بالنَّومِ يَحظى أيُّ صيّادِ
فكلُّ فعلٍ له سيفٌ ليجرَحَهُ
وكلُّ مَن قال قد أوفى بميعادِ
يُطَبِّعون وهذا السيلُ يجرفُنا
من الرمالِ إلى طنجا.. فبغدادِ
لكنها الأرضُ لن ترضى بمن غَصَبوا
وإنْ أطاحوا بِسَبْعِ التلِّ والوادي
وإن تماهت مع المحتلِّ شرذمةٌ
وعبّدوا الخَطْوَ للنازيِّ والسّادي
وإن تصاغرت الأعرابُ وانفتحت
بوابةُ الوِزْرِ من عَبدٍ لأوغادِ
وقدّموا القدسَ للمُحتَلّ سائغةً
كما يسوقون مأسوراً لأعوادِ
وَقَبِّلوا ما استطاعوا كفَّ سيّدِهم
فلن أصافحَ ، يوماً ، كفَّ جَلاّدي
***
ولن أنسى!
بعد شهر تقريباً من افتتاح معتقل”أنصار3″ في قلب صحراء النقب، إثر تفجّر الانتفاضة العبقرية، منتصف العام1988، وقد زجّ الاحتلال بآلاف المعتقلين في العديد من السجون والمعتقلات الشرسة،أبلغتنا إدارة المعتقل أن وفداً من أعضاء “الكنيست” سيزورون المعتقل، وعليه ينبغي علينا، نحن الأسرى، أن نبقى على مسافةٍ منهم، وألا نقترب أو نصافحهم، وأن نتحدّث معهم بصوت يسمعه قائد المعتقل، وألا نكثر من الكلام! والمسموح فقط أن نسرد مطالبنا على أسماعهم وباختصار. وبالفعل؛ استطاع الفارس الشجاع، المناضل الشاعر توفيق زيّاد، على رأس وفدٍ، من زيارتنا في قلب المعتقل، كان وقتها عضواً في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، جاء.. وشدّ على أيدينا، وسمع مطالبنا، وعلا صوت احتجاجه.. وعندما رآني ناداني باسمي وفتح ذراعيه كأنه يدعوني لمعانقته.. فقصدتُه وعانقته – وسط استغراب قائد المعتقل الصهيوني- وسألني ، واطمأنّ علينا.. وودّعنا وهو يلوّح بقبضته، وهو يقول: سننتصر.. سننتصر! لقد جلجل صوتُ هذا النورس الأسمر، وهو يصرخ في وجه السجّانين ويهتف للنصر والأمل.. وراح يهتف بقصيدته “مليون شمس في دمي”! والجنودُ المدجّجون،من حوله، ذاهلون.
وجاء،من بعده،عدد من أعضاء الكنيست العرب منهم: محمد ميعاري، وعبد الوهاب دراوشة، وأعضاء من حزب “راتس” اليساري. وبدأ المحامون زيارتنا، واستطعنا، لأوّل مرّة، بوساطة المحامين، أن نتخارج مع الأهل، ومع المدن المشتعلة التي يضيء نشيدُها ودمُها شمسَ الله ونجومَه!
وبعدها،وللمرّة الأولى سمحت فيها إدارة معتقل “كتسيعوت أو أنصار3” للصليب الأحمر بزيارتنا، كانت في نهاية أيار 1988، حيث دخلت امرأة سويسرية وشاب فرنسي، كوفد من الصليب الأحمر ليسمعوا مطالبنا، ويطمئنوا على أحوالنا.
قابلناهما في إحدى خيمات قسم “1”، وحاولنا أن نشرح لهما كل شيء، وقدّمنا لهما قائمة مطالبنا المشروعة، التي تبدأ بتحسين شروط اعتقالنا، ومروراً بحقّنا في زيارة الأهل لنا وكذلك المحامون، وانتهاء بحقنا في توفير الصحف اليومية والكتب والقرطاسية ..الخ.
كانت الأقلام معدومة، وكذلك الأوراق! لكن الشاب الفرنسي ذاك، نسي عمداً قلمَه لنا، فيما تركت الفتاةُ السويسرية دفترَها الصغير..ربما استشعرا المحيط المرعب الذي يلفّنا.. فتعاطفا معنا!
بعد شهر، أو أقل، جاءت سيّارة كبيرة محمّلة بالكتب والورق الأبيض والأقلام.. مع وفد من الصليب الأحمر، وبدأوا -على مرأى من الجنود- يوزّعون على الأقسام هذه الحمولة، التي رقصنا لها! وأخبرونا: بإمكانكم أن تكتبوا الرسائل الشهرية إلى أُسركم..رغم أن إدارة السجن ستراقب كل الرسائل قبل أن نوصلها إلى البريد، لتصل إلى أهاليكم!
وكان أن قابلتُ الشاعر الكبير توفيق زيّاد يوم كنتُ طالبا في جامعة بيرزيت. كنتُ ضمن مجموعة كبيرة من الطلبة نشارك في أيام العمل الطوعي الذي تقيمه بلدية الناصرة في نهايات السبعينيات. وفي المساء حضر رئيس البلدية توفيق زيّاد ليشكرنا ويسلّم علينا.. فطلبوا منه أن يقرأ من أشعاره، فأُقيمت أمسية شعرية طافحة بالسخونة والعاطفة والانتماء، فأشار بعض الطلبة على مسمع من توفيق أن ثمّة شاعراَ بين الطلبة، فدعاني لأقرأ.. فقرأتُ معه وأمامه، وكأن ذلك،بالنسبة لي،كان اعترافا بشاعريتي. ثم التقينا عشرات المرّات.. وفي كل مرّة يطلب مني أن أقرأ، تشجيعا منه.. كيف لا وهو أبو الأمين الطاعن في البساطة المُعجزة ، والراعي لأرواحنا الفتيّة!