أمد/
أعود للحديث عن السخرية والساخرين بعد أن نبشت في الموضوع إذاعة البشائر وقناة الإيمان الفضائية في بيروت. اتصلت بي الأستاذة ميار برجاوي للمشاركة بفقرة مدتها “سبع” دقائق ضمن برنامج، “فلسطين حرّة” (الجمعة: 6/4/2024، عنوان الحلقة “فلسطين في قوافي الشعر”)، تقدم البرنامج المذيعة سوزان شعيتو، وتعده الأستاذة زينب برجاوي. واستضاف مجموعة من الضيوف، ليتحدث كل منهم عن جانب من جوانب الشعر الفلسطيني.
تحدثتُ في اللقاء حول رسالة الماجستير “السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم” (جامعة النجاح الوطنية 1999، بإشراف د. عادل الأسطة). وعرفت بحدود الدراسة، (1948- 1993) والشعراء الذين كتبوا شعرا ساخراً، وأشرت إلى تعريف السخرية، وإلى فصول الدراسة الثلاثة، وإلى قصيدتين مما تناولته من شعر في الفصل الثالث من الدراسة: قصيدة تقدموا لسميح القاسم وقصيدة عابرون في كلام عابر لمحمود درويش، فهاتان القصيدتان قيلتا والانتفاضة الأولى في بداياتها، وأحدثتا ضجة كبيرة، وحازتا على اهتمام واضح لدى المتلقي. وخاصة قصيدة “عابرون في كلام عابر” التي استخدمت من بعض قادة الكيان الصهيوني كأداة إدانة للشاعر أولا وللشعب الفلسطيني ثانيا ونهائياً[1]، وتحدث محمود درويش عن القصيدة وما أثارته من زوبعة عند الاحتلال في كتاب “عابرون في كلام عابر”. (يُنظر: “هستيريا القصيدة”، الأعمال النثرية، دار العودة، بيروت، 2009، ص 439 – ص 554).
لا شك في أن ظاهرة مثل ظاهرة “السخرية” في الشعر الفلسطيني لن تكفيها حلقة كاملة تمتد إلى نحو ستين دقيقة؛ مدة الحلقة ، فما بالكم بسبع دقائق؟ إنما ما لا يدرك كله لا يترك بعض بعضه، نعم لا يترك بعض بعضه، وليس جله، إذ الموضوع كبير ومتشعب، ومتسع زمانيا وأسلوبيا لدى شعراء فلسطين منذ أول شاعر فلسطيني وحتى الآن، أكثر من مئة عام، وتنوعات الشعراء تتوالد في مساحات هذا الشعر الوارفة الوافرة المثمرة، وكتب كثيرون منهم شعرا ساخراً.
لم تخل الحرب الأخيرة من بعض السخرية، وكانت سخرية الصورة والحدث أحيانا أقوى من سخرية النص، بل إنها تفوقت عليها، فمشاهدة صورة ساخرة أو فيديو ساخر أوقع من قراءة نص ساخر، واتخذت هذه الصور طابع المقاومة والتحدي، وفيها كثير من الاستهانة والاستهزاء بالمحتل، فمشهد المصطافين من أهل غزة على الشاطئ مؤخراً، مشهد فيه مفارقة قوية، فهذه الحرب التي تحصد الأرواح وتهدم المنازل وتضيّق الفضاء، يقابلها الناس باستجمام على الشاطئ، فأي سخرية من العدو أكبر من هذه؟ وكأنهم رموا كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر وراء ظهورهم.
ناهيك عن حلقات الغناء والسمر في خيم اللاجئين، وإقامة الأعراس، بل قيام أحد اللاجئين ببناء خيمته من شوادر برشوتات المساعدات، يظل منتظرا وصولها، فالناس الذاهبة إلى ما تحمله هذه البالونات الطائرة التي تحط على رمال غزة من طعام، أما هذا الشاب فيصطاد الشادر الذي أخذ يتحدث أمام الكاميرا بفرح حقيقي ليبني خيمته، بل ويتفنن في البناء، وقل الشيء نفسه عن لاجئ آخر بنى خيمته من مخلفات المعلبات، فعدا ما تحمله هذه المشاهد من رسائل إنسانية إلا أنها محملة أيضا بالرسائل السياسية القوية أهمها الاستهزاء بالمحتل، فالفلسطيني قادر على أن يحول حتى مخلفات المعونات الدولية إلى عنصر بقاء وتحدٍ.
وليس هذه وحسب، بل إن شابا غزاويا يقود سيارته المدمرة بفعل القصف، بلا عجلات وبلا سقف أو جوانب ليعود بها إلى بيته في شمال غزة، يقودها وهو فرح مسرور، لا يعبأ بالاحتلال وقصفه ووجوده، حدث هذا بعد ما يقارب المائتي يوم من اندلاع هذا الجنون المفزع.
هذه الحالة البائسة في غزة، أشد ما يكون البؤس، لم تمنع الكاتبة جيهان لاشين أن تكتب على صفحتها بأسلوب ساخر أقرب إلى التفكه منه إلى التهكم: “بحب أبشركم أن الحرب مش راح تنسيني الجانب الأهبل في شخصيتي. أهبل وبأحيان معينة بحب يتهابل”. هذا هو المزاج العام للناس في غزة تحت القصف والدمار وتهديد الموت الدائم، لكنه لم يمنعهم من أن يمارسوا حقهم بالسخرية!
هذا النوع من السخرية التي ولدتها الأحداث لها مزاجيتها الخاصة، وتجسد الفكرة خير من ألف قصيدة وقصة، وتشحن الروح المعنوية لنا نحن القابعين على الطرف الآخر من كفة الوطن الذبيح، لنتزود بالقوة، فهؤلاء الذين لم يبق لهم شيء تقريبا هكذا يتصرفون، فما بالكم نحن؟ إنهم يقولون على نحو بليغ جدا أننا صامدون أقوياء، والاحتلال بجبروته يحُول إلى الصفر فهو لا شيء، وعمليا هذا هو هدف السخرية؛ الاستهانة بالعدو وإبطال مفعول ما لديه من قوة.
هذه فكرة عبقرية بالفعل، لشعب يحب الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلا. حالة غزة اليوم هي صورة كلية تصنع مفارقتها الكلية لتقف مدينةً حرّةً ومعها أحرار العالم كلهم، على الرغم من قلة عددهم بالمقارنة مع من يقف ضد غزة وضدهم، لتؤدي رسالتها، ولعل أهم رسالة تستحضر فيها الشعر ما قاله ابن رشيق القيراوني، في زمن يشبه هذا الزمن أيام تفكك الأندلس، وينطبق على حالة تلك الأنظمة التي تقف- ظاهرة وباطنة- ضد المقاومة وضد أن ترى الشعب صامداً. يقول:
مِمَّا يُزَهِّدُني في أَرْضِ أَنْدَلُسٍ
سَماعُ مُقْتَدِرٍ فيها وَمُعْتَضِدِ
أَلْقابُ مَمْلَكَةٍ في غَيْرِ مَوْضِعِها
كالْهِر يَحْكي انْتِفاخاً صَوْلَةَ الأَسَدِ
تعيد تجسيد هذين البيتين صورة يظهر فيها قطّ أمام المرأة، فتنعكس صورته أسداً، وعلى الرغم من أن البيتين من الشعر السياسي إلا أنهما لا يعدمان التوظيف الاجتماعي، فهما يرسمان صورة للإنسان المدعي؛ الذي يريد أن يظهر بصورة مخالفة لحقيقته. هذا شبيه- كذلك- بحالة الطغرائي الذي تحسّر على حاله، وهو يعيش تحت حكم الأوغاد والسفلة، ولا يوجد وصف أنسب من وصف الطغرائي ينطبق على كل حاكم أو سياسي أو كاتب أو مثقف، عربي وغير عربي، رضي بهذه الحالة التي تمرّ بها فلسطين المحتلة، خاصة هذه المقتلة العظيمة التي تؤكد نوايا قادة الإجرام الصهيوني بالإبادة الجماعية. إن أبيات الطغرائي وإن كانت ذاتية الطابع إلا أنها تناسب الوضع السياسي، لتكون عامة، ولما فيها من قوة فكرية، ولذعة ساخرة، تحاكي الواقع، فلم تسلم القصيدة من التلون السياسي، وإن ظلّ في نطاق النقد الشخصي لما آلت إليه أوضاعه هو، لا الأوضاع العامة، مع أن الوضع الذاتي للشاعر يصحّ أحيانا أن يكون وضعا سياسيا عاماً.
ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني
حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ
تقدَّمتني أناسٌ كان شَوطُهُمُ
وراءَ خطويَ إذ أمـشي على مَهَلِ
هذا جَزاءُ امرئٍ أقرانُه درَجُوا
من قَبْلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ
إن الفلسطيني حتى وهو “يتمنّى فسحة الأجل” ليصرّ على أن يكون حياً، ويمارس نشاطاته الطبيعية، ولا يستسلم لدول الأوغاد والسفل، الأقارب منهم والأباعد، الطفل قبل الشيخ، والمرأة قبل الرجل، فكلهم يمتلكون العزيمة ذاتها والقوة نفسها، والنفَس الساخر المتحدي ذاته، فكيف بغير سياق التحدي الساخر السافر يمكن للآخرين والعدو المتربص قبل كل أحد أن يفسر عمل “نيوتن غزة” الطفل الصغير وهو يحاول أن ينقذ الناس من ظلام الاحتلال قبل ظلمه. هذه العبقرية الذاتية للإنسان الفلسطيني بإمكانياته المتواضعة تقهر كيانا كهذا الوحش الذي تعمّد أن يُغرق غزة في الظلام والدم معاً. هذه المفارقة الواقعية مشهد ساخر أكبر وأشد أثرا من ألف قصيدة!
حالة المقاومة السائدة في غزة، وفي عموم الأرض الفلسطينية، جعلتني أستدعي الكثير من النصوص الساخرة، وأهم موضوع يستحضر في سياق هذه الحرب، موضوع السلام، أو وهم أن يكون هناك سلام بين المحتل الذي يقول سلوكه العدواني الإفنائي إنه لا تصالح بيننا وبينه، فإما نحن وإما هو، لذلك فالسلام مستحيل، لا على قاعدته ومطالبه ومقاسه، ولا على مطالبنا التي نحلم بها ونترجاها. تبرز أغنية وديع الصافي- رحمه الله- مثالا على السخرية المتفكّهة من السلام، سلام الأعداء. تبدأ الأغنية بنفس حزين، توجّعي، على ما آلات إليه الأرض، أرضه بطبيعة الحال، سواء أكانت فلسطين أو لبنان، لا فرق، يقول المطلع: “أرضي عم بتقاسي حاجتها حرام”، فلا بد إذن أن نصلي من أجل أن يعمّ السلام، ولكن أين هذا السلام؟ لتصل الأغنية إلى هذا المقطع الساخر:
احتلوا أراضينا وذلوا أهــــالينا
وحطوا العلة فينا وبيحكوا بالسلام
ويا سلام وسلّمْ ع سلامهم يا سلام
إنه مقطع يلخص كل القصة، بنفس ساخر، يعتمد على تكرار مفرد “السلام” وتنوعاتها اللفظية لتحمل ما يعتمل في النفس من مقدار الاستهزاء والسخرية من هذا السلام الذي لم يجلب للعرب والفلسطينيين سوى المزيد من الاحتلال والتعسف. ونظرية السلام العبثية وحدها يجب أن تكون موضوع باحث صبور ينقب في مصادر متعددة ليرصد تحولاتها منذ مؤتمر مدريد عام 1991، وحتى الآن، فإنه سيكتشف الكثير من النصوص المعبأة بالسخرية.
موضوع السخرية ليس سياسيا وحسب، بل إن له أيضا تجليات اجتماعية وثقافية كثيرة، في العلاقة بين المرأة وزوجها، وبين المرأة وحماتها، وبين الجيران، وبين الأقران، وبين الزملاء، وبين الرئيس والمرؤوس في مواقع العمل، وسخرية الفقراء من الأغنياء أو العكس، كما أن ظاهرة “التنمّر”. هذا المصطلح الجديد أدخل في ثناياه سخرية ذات طابع اجتماعي تهكمي يقلل من شأن الآخرين، لارتباطها بميزات السلوك الفردي تجاه الآخرين وما يحمله أحدهم عن الآخرين من أفكار سلبية، تترجم إلى سلوكيات عنيفة أهمها- بعد العنف الجسدي- الاستهزاء بالضحية وإضحاك الآخرين عليه.
هذا يعني أن السخرية بمستوياتها السوداوية جدا كأعلى مرتبة مؤلمة فيها، وحتى الفكاهة التي تبغي الإضحاك فقط، لها حضور شعبي في الأغاني والأهازيج والنكات وفي الحكايات الشعبية، فحكاية “القول قول حج والقمزات قمزات بس” ليست خالية من السخرية اللطيفة، كما أن الأهزوجة الشعبية التي تعاد عند إخلاف الوعد لا تخلو من عتاب مبطن بسخرية خفيفة من طرفٍ خفي:
وعــــــــــــــــدتني بالحــــــلقْ خَــزّقْتِ لــــــه ذاني
حلقْ ما جبتْ حلقْ عذّبت انا حالي
وتصبح هذه الأهزوجة ذات بعد سياسي إذا ما استحضرتها الذائقة الشعبية في التعليق على الوعود الغربية الزائفة لنا بالعدالة وحق تقرير المصير والاعتراف بدولة مستقلة أو حتى بالرخاء الاقتصادي المزعوم.
كذلك حفلت الأمثال الشعبية في جزء منها بأمثال شعبية تلخص مواقف فكاهية أو ساخرة، من مثل: “يا طالب العسل من الدبور”، وأحيانا يقال المثل بصورة أشد قسوة: “يا طالب العسل من …يز النمس”، أو كما في قول المثل: “الخريّ خريّْ كانّه مكسي وللا اعْريّ”، “وحجة القحبة خراها قوم يا معرّس وراها”، و”شايف الزول يا خايب الرجاء”، وكثير غيرها.
إن اشتمال المثل الشعبي على هذه الألفاظ الصادمة يساهم في إحداث أثرين معا، قوة المثل في تأثيره الآني، والنيل بشدة ممن قيل في حقه المثل، لا سيما أن لكل حالة من الحالات الاجتماعية مثلا أو صيغة لغوية تناسبها، تبعا لحالة الغضب التي تتملّك الشخص لحظة الاستدعاء والتمثل، وهذا ربما سبب من جملة أسباب تفسّر تعدد الأمثال التي لها معنى واحد عندنا نحن الفلسطينيين، أو عند أي شعب آخر.
ومما يلاحظ على بعض هذه الأمثال أن لها انحرافا سياسيا في دلالته أيضاً كقولنا في المثل الفلسطيني “عمر الحيّة ما بتصير خيّةْ”. إذ نوظفه- نحن- الفلسطينيون في الحكم على الدول المعادية، وأولها الكيان الغاصب ومعه أمريكا وبريطانيا صاحبة الخطيئة الأولى، بل إن هناك أمثالا شعبية تستدعيها المخيلة الشعبية لوصف العلاقة الظاهرة أو المخفية بين هذه الكيانات المارقة. فليس غريبا أن تكون هذه الكيانات واحدة لما لها من تاريخ طويل في الإبادة الجماعية للسكان الأصليين، وعلى أنقاض شعبين عريقين تشكل كيانان إحلاليان إفنائيان هما الكيان الغاصب وأمريكا، فجاء المثل الشعبي الفلسطيني منطبقا تماما عليهما: الحية ما بتعض ذنبتها، أو عندما يرى المحللون اختلافا بين الكيانين، وأن أمريكا تهدد الكيان الغاصب، فيستحضر المثل السابق، ومعه هذا المثل: “هوش الحبايب هوش كذّاب”. وثمة الكثير من مثل هذه الأمثال.
وغير هذا وذاك الكثير مما يدخل في السخرية، موضوعا وتقنيات كتابية وتصويرية، وهذه المزاجية الكتابية، والالتقاطة الراصدة في صياغة المواقف الساخرة ليست حكرا على أوقات الحروب، فالسخرية بدرجاتها المختلفة حاضرة في أيام السلم والاستقرار سواء بسواء، حتى ليصحّ أن يعمم المرء أن السخرية حاضرة مع الإنسان في كل مجالات حياته وفي كل الحالات، فليس هناك حالة أنسب من حالة لولادة السخرية، بل كل الظروف والأحوال صالحة لأن تكون بيئة طبيعية للسخرية والساخرين، كما هو الحال في وظائف الرسوم الكاريكاتورية التي تظل مستمرة في أداء وظائفها في كل الأوقات وفي كل الظروف وفي كل الموضوعات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى التعليمية والترفيهية.
[1] تحدث محمود درويش عن القصيدة وما أثارته من زوبعة عند الاحتلال في كتاب “عابرون في كلام عابر”. يُنظر: “هستيريا القصيدة”، الأعمال النثرية، دار العودة، بيروت، 2009، ص 439 – ص 554.