أمد/
المتابع مشهدَنا الثقافيّ في السنوات الأخيرة يرى انحسارًا كبيرًا، غير مبرّر حسب رأيي، في كتّاب وكتابة القصّة القصيرة. صحيح أن الشعر طغى على المشهد وما زال، وقد تناول هذا الأمر باحثون كُثر ولست هنا في صدد الغور في الأسباب فهذه أتركها لهم، وأنا لست منهم. لكنّي أستطيع أن “أحمّل ذمّتي” لأقول: إنّ النجوميّة الافتراضيّة هي أحد الأسباب، وخصوصًا بعد أن طغى الاعتقاد الخاطئ وكأنّ القصيدة النثريّة “سهْسلت” الطريق، بمعنى أن التحرّر من العموديّة والتفعيلة يتيح المحظورات. والنقّاد ودور النشر – خطأ الاعتقاد فيه نسبيّ – “سهسلوا” الطريق أمام “سطوع” الرواة. لتطغى الحالة الموؤودة في الإجابة على التساؤل: ما لنا، نحن الكتّاب والقراء، وللقصّة القصيرة “المتعِبة” وباهتة النجوميّة؟!
في السنوات الأخيرة سطع نجم الرواية فشهد المشهد الثقافي سيلًا عرمًا من الروايات هو في الكثير من الأحيان ركضًا وراء “السطوع” المتخيّل. كتّاب الرواية بالضرورة يستطيعون كتابة القصّة القصيرة فلماذا قفزوا مرّة واحدة من النصوص إلى الرواية؟! فهل كتب إميل حبيبي ومحمّد نفّاع ومحمّد علي طه الرواية قبل القصّة القصيرة؟!
من تبقّى من قرائنا، القليلين أصلًا، صاروا هم الأُخر يعزفون عن الشعر ويلحقون هذه “الموضة الروائيّة”، فهل ظلّ مكان للقصّة القصيرة؟!
الأسئلة التي أطرحها في المدخل هذا، هي استنكاريّة!
يكتب حبيب بولس (ط) عام 2009 في دراسة حملت العنوان: الأدب العربي الفلسطيني في إسرائيل – واقع وتصورات، عن قصّتنا القصيرة:
“إن قصتنا القصيرة قطعت شوطًا لا بأس به من التطور خلال مسيرتها بعد النكبة، وكادت بذلك أن تنافس أكثر الفنون التصاقًا بحياتنا، وأعني الشعر. وإن كنا هنا نحاول الحديث عنها والتأشير على بعض النواقص، فهذا لا يعني أننا ندينها، بل يعني أننا نريد لها المزيد من التقدم لتصل إلى حداثية المرحلة، هذا من جهة، أما من أخرى، فإن التأشير على النواقص لا يلغي الإيجابيات والإنجازات الفنية، بل يحاول إغناءها وإثراءها لتستقيم القصة مع كل ما نطمح إليه أدبًا كان أم قضايا فنية أخرى.”
القصّة القصيرة تاريخيّا
يكتب حنّا أبو حنّا (ط) في كتابه: عالم القصّة القصيرة- نور للطباعة والنشر.
“القصّة القصيرة… ضربٌ أدبيّ نثري تبلور وتميّز في القرن ال-19… فقد قدّم الإنتاج الأدبي العالمي قبل ذلك حكايات قصيرة، شعرًا ونثرًا، مثل “حكايات كانتر بيري” للشاعر الإنجليزي جفري تشوسر، و”ديكامرون” للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو. وعرف الأدب العربي في مقامات “بديع الزمان الهمذاني- ت. 1008م” و”أبو القاسم بن علي الحريري- ت. 1112م” لونًا بارعًا من الحكايات التي يتداخل فيها الشعر والنثر، وتختال في حلّة رائعة من المحسّنات البديعيّة والبيانيّة، وتدور في غالبها حول حِيَل الكدّائين على العيش. ولكن القصّة القصيرة، في المفهوم النقدي الحديث، هي غير ذلك. إنّها ذلك اللون الذي توفّرت له في القرن ال-19 ثلاث مواهب؛ إدغار آلَن بو الأميركي- ت. 1849م، والفرنسي جي دي موباسان- ت. 1893م، والروسي أنطون تشيخوف- ت. 1903م.” (اقتباس).
ويكتب حبيب بولس (ط)، في كتابه: ألوان من القصّة القصيرة في الأدب العالمي- مكتبة ومطبعة أبو رحمون – عكا.
“القصّة القصيرة ليست مجرّد قصّة تقع في صفحات قلائل، بل لون من ألوان الأدب الحديث… وله خصائص ومميّزات شكليّة. قبل القرن ال-19، شهد تاريخ الآداب الغربيّة عدة محاولات لكتابة القصّة القصيرة… أولى المحاولات كانت في القرن ال-14 في الفاتيكان في غرفة “مصنع الأكاذيب” يقصّ الرواد فيه النوادر معطينها شكلًا أدبيّا وأسموها: “الفاشيتا”. أمّا المحاولة الثانية ظهرت أيضًا في القرن ال-14 وقام بها “جيوفاني بوكاتشيو” صاحب قصص “الديكامرون- المائة قصّة”، وكانت أطول من الأولى فأسموها “النوفلّا”. (اقتباس بتصرّف)
حول الشكل؛ الطول والقصر والتسلية:
من نافل القول: إنّ الأدب تاريخيّا، ما دمنا فيما كان، حمل رسالة أدبيّة؛ اجتماعيّا وسياسيّا وفكريّا، توخّى الكاتب منها أن يُفيد المتلقّي بوجهة نظره حول القضايا المختلفة. ولكن لا نستطيع أن نحيد عن أو نتجاهل حمْل الإبداع الأدبي حينها عنصر التسلية وملء الوقت لدى المتلقّين. نحن نتحدّث عن زمن اقتصرت فيه القراءة على طبقات اجتماعيّة محدّدة وقليلة العدد من متوسّطي الحال وما “فوق”، وعليهم يُحسب الكتّاب بغضّ النظر عن مكان أو مكانة غالبيّتهم في السلّم الطبقي. الغالبيّة العظمى من هذه الطبقات كانت “عطّالة بطّالة” على حساب عمل الفقراء، عامّة الناس، أولئك كانوا يجرون وراء ما تبقّى من لقمة العيش المريرة التي أبقتها لهم موائد وحرير أمراء وأميرات القصور، فلم تُتِح لهم مرارة اللقمة لا قراءة ولا معرفة قراءة أصلًا.
من خلال ما يتسنّى للمرء منّا قراءته من أدب تلك الحِقب، يجد أنّ طول العمل الإبداعيّ وقصره لم تكن تحتّمهما دائمًا ضرورات إبداعيّة، فينحو المنحى الذي أدّعيه عن عنصر التسلية. فليس غريبًا أن تجد عند ما اصطِلح على تسميتهم آباء القصّة القصيرة؛ قصّة “الحلية”- عند موباسان من 14 صفحة، و”الرقّاص والبئر”- عند ألان بو من 22 صفحة. و”صاحبة الكلب الصغير”- عند تشيخوف 32 صفحة.
مسألة فيها نظر هي، ومدعاة لبحث الباحثين عِنّا، وأنا لست منهم كما أسلفت، إن كان تتبّعُ واقتفاءُ أثر أولئك وكلّ ما جاءنا من الغرب، تتبّعا واقتفاء شكليّين ومن ثمّ وقوفنا عندهما. أدّعي أنّ هذا ما فعل الروّاد عندنا بعد بدء الخروج من غياهب العهد العثمانيّ. في الرواية، كمثال، أجمع الباحثون – النقّاد أنّ رواية “زينب” لمحمّد حسين هيكل 1909م هي الأولى عربيّا، ومعيارهم كان الغرب، وربّما لا بل من المؤكّد أن ذلك كان بسبب تتلمذهم على الغرب وفي الغرب. وهكذا في القصّة القصيرة، فتجد أنّ أحد باحثينا العرب، وبغضّ النظر عن الاسم، يكتب وكما جاء أعلاه:
“لقد قدّم الإنتاج الأدبي العالمي قبل ذلك حكايات قصيرة، شعرًا ونثرًا، مثل “حكايات كانتر بيري” للشاعر الإنجليزي جفري تشوسر، و”ديكامرون” للكاتب الإيطالي جيوفاني بوكاشيو. وعرف الأدب العربي في مقامات “بديع الزمان الهمذاني- ت. 1008م” و”أبو القاسم بن علي الحريري- ت. 1112م” لونًا بارعًا من الحكايات التي يتداخل فيها الشعر والنثر…”
يكفي أن نرى الفارق في المصطلح لدى كاتبنا؛ “قدّم الإنتاج الأدبي العالمي…” و”وعرف الأدب العربيّ…” لندرك مدى اندلاقنا على الغرب، فنطلق على أدبه: “الإنتاج الأدبيّ العالميّ” (هكذا- الغربيّ عالميّ)، ومدى “تواضعنا” تجاه أدبنا فنستعمل: “وعرف الأدب العربيّ” (هكذا – العربيّ عربيّ).
كلّ ذلك بدل أن نعود لبديع الزمان والحريري اللذين وضعا نواة لهذا اللون الأدبيّ، وقد سبقا تشوسر وبوكاشية بمئات السنين، أن نعود إليهما ليس عودة معلوماتيّة وإنّما قاعدة لتطوير أدبنا في هذا المجال بدل أن نذهب وراء الغرب مقلّدين. أمّا لماذا لم يفعل روّادنا وباحثونا ذلك؟! فلا جواب قطعيّ عندي اللهمّ إلّا قصورنا الذاتيّ!
مشهدنا المحليّ
شهدت ساحتنا الأدبيّة في ال-48 بعد النكبة رعيلًا رائدًا في كتابة القصّة القصيرة فأعلوا شأنها، وكانت سندًا لهمومنا “البقائيّة” الكبيرة. شقّ كتّابها الطريق في لجّ من الشعر كان له قصب السبق لأسباب تاريخيّة وموضوعيّة، وكي لا أقع في المحظور لن أذكر الأسماء فهي معروفة.
كتّابنا في القصّة القصيرة في فترات نهضتنا، إذا صحّ التعبير، راحوا يكتبون القصّة القصيرة حسب معاييرها الغربيّة. وهكذا فهل رعيلنا الأوّل والثاني وإن كان يمكن أن نجد لهم العذر، ولكن كيف نعذر أنفسنا غالبيّة الأراعيل من بعد وقد وقفَتْ عند ذلك السدّ دون أن تقتحمه لا بل أن تفجّره.
حقيقة تاريخيّة هي أنّ كتّاب القصّة القصيرة عندنا ما بعد النكبة، كانوا كُثرًا نسبيّا وصار ينحسر عددهم. اليوم يكاد كتّاب القصّة القصيرة يُعدّون على أصابع اليدين؛ منهم من ترك ومنهم من يتابع وقليلهم من خرج عن “شابلونات” القصّة القصيرة بهيكلها الغربيّ.
من بقي على عهده مع القصّة القصيرة في مشهدنا هم قلّة قليلة بشكل عام، لن أتطرّق هنا إلى الكلّ وإنّما سأكتفي بكتّابنا أعضاء الاتّحاد (الاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين- الكرمل48)؛ فمحمّد علي سعيد ما زال يتناولها وإن على فترات متباعدة، فهيم أبو ركن ويبدو أنّه عزفها، مصطفى عبد الفتّاح، حوّا بطواش، زياد شليوط، سليم أنقر، أحمد الصحّ، عامر عودة، أسعد بدر مغربي، تفّاحة سابا، أمين زيد الكيلاني، وكاتب هذه الأسطر.
كي ندرك ما نحن في صدده يكفي أن نشير، كمثال، أن نسبة هؤلاء من كتّابنا في الاتّحاد تراوح حول ال%8، إذا هذا الرقم بكلّ المعايير أقلّ من قليل. فهل القضيّة قضيّة موهبة؟! أم قضيّة عزوف عن هذا النوع الأدبيّ؟! أم قضيّة “نجوميّة” الشعراء وقد “سهسلت” القصيدة النثريّة لها الطريق!؟ أو “نجوميّة” الرواية وقد “سهْسل” النقّاد ودور النشر لها هي الأخرى الطريق، كما أسلفت؟!
هذه الأسئلة استنكاريّة وليجب عنها كلّ بما يشاء!
التحدّي والمطلوب
ومرّة أخرى مع حبيب بولس، فيكتب:
“وطالما أنّ الفن مرتبط بالحقيقة، طالما أنّه يضاهيها في السمو، فمن الطبيعي أن يكون الفن محاكيًا للواقع مستمدًا من الحياة عاكسًا قضايا المجتمع. وطالما أن القصة القصيرة جزء من هذا الفن، يصبح القول النقدي المعروف الذي يقول: “إن صورة البنى والأشكال الأدبية متشارطة ومترابطة مع صورة البنى والأشكال الاجتماعية”. أمرًا بديهيًا. ولكن هذا التشارط وهذا الارتباط ليسا مباشرين آليين بالضرورة بحكم تمايز واستقلال كل من الصيرورتين عن الأخرى كما يرى الدارسون.
انطلاقًا من هذه البدهية يمكن لنا أن نعاين وأن نرصد التحولات والتفاعلات الاجتماعية والأيديولوجية من خلال رصدنا للتحولات والتفاعلات الشكلية والبنيوية والمضمونية، التي عاشتها قصتنا القصيرة منذ انطلاقتها إلى الآن. ومن هنا يرى عدد لا بأس به من الدارسين والنقاد أن “ظاهرة القصة القصيرة تعتبر دليلاً قويًا على التحول الذي أصاب المجرى السوسيو ثقافي للمجتمع”. وهذا الكلام يعني أن تطور القصة القصيرة مترابط ومتفاعل مع الأحداث والمستجدات، منذ الأربعينات. وإذا نحن أردنا أن نرى إلى ما طرأ على القصة من تحولات، علينا أن نرى إلى ما طرأ على الساحة السوسيو ثقافية السياسية من تحولات أيضًا، وإلى ما أصاب ساحة الفعل عندنا، هذا الفعل الذي يتلخص بالتشبث بالوطن وفي البحث عن الهوية الاجتماعية الوطنية، وفيما بعد عن الهوية الاجتماعية الثقافية”.
يضيف بولس وبناء على التغيّرات التي طرأت حينها على المجتمع، أنّها قد أدّت إلى:
“خلق حالة من القلق والحصار، من الإحباط والتشويش مما أدى إلى تقديم حقائق وتفاسير متضاربة لواقع واحد كان في فترة الخمسينات إلى السبعينات يفرز حقائق متجانسة وتفاسير مألوفة متكاملة لا متلاغية. بمعنى آخر لقد وجدت هذه التبدلات إشكالية حادة في رؤية الفرد لنفسه ولبيئته وإشكالية موازية في اللغة التي باتت تقدم الكثير. من هنا وإزاء الواقع البشري الجديد بات النمط التشيخوفي في القصة الذي شاع في الخمسينات وبعدها لا ينفع…”. وأيضًا:
“إن البنية المدماكية للقصة التقليدية لم تعد قادرة على استيعاب الواقع الجديد وذلك لأن المعطيات الجديدة كانت غزيرة وكثيفة وثانيًا لأن طبيعة التجربة الحياتية المستجدة كانت بتخلخلها مناقضة تمامًا للبنية المدماكية للقصة، من هنا ثالثًا يتحتم على قصتنا الجديدة التي نكتبها اليوم أن تفتش عن بنى جديدة ملائمة لما ذكر.” ويتابع:
“وإذا نحن رصدنا قصتنا الفلسطينية اليوم، نجد أنها ما زالت تدور في نفس أقفاصها منذ الخمسينات. وبالتالي إن ما نطمح إليه قصة تخلخل القصة الموباسانية التقليدية ذات الوحدات الأرسطية. ما نطمح إليه اليوم قصة انفجارية أو مفصلية أو مركبة. ما نطمح إليه قصة ذات نظرة عمودية ولوع بالتفاصيل الصغيرة لا قصة أفقية ذات تفاصيل كبيرة. قصة ذات تداخل أزمنة وذات لغة إيحائية مكثفة بعيدة عن اللغة الإخبارية ذات الوعظية والتعليمية الجامدة. قصة متحررة من الترهل السردي. نطمح إلى قصة تتحول من البراني إلى الجواني، أي من الموضوع إلى الذات…”
بولس يكتب هذا عام 2009م كما أسلفت، أي قبل الثورة الرقميّة المذهلة، فإذا كانت التغيّرات التي أشار إليها مدعاة للتخلّي عن الموباسانيّة والتشيخوفيّة، فكم بالحري اليوم؟!
وسائل التواصل الاجتماعي، غربيّة هي الأخرى في ابتكارها ومُلّاكها، تغزونا غزو عشواء، ولم تُبق ولم تذر مكانًا لا للقصّة القصيرة التقليديّة ولا حتّى للمطوّلات الشعريّة.
وما هو المطلوب في هذا الواقع الجديد، إذا أردنا للقصّة القصيرة على أهميّتها مطرحًا في الميدان؟!
علينا التكثيف لا القِصر الشكلي (أقصد القصّة القصيرة جدّا فهذه لم تدخل لي في “زور”) أقصد تكثيف عناصرها؛ الحدث، الشخصيّات، الزمان، المكان، الحبكة على أنواعها، الحلّ والفكرة (الرسالة) وهذه أهمّها. هذا بالضرورة يجلب معه القِصر، وفي هذا يكمن نوع من التجديد والتطوير من ناحية، ومن الأخرى إعطاء الفرصة لها أن تنافس “صرعة” الثورة الرقميّة