أمد/
تنفرد جريدة “الوطن الجديد” بنشر المقدّمة الجديدة لكتاب المفكّر العراقي الكبير د. عبد الحسين شعبان، الموسوم “فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي: الثقافة والدولة”، الذي أعادت نشره مؤخرًا (2024) دار النهار العريقة في بيروت، حيث كانت طبعته الأولى صدرت في العام 2005، وذلك لأن العام المقبل يُصادف مرور عقدين من الزمن على صدوره، ويصادف أيضًا مرور ثلاثة عقود على صدور إعلان التسامح من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو”.
وقد لقي الكتاب في طبعته الأولى اهتمامًا كبيرًا، فتمّت ترجمته إلى اللغة الإنكليزية من قبل المترجم الأمريكي المختص بالشرق الأوسط Ted Thornton، وكذلك ترجم إلى اللغة الكردية، والذي قام بترجمته المترجم المعروف عبد الرزاق علي (دار آراس – أربيل)، كما صدرت طبعة أخرى عربية في حينها عن الدار نفسها.
وخلال تلكم السنوات نُظّمت عنه مجموعة ندوات، وكُتبت عنه دراسات وأبحاث عديدة، وخصّص كمرجع مقرّر في بعض الجامعات، وألقى د. شعبان عن ثقافة التسامح وفلسفته والتربية عليه، عددًا من المحاضرات في جامعات عراقية وعربية وأجنبية عديدة، ومنها جامعة اللّاعنف في بيروت، التي تخصّص له سنويًا فصلًا دراسيًا يتعلّق بثقافة التسامح واللّاعنف والسلام.
إننا إذْ ننشر المقدّمة الجديدة التي هي إضافة مهمّة إلى الكتاب، والتي عنوانها “التسامح: حصاد الفصول”، وذلك لازدياد الحديث عن التسامح ونقيضه اللّاتسامح في مجتمعاتنا، بفعل التعصّب ووليده التطرّف، وكان من نتاجهما استفحال العنف والإرهاب.
ويسلّط الدكتور شعبان الضوء على أن التسامح لم يحظَ في بلادنا بالاهتمام الذي يستحقّه من جانب النخب الفكرية والسياسية والثقافية، ويستعرض ما تناوله المفكرين الغربيين من لوك إلى فولتير، ويعتبره فريضة غائبة، لم يكن بإمكان أوروبا تحقيق نهضتها دونه، ويربط ذلك بجذور التسامح في التاريخ العربي – الإسلامي من حلف الفضول إلى دستور المدينة وصلح الحديبة والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة إلى السيرة المحمدية المعطرة وسيرة الخلفاء الراشدين، تلك التي يناقشها بإسهاب في متن الكتاب.
ويتوقّف عن سؤال يسمّيه مفتاحي: لماذا نحتاج إلى التسامح؟ وماذا عسانا أن نفعل لكي نتجاوز الخلفيات الفكرية لتنظيم داعش الإرهابي وما سواه من جهات وجماعات تعتبر العنف وسيلة لفرض الرأي؟ ويعرض الأستاذ شعبان ويحلّل القرارات الدولية بخصوص الإرهاب الدولي، وشعاره الأساسي “الإنسان هو الأصل” على حدّ تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.
الجدير بالذكر أن لوحة الغلاف هي للطبيب الفنان علاء بشير، وهي بعنوان “تاريخ تكتبه المفاتيح”.
“الوطن الجديد” إذْ تنشر المقدمة الجديدة، تنشر معها تمهيد المطران جورج خضر، مطران جبيل والبترون وما يليها (جبل لبنان) للروم الأرثوذكس، مساهمة منها في نشر ثقافة التسامح، واعتزازًا بجهد المفكّر العراقي الكبير الذي يستحقّ التقدير، وذلك تعميمًا للفائدة وإيمانًا منها بالقيم الإنسانية بهدف تعميق الوعي، خصوصًا لدى جيل الشباب.
الوطن الجديد
التسامح: حصاد الفصول
III
(الحلقة الثالثة)
كانت نظرة كل من لوك وفولتير بخصوص التسامح أقرب إلى فريضة دينية، لكن فكرة التسامح بالتدرّج أخذت أبعادًا جديدة، لاسيّما الإقرار بالآخر كنوع من التعددية الثقافية، والتي تطوّرت لاحقًا لتشمل المجموعات الثقافية، سواء كانت إثنية أم دينية أم لغوية أم سلالية أم اجتماعية أم غيرها، وهو ما ذهب إليه إعلان اليونيسكو الذي تناول موضوع التسامح بصفته الشمولية، وذلك تجسيدًا لتطوّر فكرة التسامح على المستوى الدولي.
لقد حققت أوروبا والغرب عموماً بعد الثورة الفرنسية العام 1789 تطوّراً كبيراً في قضايا الحريّات والمساواة وحقوق الإنسان، ولاسيّما بشأن “التسامح”، التي كان قد مهّد لها فولتير ووظفها على نحو سليم بإبراز نزعتها الإنسانية المتميّزة، حيث اقترنت الفكرة باسمه واعتُبر “الأب الروحي” لها، حيث بشّر بضرورة تحمّل الإنسان للإنسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضاً بالتسامح .
ولم يكن من السهل أن يصبح المفهوم متداولًا ومقبولًا، لاسيّما بعد فترة غلو وتعصّب وتشدّد وعنف وحروب ونزاعات لا حدود لها، لعلّ أبرزها حرب اﻟ 100 عام(1) وحرب الثلاثين عام (2)، التي انتهت بعقد معاهدة ويستفاليا في العام 1648(3)، خصوصًا وأن الحديث عن التسامح حينها كان يقصد به الدين، وهكذا تناول المفهوم حريّة المعتقد الديني والطائفي بشكل خاص، واحتاج إلى وقت ليس بالقصير ليتم تقنينه.
ولم تكن فكرة التسامح لتصبح أمرًا واقعًا بمعناها الثقافي قبل واقعها الاجتماعي، وفيما بعد القانوني، إلّا بعد تحقيق إصلاحات في المجال الديني، وخصوصًا إثر ظهور مصلحين من داخل الكنيسة، لعلّ أبرزهم مارتن لوثر، الذي انتقد ما سُمّي صكوك الغفران التي كان البابا ليو العاشر يصدرها لمغفرة الخطايا لتكون شفيعاً للمسيحيين، الذين يحصلون عليها لدخول الجنّة، حيث نشر 95 مادة ضدّها، وقام بتعليقها على باب كنيسة القلعة في فيتنبرغ بألمانيا، فردّ البابا بإلقاء الحُرم الكنسي عليه، وكان من جرّاء ذلك، ولصراعات كاثوليكية – بروتستانتية أخرى، أن نشبت حروباً دينيّة وطائفية دامية (1618)، استمرت عقوداً طويلة من الزمن، ارتُكبت فيها أبشع المجازر، وذهب ضحيّتها ملايين البشر.(4)
وبعد 5 قرون على ذلك الخلاف التاريخي بين الكاثوليكيين واللوثريين تمّ التوصّل إلى اتفاق ينهي الخلاف ويضع حدّاً للنزاع، وذلك في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2016 ، حيث نُظِّمت صلاة للبابا “المتنوّر” فرنسيس والمطران المقدسي “الشجاع” منيب يونان رئيس الإتحاد اللوثري العالمي، إضافة إلى أمينه العام مارتن يونغة، تلاها الإعلان التاريخي الذي وقّعه البابا والمطران.
ولعلّ تلك الصلاة المشتركة كانت حدّاً فاصلاً للصراع العبثي، الذي استمرّ لقرون من الزمن، وشكّل الإتفاق منعطفاً كبيراً في حياة الكنيستين الكاثوليكية واللوثرية، وسجّل تاريخاً جديداً إيجابياً للعلاقة بينهما، حيث تمّ بموجبه إنهاء الصراع المعتّق الإلغائي والإقصائي والتحريمي والتشكيكي. وهكذا اجتمعت الكنيستان بعد “الإعلان” في ترجمة عملية للإيمان بالمحبّة ومعموديّة القلوب(5).
وكم حريّ أن يتعلّم ويستفيد المسلمون من الشيعة والسنة وغيرهم، من هذه التجربة الملهمة والاتفاق على إنهاء خلافاتهم المعتّقة والمعمّرة، والتي لا معنى لها بإعلان صريح وواضح من جانب أصحاب القرار الديني في الطائفتين الكبرتين، وترك أمر الخلافات لشؤون البحث العلمي وللدراسات الفقهية واللاهوتية، دون وضعها على طاولة حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية، فالتاريخ مضى، ولا يمكن إعادته وعليهم الاتفاق حول المستقبل لتنمية بلادهم ورفعتها وسؤددها، بدلًا من الاستمرار في صراع بلا حدود وبلا أفق وبلا نتائج وبلا منتصر وبلا مهزوم، وإذا كانت ثمة انتصارات فإنها أشدّ عارًا من الهزائم. (6)
وكان هوبز هو القائل: لا إصلاح حقيقي إلّا بإصلاح الفكر الديني. وإذا كانت الحاجة ماسة آنذاك لتعميم قيم التسامح، ولاسيّما التسامح الديني، فإنها اليوم أكثر ضرورة في عصر العولمة والثورة الصناعية في طورها الرابع والذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة، حيث تطوّرت تكنولوجيا الإعلام على نحو خارق، وتقاربت الشعوب واختلطت بعضها ببعض على نحو لم يكن له مثيل، وأصبح الخبر يصل إلى المتلقّي بلمح البصر من أقاصي المعمورة إلى أقصاها.
الهوامش:
تعتبر حرب اﻟ 100 عام من أطول الحروب في التاريخ، وخلالها تعاقب 5 ملوك على فرنسا و 5 ملوك على بريطانيا، وكان من أطلق عليها تسمية حرب المئة عام هو المؤرخ الفرنسي فيليب كونتلمين في كتاب نشره في العام 1823، وصدر كتاب آخر للمؤرخ الفرنسي ثيودور باشليه بالإسم ذاته، وشاع بعدها هذا الاستخدام. وكانت الحرب قد اندلعت إثر الخلاف بشأن مقاطعة جاسكوني الموجودة في الأراضي الفرنسية، والتي تضم ممتلكات إنكليزية وترتبط بإنكلترا بعلاقات اقتصادية وتجارية وثيقة.
أنظر: شعبان، عبد الحسين – محاضرة بعنوان “النموذج الشرق أوسطي في الحياة المشتركة: سؤال شك أم سؤال يقين؟”، وذلك في الطاولة المستديرة التي نظمها مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت، 24 آذار / مارس 2024.
حرب الثلاثين عام “Thirty Years War” (1618 – 1648)، وهي سلسلة من الحروب والصراعات الدموية التي وقعت معاركها ابتداء في أوروبا الوسطى، وخصوصاً في أراضي ألمانيا الحالية العائدة إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وامتدت إلى أراضي كاتالونيا “إسبانيا” وشمال إيطاليا وفرنسا، ولم تشترك فيها روسيا وإنكلترا، وبحكم التنافس المذهبي، قادت إلى حرب مباشرة بين فرنسا وأسبانيا وهي حرب دينية وطائفية بالدرجة الأولى بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك، وقد شهدت أوروبا بسببها تدميراً شاملاً، وانتشرت خلالها الأمراض والمجاعات، مثلما عرفت هلاكاً لملايين البشر.
أنظر: المصدر السابق.
وفقًا لوستفاليا تم الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (الإمارات – المقاطعات) المتفرّقة وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية، ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي – قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء.
أنظر: المصدر السابق.
أنظر: المصدر اسابق.
كنتُ قد سألت الصديق المطران منيب يونان الذي إلتقيته آخر مرّة في مؤتمر “القدس في الوجدان العربي” الذي التأم في عمّان في “مهرجان الأردن للإعلام العربي” (3 – 5 تشرين الأول / أكتوبر 2021)، كيف توصّلتم إلى هذا القرار الجريء ووضعتم كل الماضي الدموي التكفيري خلفكم؟ ومن أين استمديتم القوّة لوضع مقاصد المسيحية وروحها أمام جمهرة من الكاثوليكيين واللوثريين المتعصّبين؟ فأجاب: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات والتي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها ، واتّفقنا على أنه بالنعمة وحدها والثقة بالمستقبل يمكن تحقيق ذلك، خصوصاً الإيمان بما يعجّل الخلاص المسيحي، وهو أمر لا يعود لنا فحسب، فقد قبلنا الله وأعطانا الروح القدس الذي يجدّد قلوبنا ويدعونا للأعمال الصالحة… فحياتنا الجديدة مدينة للرحمة والغفران والتجديد، وهي عطيّة نتلقاها بالإيمان، ولا يمكن أن نستحقّها بأي وسيلة أخرى. وبالعودة إلى إعلان المصالحة الكاثوليكية – اللوثرية، فقد ركّز على ما هو جامع وليس مفرّق، فعظّم تلك الجوامع وقلّص تلك الفوارق، بحثاً عن المشترك الإيماني الديني والإنساني، ومثل هذه النظرة لا تخصّ المسيحيين وحدهم، بل أنها يمكن أن تنسحب على جميع المؤمنين باختلاف أديانهم، فما يجمع المؤمنون، مسيحيون أو مسلمون أو من أتباع ديانات أخرى سماويّة أو غير سماويّة هو واحد يتجسّد في المُثل والقيم الإنسانية التي تمثّل رسالة الأديان وروحانيّاتها. فقد شاءت الإرادة أن يحصل ما حصل، حين التقت الكنيستان الكاثوليكيّة واللوثريّة واتفقتا على رفع جميع الإدانات والتحريمات السابقة التي خطّها تاريخ الانقسام و التناحر.
أنظر: مجلة أفق، مؤسسة الفكر العربي 10 كانون الأول / ديسمبر 2021.
سبق للباحث أن دعا، منذ مطلع الثمانينيات إلى سنّ قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة انطلاقًا من التجربة العراقية والتجربة اللبنانية وعدد من التجارب ذات البعد الطائفي التقسيمي والمجتمعي، وقد عالج ذلك في عدد من المقالات والدراسات وعدد من الكتب، أهمها: “النزاع العراقي – الإيراني” (1981)، و”المحاكمة: المشهد المحذوف من دراما الخليج” (1992)، و”عاصفة على بلاد الشمس” (1994)، و “من هو العراقي؟” (2002)، و”جدل الهويّات في العراق” (2009)، و “الهويّة والمواطنة – البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة” (2016)، وظلّ اعتقاده راسخًا بأن محاربة الطائفية بالطائفية ستفضي إلى مزيد من التشظّي الطائفي واستشراء العنف واستفحال التعصّب ووليده التطرّف، وهو ما ساد بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، لاسيّما في ظلّ نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، والتي أجّجت نار الصراع وأعطته بُعدًا هويّاتيًا، حتى وإن كان زائفًا، خصوصًا في ظلّ الشحن الطائفي والتمترس المذهبي والذي زاد من غلواء الطائفية السياسية.
نشرت في جريدة الوطن الجديد (العراقية) في 11 آب / أغسطس 2024.