أمد/
ابن سيدي بوزيد-مهد الثورة التونسية-الشاعر الفذ د-طاهر مشي : بين نار الحنين..ونار الأنين..أصوغ أشعاري..
“النص الإبداعي في تجلياته الخلاقة-لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين:لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية،كونها الباعث الأول على القول،وضغط اللحظة الشعرية،بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية..”(د-طاهر مشي)
“القصيدة المشتهاة هي التي تسكننا ولا تفارقنا مدى الحياة ، في كل مرة نكتبها نقول لا ليست هي ، ونبقى نبحث عنها بين طيات أفكارنا وذاكرتنا حتى ولو عشناها ، القصيدة ” المشتهاة “هي نداء الروح العميقة التي لا تأججه إلا الكتابة ، فهي تمنحنا الحياة للبقاء على ناصية الفرح ، كلما ضاقت بنا سبل الدنيا ، نبحث عنها بين طيات الحروف ، ربما كتبتها .. لكنني أبقى أبحث عنها حتى لا أضيع بوصلة الفرح في حروفي..” (د-طاهر مشي)
يصاحب الحرف والقلم-في حله وترحاله،ليكتب للفرح والشجن،يصافح الورق بين بهجة وألم،في رحاب عشقه للأرض والوطن والمرأة والإنسان،يحسن العبارة وينحتها فتستحيل تحفة فنية مدهشة،بالتحرر يحلم،لا يوقفه بطش ولا وهن.تأخذنا عباراته نحو الأعماق،فنلمس الوجع والأمل وكذا عشق الحياة والمرأة والإنسان،من إحساسه ننهل الحنين و الأشواق وكذا الأنين..
كلماته في عرض الوجع أطواق،تحملنا نحو اشراقة لا بد لها أن تكتمل-وحتما ستكتمل-
هو الشاعر الشاعر التونسي الذي ذاع صيته في أرجاء الوطن العربي وخارجه-د-طاهر.مشي يقول في حديث-مقتضب-معي،وأزعم أني-سرقت منه-بضعة كلمات مازال رنينها يداعب شغاف القلب..فالرجل يسكنه الشعر،ويمتلكه-قسر إرادته-القلم-وتحكمه بالتالي إمبراطورية-عمياء-لا ترى النور إلى حين ينبلج صبح القصيدة..
”بانتمائنا للمكان،بملامسة الحياة،سنجثوا على أثر ابتسامة ركبها المجهول في رحلة تفتيشها عن عنوان اطمئنان،باحتضاننا السماء،و تقبيلنا الأرض،سنواصل نحو ذاك الحلم،بتأبّطنا الحرية بنزفها المتهاطل،و الماسح لكل حزن،لن نبحث عن الصرخة الضائعة في غياهب الظلم،سيقطف وجداننا تربة الرحيل و سيحمل كل المسافات،عندها ستصغر أيها الألم،فما عاد العمر يثمله صهيلك،و ستبقى أيها الوجع تنتحب على أنقاض الأنين،فيعود الياسمين لحقول الوطن و جناحاته محمّلة بالحب والسلام والحنين الوقّاد لكل ماهو جميل في هذا الكون الفسيح..
بحبر الرّوح ودم القصيدة..سنمحو هذا الخراب الذي يسكننا..
“سألته-سؤال مخاتلا-:”كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم؟ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق؟
فأجاب دون تردد:“-خريطة الشعر العربي ما زالت واضحة المعالم على الرغم من محاولة بعض المتشائمين طمسها،فللخارطة رموزها وتضاريسُها الإبداعية،وهناك شعراء رواد شكّلوا قمماً إبداعيَّة لهذه الخارطة لا تطالها رياح التعرية المحملة بغبار العولمة،من أمثال السياب والبياتي والفيتوري والماغوط وصلاح عبد الصبور والجواهري.. وغيرهم.”
ثم أردفت سؤالي بسؤال فأنا-بكل تواضع ودون نرجسية عمياء-لا يعتريني الكلل والممل حين أحاور قامات شاهقة في الشعر بحجم د-طاعر مشي:-كيف يقيّم د-طاهر مشي-حركة الشّعر الحديث؟
”هي حركة،كما التي نعرفها مسطرة في كتب التاريخ الروحاني للإنسانية،تشتمل على الجيد المُغاير،والسيئ الرديء،والزمن سيكونُ حاكماً عادلاً يفرزُ ويفصل،ويحكم بالإستمرار والخلود لكل ما يستحق ذلك..الجميل في الحركة الشعرية الجديدة أنها تنحى منحى تجريبي يُنتج أحياناً ما هو مُدهشْ،وقادر على التواصل مع روح عالم جديد،ومُستمر في تجدّدهُ،والشّعر كذلك.”
وبسؤال مغاير سألته علني أظفر منه بجواب يشفي الغليل..
-حين أنادي في هدأة الليل:”أيا شاعرنا القدير-د-طاهر مشي “أيكون في النّداء معان قويّة كتلك التي قالها الفلاسفة عن شعر هولدرلين..؟
وكان جوابه هذه المرة مربكا وينم عن دراية عميقة بمفاصل الشعر العربي الحديث،إذ يجيب:“لأنني لازلت أجهل-د-طاهر مشي–لم يحدثْ أن فعلتها.ولكنني دائماً ما أقرأهُ بوضوحٍ على البياض،ذاهباً به نحوَ اعترافاتٍ أعمق،كي يتسنى لي قراءتهُ بشكلٍ أوضح.حينَ أعرفهُ تماماً،وقتها سوف أفعل،وأخبرك ما إذا كانت معانٍ قويّة كائنة في ندائي عليه،أم لا،دون تشبيهٍ بأيّ آخرْ.”-
أذكّرك أيها القارئ الكريم بما يلي : حين أحاور شعراء معروفين على الساحة التونسية والعربية أمثال الشاعر الألمعي د-طاهر مشي،أستلّ قلمي من-غمده-أبسمل،ثم أشحذه جيدا،وأخوض بالتالي “معركتي” التي طالما أخرج منها خاسرا..لكن هنالك هزائم هي إنتصارات،كما هنالك أنتصارات أكثر إيلاما من الهزائم،وأعتقد-جازما-أنّ-طاهر مشي-أجبرني على -رفع الراية البيضاء..!
–كيف يتشكّل -النص الإبداعي لديك..انفعال،عزلة،انكسار،أم لحظات صفاء ؟؟
ردا على هذا السؤال يقول -محدثي-د-طاهر مشي-:“النصّ يتشكّل من مجموع هذا وذاك،بمعنى أنّ حالة الكتابة تكون تتويجا لإرهاصات تقدّمت عليها بصمتٍ بالغٍ،وترقُّبٍ مصحوبٍ بارتفاع تأمُّليّ.ما يهمُّني هو اللذّة التي تنتجُ عن هذا الكلّ،باتصالي مع عمق ذاتي والبُعد الإنساني اللذين تنصهرُ بهما الأشياء والأسماء والأفعال..الخ.وهذا يعني أنّ-النص الإبداعي في تجلياته الخلاقة-لا يتشكّل لديَّ إلاّ بوصفه استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين: لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها.ضغط اللحظة الواقعية،كونها الباعث الأول على القول،وضغط اللحظة الشعرية،بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية.
في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل السردي-مثلا-حين يتلقّف اللحظة الواقعية،أو لحظة الانفعال بالحياة التي لا تزال مادةً خاماً،ليلقي بها في مصهره الداخليّ،ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ،وتحولاتٍ جمّة،حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة،أو غبار اندفاعها الأول المتعجل..ويظل النص الإبداعي:شعر..نثر..قصة..رواية..إلخ في تشكله ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أو لغـويٍ : اللذةُ وشحنةُ العذاب،الذاتُ والعالم،حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.”-
كاد-د-طاهر مشي أن ينصرف بعد أن أرهقته-نسبيا-بأسئلتي الملحاحة لولا خجله النبيل ودماثة أخلاقه العالية،إذ استجاب للرد عن سؤالي الأخير..
-ما هو رأيك بالنقد الآن ،وهل واكب مسيرة الشعر التي نشهد فوراناً لها منذ سنوات قليلة؟
وكان الجواب مستفيضا كالعادة..
“ما يثير الحزن حقا هذا التراجع والنكوص الذي يعرفه النقد الأدبي في جامعاتنا وأوساطنا الأدبية ،فالمشهد اليوم يبدو فقيرا لغياب مدارس نقدية عربية حقيقية،في المقابل يمكننا الاستشهاد بالتجريدية الأوروبية والسريالية والبنيوية والتفكيكية وغير ذلك،أما التراث العربي القديم فإنه مليء بالشواهد التي ما زلنا نستنزف قواعدها،لقد أصبحت المناهج القديمة مستهلكَة تكرر نفسها دون أن نجد نقدا حقيقيا للنصوص الشعرية مما شجع-كما أشرت-على انتشار الرداءة والإسفاف والشعر الهابط،ومن ثم كان على النقاد (وأنت واحد منهم-قالها بإبتسامة عذبة) أن يقوموا بأدوارهم وأن يصطفوا جنبا إلى جنب مع الأدباء والشعراء لأن الشعوب المغلوبة في وطننا العربي تعول عليهم في قراءة الواقع ونقد مساراته،وهنا يبدو دور الجامعات المتخصصة في دمج الأدب المعاصر بالعمل الأكاديمي وتفعيل دور النوادي الأدبية والمؤسسات الثقافية المعنية لأن التغيير لا يحدث إلا بشكل جماعي..”