أمد/
لم تكن الكتابة ترفا يوما.. فما بالك عندما يخرج الحرف موجوعا مقهورا.. يتمطّى على آهات ألم الحرمان من أبسط حقّ من حقوق الإنسان. الحق في الحرّيّة.. حرّيّة الجسد والفكر. يخرج الحرف قويّا، يزلزل المكان، يصدّع جدران القهروالإذلال، يفرض نفسه، ويكشف المستور داخل زنازين عدو يتغنّى بالديمقراطيّة، والالتزام بحقوق الإنسان، التي كان قد تعهّد الاحتلال أن يلتزم بها أمام العالم أجمع، فخان العهد، وظلم وتجبّر تحت غطاء أمنه، الذي أصبح المشجب الذي يعلّق عليه كل تجاوزاته القانونيّة والإنسانية والأخلاقية.
كتاب ” تصدّع الجدران” للشاعر والباحث والتّربوي فراس حج محمد، أجاب عن العديد من التّساؤلات التي تخطر على البال، وتتعثّر بإجابات قد لا تكون مقنعة للبعض أحيانا. أسئلة تتعلّق بدور الأدب في مقاومة عتمة السّجون: ( داخل المعتقلات أوخارجها).
لفت نظري الإهداء، فقد أهدى كتابه ل “لحظة الحرّية القادمة” في الزمن القادم. كلمات مطمئنة.. تحمل مشاعر الأمل والتفاؤل، بزمن قريب تختفي فيه كل مظاهر الاحتلال، تذوب فيها مفاتيح واقفال المعتقلات، تشكّل “تمثال الحرّية”.. ويتحقّق الحلم. أتبعها بقصيدة ردّة فعل للشّاعر الخالد محمود درويش، يؤكّد فيها على قوّة الأسير النّفسية، وثباته وصموده الأسطوريّ أمام كلّ محاولات التّرويض والقهر.
ضمّ الكتاب ستّة فصول:
تناول الفصل الأوّل، والذي جاء تحت عنوان ” الأسرى بين حرفين” عدّة مقالات هامة.
ابتدأه بمقدمة ثريّة تتحدث حول التّجربة الاعتقالية الفلسطينيّة في بعدها التّوثيقي، إذ اعتبرالكاتب التوثيق بأنواعه المختلفة، علامة من علامات الشّعب الحرّ، الذي يستشعر عظمة ما يقوم به حاليّا من فعل حضاريّ، بالإضافة إلى ما قام به -سابقا- أسلافه الذين خلّفوا له إرثا عظيما. فلا يوجد أمّة عظيمة دون أن يكون لها تاريخ موثق، متواصل من الأجداد إلى الأحفاد.
وقد ولدت ظاهرة المعتقلين الفلسطينيين في السّجون الصّهيونيّة، منذ ولادة الكيان الصهيوني الغاصب عام 1948، إذ ورثتها عن سلطة الانتداب، والتي بالأصل ورثتها عن فترة الحكم التركي العثماني لفلسطين. كلّها أصبحت تحت سلطة الاحتلال الصهيوني. فكان من المعتقلين: الانسان البسيط العادي، والمثقف، والشاعر، والفنان، والمرأة، والطفل، وكبير السّن الخ. فاستحقت فلسطين لقب بلد المليون أسير. كما أفرزت التّجربة الاعتقالية الفلسطينيّة ظاهرة ” عمداء الأسرى” ، ويشمل هذا المصطلح كلّ أسير أتمّ العشرين عاما في السّجن. وقد قارب عددهم ال 300 أسير. وهناك من استشهد نتيجة التّعذيب أو الاهمال الطّبي..الخ
مع العلم أنّه لا يتمّ التّعامل معهم كأسرى حرب، كما تنصّ عليه الاتّفاقات الدّولية ذات العلاقة، بل يتمّ التّعامل معهم كإرهابيين، وتطبّق عليهم قوانبن ” محاربة الأرهاب”.
وقد ناضلت الحركة الأسيرة كثيرا قبل أن تحقّق إنجازات هامة، إلا أنّها ظلّت محل تهديد بسحبها ، وهي خاضعة لمزاجيّة السّجان، ومرهونة بالحكومات المتعاقبة.
تحدّث الكاتب أيضا عن الكتابة الأدبيّة في المعتقل وعن أهمّيّتها التّوثيقيّة، خاصّة أنّها تتناول أدقّ التّفاصيل في هذا العالم السّرّيّ المرعب خلف قضبان السّجّان. كما وثّقت هذه الكتابات الحكايات الشّخصيّة لكلّ أسير كاتب.
فقد كتبوا المقال والقصيدة والقصّة والرّواية والشّهادات والمذكّرات اليوميّة التّسجيليّة، والخواطر والرّسائل..الخ، وكل جنس من هذه الأجناس الأدبيّة كان له هدف ورسالة، ولا شكّ أنّ هذه الكتابات أثرت المكتبة الفلسطينيّة بشقّيها: توثيق تجربة الاعتقال داخل السجن، أو كتابة تقويميّة توثيقيّة عن مجمل التّجربة الاعتقالية بعد الخروج من المعتقل.
مع العلم أن الأسير لا يكتب من أجل المتعة، وليس من أجل تمضية وقت الفراغ، وليس نوعا من التّرف، بل تكتسب الكتابة للأسير أهمّيّة وجوديّة توازي أهمّيّة الحرّيّة ذاتها أو الحياة نفسها في مقاومة مظاهر الاضطهاد والتّعالي.
إذا، هي أداة من أدوات مقاومة الاضطهاد، مقاومة فرديّة إبداعيّة، لها آثارها في نفوس الكتّاب أنفسهم، فأنا أكتب، إذا أنا موجود.
ومن هنا جاءت فكرة مشروع: لكل أسيركتاب للمحامي الحيفاوي حسن عبادي.إذ تم تشجيع الأسرى على الكتابة، وتم نشر كتاباتهم، التي كانت بمثابة الجسر الذي وصلهم مع من هم خارج قضبان السّجّان.
وقد تطرّق الكاتب إلى موضوع في غاية الأهمية وهو: اختلاف المعايير النّقدية تبعا لاختلاف التّجربة الانسانيّة، فجاء في المقال:
“لا يصحّ أن أحاكم نقديّا كاتبا يكتب فوق ” البرش” وبأدوات بسيطة، ويقتنص اللحظات، ويتحدّى الاجرءات التّعسفية، كما أحاكم كاتبا يكتب في مكتب فخم، وعلى حاسوب متطوّر،ويطلّ من مكتبه على حديقة مليئة بالورود الخ من ترف.
أيّ عالمين مختلفين بين هذا وذاك؟ فالفرق شاسع، كاتب يعيش الكبت والتعسف والإذلال، يحاول أن يقاوم بروحه وبريشته، وآخر يغرق في البهجة والتّرف. لذلك على الناقد أن يكون موضوعيا، ولا يجوز أن يصف الكتابة التي تخرج من خلف القضبان على أنّها ركيكة وتافهة ومتواضعة، بل هي مهمّة وأكثر في الدّلالة على العوالم الداخليّة التي يرسمها الكاتب لنفسه من خلال لغة لها فعل حيويّ تمدّ الأسير بالقوّة والتحدّي”.
على أمل أن يتمّ مراعاة ذلك من قبل النّقاد، وبالتالي يتمّ النّظر لكتابات الأسرى من بعد آخر، واقعي وإنساني، لإعطائه حقّه من الأهميّة، وبالتّالي احترام كل حرف يخرج من وراء القضبان،كونه يحمل في طيّاته دلالات لا يمكن تجاهلها.
وتطّرّق الكاتب لعلاقته الحميمة مع بعض الكتّاب الأسرى من خلال قراءاته لكتاباتهم، إذ هم كُتّاب صنعتهم التّجربة، فكانوا حالة خاصة لها حضورها المميّز في المشهد الثّقافي الفلسطيني.
ودعا المستوى الرّسمي إلى تكريمهم والاهتمام بهم والتّعريف بأدبهم.
الفصل الثاني جاء تحت عنوان: ” في العلاقة مع الأسرى”، وقد احتوى على عدّة مقالات تحدّثت حول علاقته الحميمة مع بعض الأسرى وأسرهم، وعن النشاطات التي شارك الكاتب بها دعما وإسنادا للأسرى وحقوقهم.
رأيت هذا الفصل أشبه بالمذكرات الشخصية للكاتب فيما يتعلّق بالأحداث والمواقف التي تتعلّق ببعض الأسرى وعلاقته معهم من خلال كتاباتهم، ومن خلال بعض أفراد أسرهم، بالإضافة إلى المراسلات والمكالمات الهاتفية التي وطّدت علاقته معهم. وهو جانب مهم يؤنسن قضيّة الأسرى، ويطلع القارىء على جوانب أخرى للأسير ومعاناة أسرته.
مع العلم أن الكاتب حج محمد قام بتحرير عددا كبيرا من الكتابات التي خرجت من خلف القضبان، قبل دفعها إلى المطبعة للنشر، ممّا زاد ارتباطه مع الأسرى على المستوى النّفسي.
وجاء الفصل الثالث تحت عنوان: “إطلالات على نماذج من شعر الأسرى”، والفصل الرابع تحت عنوان: “إطلالات على نماذج من نثر الأسرى”. وهي مقالات تحليليّة عميقة تناول بها الكتابات الشعرية والنثرية للكُتّاب الأسرى والاسرى المحرّرين من الجنسين.
وجاء الفصل الخامس تحت عنوان: ” الحضور الجماهيري لأدب الأسرى”:
عرض فيها الكاتب بعض القراءات المختصرة عن كتب وإصدارات بعض الأسرى، مع نبذة عن حياة كل كاتب، أشبه بالسيرة الذاتية المقتضبة.
كما شمل الفصل المذكورعلى بعض التّقارير الصّحفية حول النّدوات التي تناولت نشاطات الأسرى وإبداعاتهم، وتكريمهم بحضور المؤسّسات الرّسمية والأهلية والمهتمّين من الشّخصيات الوطنيّة والشّعبيّة.
أمّا الفصل السادس فقد جاء تحت عنوان: “مبادرات لدعم الأسرى الكتّاب وإبداعاتهم”:
تطرّق الكاتب إلى مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة، وإلى أهدافه التي تتلخّص بجمع كل ما يخصّ الأسرى الفلسطينيّين، سواء أكانت متعلّقات شخصيّة، كالرّسائل الفرديّة والخاصّة، أم الرّسائل الجماعيّة والعامّة، والكرّاسات والمخطوطات والصّور واللوحات، وكل ما له علاقة بالمنتج الثقافي والفكري للأسرى. كما أنّه يهدف إلى توسيع نطاق البحث عن كل ما له صلة بتاريخ وماضي الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة الأسيرة، وتنفيذ مشروع الموسوعة السّرديّة التي تؤرّخ وتوثّق لمسيرة الحركة الوطنيّة الأسيرة.
كما تحدّث الكاتب عن مبادرة المحامي الحيفاوي حسن عبادي: ” لكلّ أسير كتاب”، التي شجّعت مبادرات أخرى ولدت من رحمها.
واستطاع العبادي أن يروّج لأدب الأسرى – الذي أطلق عليه ” أدب الحرية”- وأن يجمع حوله كوكبة من الكتاّب والنّقّاد الّذين تولّوا مهمّة الحديث عن هذه الاصدارات في البلدان العربيّة.
ولم يكتف الكاتب بالتطرّق إلى الكتاب والصحفيين الأسرى الفلسطينيين، بل تحدّث عن منظمة القلم الدولية التي تطلق حملتها التضامنية في 15 نوفمبر من كل عام تحت عنوان ” يوم الكاتب المسجون”، تسلّط فيها الضوء على قضايا الكتاب المسجونين أو الذين يواجهون المحاكمة في جميع أنحاء العالم، نتيجة لممارستهم السّلميّة لحقّهم في حرّيّة التعبير.وتساءل في عنوان مقاله: أين الكتاب المسجونون؟ وكانت إشارة إلى تجاهل المنظمة المذكورة الأسرى الفلسطينيّين الكتّاب.
ومن خلال مقاله وصف مأساة وضع الكاتب داخل المعتقلات، وما يتعرض له من اضطهاد وتعذيب.
وقد بذل الكاتب مجهودا كبيرا من أجل إعداد قائمة بأسماء ” كتّاب السجن” القابعين في سجون الاحتلال، لتكون نواة لمعجم خاص بهم، سيتم العمل على إنجازه في المستقبل ليشمل إبداعاتهم، والإضاءة أكثر على أحوالهم الفكريّة والشّخصيّة، ونماذج من كتاباتهم.
أولا: لفت الانتباه إلى أنّ الأسرى الفلسطينين أصحاب فكر ومشروع إنساني كبير، وليسوا كما يروّج لهم الاحتلال بأنهم إرهابيون وقتلة.
ثانيا: ردّ على منظمة القلم الدولية (PEN) التي تتجاهل الأسير الفلسطيني ضمن أنشطتها، مع أنّها مهتمّة بالسجناء السياسيين في السجون العربية وغير العربية.
ثالثا: تحقيق نوع من العدالة البحثيّة والشّموليّة، فيما يخصّ الأسرى الكتّاب.
وتبع الأهداف المذكورة القائمة التي شملت 133 اسما من الكتّاب الأسرى في سجون الاحتلال. وقد أشار الكاتب أنّ القائمة ليست شاملة ولا نهائية، على الرغم من أنّه لم يدّخر جهدا في سبيل حصر جميع الأسماء.
وقد ختم كتابه برسالة ترجمها إلى اللغة الانجليزية محمد خمس، موجّهة إلى منظّمة القلم الدّوليّة (PEN)، بعنوان: “أين الكتّاب الفلسطينيّون المسجونون”، أشار الكاتب فراس حج محمد من خلالها إلى تقصير المنظمة بحق الأسرى الفلسطينيين الكتّاب، ووصف بشاعة ما يتعرّض له الأسير الفلسطيني. وتساءل من خلالها: من سيدعم الأسير الفلسطيني،الذي يواجه نوعين من القمع، داخل سجون الاحتلال و داخل سجون الأنظمة العربية المختلفة.
رسالة قويّة تضع منظمة القلم أمام مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانيّة، تجاه من دفع ثمنا غاليا مقابل حريّة الفكر والكلمة.