أمد/
أن يموت كاتبٌ؛يعني أن تموت غابةٌ كاملةُ الشجر والمطر.غير أن هذا الموت مجازيّ،لأن المبدعين يشبهون المعابد والموسيقى والصلاة،ويبقون،بما تركوه من ضوء،يسعى بين عقولنا وقلوبنا.ولعل الروائي الياس خوري نموذجٌ كبير ونورانيّ،ويزدحم بشموسه التي أطلقها من لبنان إلى فلسطين،ليؤكد أن العمل الأدبي المميز والجامح والممتلئ،يستطيع أن يتجاوز مكانه المحليّ،ليتعالق ويتماهى مع ما يحيط به من أماكن مشتعلة ومباركة،مهما اقتربت أو ابتعدت،ويجعل منها موطنه الباذخ الموّار،ومجاله الحيوي الأكيد.فالياس خوري ليس كاتبا “لبنانياً”،بقدر ما هو فلسطيني وكونيّ،إن شئت!
إن روايات خوري وجلّ مقالاته ومداخلاته،انشغلت بفلسطين؛التاريخ والمظلمة والموقف الواجب،الذي يتغيّا الخلاص التام.وبدا كأنه يطلّ علينا من نابلس أو غزة أو حيفا،وربما من رام الله،التي شغلت حيّز السياسة،وكانت نقطة تقاطع النهار والليل.
والياس خوري الذي طلع من بيدر البحث والحراك الفلسطيني،مبكّرا،في لبنان،قبل الغزو والخروج،هو نفسه الذي شكّل مع درويش ولُحمة المثقفين الفلسطينيين،تلك النار المقدّسة التي تجلّت دراساتٍ ومجلات ومنشورات..تركت بصمتها العميقة على جدران الأدب المختلف.
..ورحل الياس خوري،لتصبح فلسطين الثاكل،ثاكلاً،للمرّة المليون،وأبناؤها الشهداءُ والأدباء والرّضعُ،يصّاعدون،ويتفلّتون من بين أصابعها،كأنهم الماء أو الرمل الساخن.وفلسطين التي تنقص برحيل هؤلاء،هي ذاتها التي تكتمل بهم،لأنهم مَن يعطيها معناها وجوهرها العميق الباقي،كما يمدّونها بأسمائها الخالدة.
وَلَكم دعاني بكلماتهِ،لأعودَ إلى كفّيه المفرودتين على الحِبر اللاهب!ربما كان أكثرَ بداهةً من تَلْمِ الأرضِ بعد أن افترَعها المحراثُ الخشبيُّ القديمُ،وقد أدركَ الضّوءَ المنعكسَ مِنْ على بساطيرِ الغزاةِ أو زيِّ المجنّداتِ الغريبات..ولهذا؛زجّني،هكذا،في هذا الغبشِ اللزجِ،مع الأفعى ذات الرؤوسِ الجرسيةِ الألف.
لقد كانَ الكاتبُ محاصراً بالعمومةِ الناكرةِ والجهلِ والمفارقةِ الخاذلة.
أما نحن؛فلا نُتقنُ،من لعبةِ الديناصورِ إلاّ الخوفَ أو الهروبَ أو الارتماءَ في حِضنه،لأنّ جملتنا المعرفيةَ غائبةٌ،أو حاضرةٌ مشوَّهةٌ،وربما شاركنا في قصِّ جَفنيها،وخدشَ صدرَها الصغيرَ،أو مَنْ تطاولَ على شرفِها،لأن أكبرنا هو الحكّاءُ العربيدُ المشروخُ من الفخذين إلى الكتفين.فانظرْ في المرآةِ!أو ضَعْ رأسَكَ بين يديك،وتأمّل كثيراً،قبل أن تعيدَ فتحَ ناظريكَ أو تنبسَ بحرفٍ واحد.
ويا أشجار الأرز الممتدة في صدره!انطلقي،واخترقي كبد الشمس.واهزمي الظلام في آدم.واخلقي هرقلاً جديداً يحرر بروميثيوس،وابعثي دعوة الإيمان لهند،وأعيدي الإنسان للمشوّهين القتلة،لعلّهم يتوبون كما تابت المجدليّة..وواصلي مدّ جذورك حتى ترهص بالليمون والزيتون من جنين إلى غزّة.
ويا أيتها الرجولة الفارعة كالأبنوس،توالدي على الطرقات كالنجوم الشاهدة على الحياة،لتسير فلذات أكبادنا نحو بيادر الفرح عند الفجر.وعلّميهم كيف يكسرون الوحوش الضارية،ليخرجوا الطير من بين أنيابها الكريهة.لتنطلق أغانينا،حافية كالأنهار،وعامرة كالخوابي والمشاوير والصلاة.
ويا أبانا الذي خرج من الجنّة وحطّ على الأرض!عليك أن تخلق جنّتك الوارفة الخلّابة هناك..بعيداً في القلب،لتعود علاقتك بأبواب الغزالة ممتلئة بالحكايا.ولا ذنب على الأرض إلا ذنب أولئك الذين فقدوا صلتهم بآدم.
***
كانت الوردةُ بيضاءَ،والسماءُ سحابةَ ثوبِ عروسٍ،عندما امتدّت يد زيوس لتوثق بروميثيوس بالصخرة الصماء،ويأتي الطيرُ الجارح،آكل الكبد الحرّ،ليقضي على معظمه.
وكانت الصحراء صحراء،والحرب بلاء وشظايا،عندما مضغت هند كبدَ حمزة..وعندما هرست دبابةُ الجنزير لحمَ رضيع في الطريق،كانت الدماء دماء،والسماء غائبة عن السماء..ومن لحظتها وقلب الأرض يستعر كالجمر،ويلوب من أوجاع الكراهية في الإنسان،ومن خراب نظرته لكثافة النوع البشري.
وربّما ألوك حروف الأوائل لأهرب من سؤال حفيدي القادم،ولهذا أحاول أن أستر وجهي برغوة الكلمات والردّ المفتوح على الأسئلة الصعبة المشروعة،التي تناساها علماء النْفس الاجتماعي،والمثقفون العرب الذين لاقوا الرواء(!) في منافيهم الاختيارية خلف البحار.فأسئلة الصغار هي سيوف المعتزلة والكهلة،وأساس مفاهيم المناطقة والرواقيين والجوهر والعرض..ولكن رداءة الزمن العربي الآنية قلبت عواميد الفكر والثقافة والتراث.فكبرنا وفينا رهبة السؤال وفضيحة الجواب،ورفعنا وسائل الدفاع الآلي والتبرير،ومقولات الدِّين المُلتَبسة..فأصبحنا بلا حدود أو هدوء أو بلاد!
***
ولعلّي،مرّة اخرى،أهرب من سؤال الطفل في روحي،أو لعلّي وصلت الى قناعة أكيدة بأن”كولّاج”الحياة ليست إلاّ ترتيباً طبيعياً للأمور..ولكنني لم أختر درب “رامبو” الصامت العابث،فحاولت حفر القواميس كمقدمة لحفر القبر أو القصر أو البحث عن كنز لن أجده!
وما هذه الُهلامية الرّخوة أيّها الكبير،كدمعة الرجال!هل وصلنا إلى الغموض الكامل أم الوضوح الكاسح؟أم أن تعب القلب جعل الأمور تتداخل وتنصهر في بوتقة الرماد؟وما أهمية هذا السؤال أو كلّ الأسئلة ما دام الربع الخالي خالياً إلآ من الرمل والضباع ورعاة الغنم المقهورين؟وأن نينوى مدينة قابلة لتجديد الموسيقى،ولاستيعاب أعراس الجنون؟
وما قيمة اللغة إذا لم تضمن لك المذبحة أو الزلزلة أو النسيان الُمطْلق للشهوات؟وماذا تنفع الغابات والأنهار إذا لم تطلق أعنتّها للظباء،وتشهد الرفيف الأخضر ساعة الضحى؟
الصمتُ كلامٌ مكتوم.
وثمّةَ متّسعٌ للكلام.ولا بُدّ من رقبة الديك حتى يظلَ قادراً على الصياح،ولا بُدّ من سكين المتنبئ حتى يشخب دمُ الطير على خدّ العروس،لتكتملَ زينتها،ويعودَ بكامل ألوانه المزركشة بعد أن يرقص بقشعريرته،ويلفّ ويدور حول نفسه،ذبيحاً طازجاً معفّراً بإكليله الأحمر المنعوف الساخن.
ولا بُدّ من تلك الهّزة العميقة التي تنشر برقَها المتشعّب في الأوصال،عند كل فجيعةٍ أو ذكرى،أو جَمال يبطش،أو دمعة رجراجة كاوية،عندها تحسّ أن أحشاءك تغوص بعيداً،كأنك على عتبة التحوّل إلى كينونة أخرى.
ولا بُدّ من عافية الصراخ والبكاء والضحك المجلجل والشبق،والذهاب إلى آخر الموجة،أو إلى كهف الغابة المسحور.ولا بُدّ من عَرقِ الخطيئة ونَهمِ اللذّة والعبث،حتى يكون للحسرة طعمها الجليل.ولا بُدّ من السجود العميق والصوم والتمسّح بأثواب النور،حتى يخفّ القلب ويجنّح مع النجمة اليتيمة الواعدة.باختصار،لا بُدّ من كل شيء حتى نسحب أوراق الجنون من الوردة الريّانة المحتشدة بالرقّة والشّهد والرّهام الرقراق.
***
ولم تَعُدِ الأفعى من وردتِها السَّوداء،يا الياس!لتلقيَ علينا السلامَ،فقد هيّأتْ لأبنائِها النّاعمينَ، أقفاصَ الفراخِ والدمِ الطفلِ الفائض.وبقينا،على شيخوختِنا،نستعيدُ النَّايَ الذي هربَ من ضلوعِنا.فلا بأسَ من أن نقتسمَ التحيةَ على ما تبقّى من مشهدِ النهرِ الظامئِ،الذي كشفَ عُمْقَ العطشِ،أو الفيضانِ الأحمر سالفِ الذكرِ.
وقيل؛لم تُكْمِلِ العَرُوسُ زينَتها،كما ينبغي،فماتَ القُرنفلُ والماء.
ولا جدوى من هذا الهروبِ الأنيقِ،أو التلهّي بهذه التسليةِ المضبوطةِ الراقية،لأنَّ الحوذيَّ أتقنَ ضربَ السياطِ،وأصبحنا(نحن المثقفين) مدجّنين كما يروقُ لأمسياتهِ العارية،ولا بأسَ من أن نقضيَ ما تبقّى من أيامٍ،فقد ردَّد النقّادُ إطراءَهم وتبريراتِهم بإتقانٍ شديدٍ،ولن يُغطّي نُحَاسُ الصنّاجةِ أسماءَنا العاليات،أو ما يقوله الرواةُ في الخانِ،أو على جسرِ القمرِ الوحيد.فليمُت مَنْ يمُت،ولينتحرْ مَنْ ينتحر،وليقدّمِ الأميرُ قبّتَنا الخضراءَ المعتّقة إلى سادنِ الجحيمِ الوحيدِ..فماذا عسانا نفعلُ في هذا السقوطِ المخيفِ الواسعِ المجنونِ؟
بضعُ كلماتٍ ونردُم في العيونِ البسيطةِ كل هذا الرعب.وببضعِ كلماتٍ نُبشّرُ بالنشيدِ والصغارِ..ونعرفُ أننا نمارسُ آلياتِ التعويض.لكننا سنظل نراهن على الكلام باعتباره سلاحنا الأخير ،الذي نعوّل عليه.هكذا علّمتنا،وهكذا سنكون.