أمد/
خلال تحديث جهاز حاسوبي وجدت مخطوطة ملاحظاتي التي دوّنتها يوم 29.09.2010 حين شاركت بندوة مناقشة رواية “العمى” (Ensaio sobre a Cegueira) للروائي جوزيه ساراماغو (ترجمة وتقديم: علي عبد الأمير صالح) فحفّزتني على قراءتها ثانيةً.
كتبت في حينه: “يحسّسنا بالعمى بوسائل أدبية، أبطال الرواية دون أسماء شخصيّة أو اسم عائلة، الأبطال يوصفون بوظائفهم أو صفاتهم: الطبيب/ زوجة الطبيب/ عامل الفندق/ سائق التاكسي/ الطفل الأحول، وكتبت الرواية دون أرقام فصول، لا زمان، ولا مكان للقصّة، ليُدخل القارئ لجوّ العمى”.
وأضفت: “ما أصعب أن يكون المرء مُبصرًا في مجتمع أعمى! الأعمى السيئ ليس ذلك الذي لا يرى، وإنما الذي لا يُريد أن يرى. لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية، حتى لو كنا نرى… لم نكن حقا نرى! نتيجة لظاهرة العمى التي ألمّت بالبشر تعمّ الفوضى، يتصارعون على السلطة وعلى البقاء على قيد الحياة”.
وأضفت: “زوجة الطبيب ترى ما لا يراه العميان؛ ترى الاستبداد والاستغلال والسرقة والزنى، ترى القوي يأكل الضعيف، ترى كيف تضطر النساء إلى الانحراف إلى الزنى لأصحاب السلطة حتى تضمن لقمة العيش لها ولزوجها، ترى الأوساخ والقاذورات على جوانب الطريق، ترى مساكين على حافة الطريق مرضى دون علاج، ترى جثثاً معفنة في الشوارع لا تنل شرف دفنها، فتقول: ما أصعب أن يكون المرء مُبصرًا في مجتمع أعمى!”.
وأضفت: “تصف الرواية بشكل رمزي مجتمعنا؛ مجتمع أعمى– ليس ماديا جسمانيا– بل هو الجهل والعمى الفكري الذي يؤدي إلى التكلّس ويمنع التحرك والتقدّم والتطور. بحاجة إلى شخص مُبصر يقودهم من الظلمات إلى النور وهنا تقع المسؤولية على عاتق المبصرين، ويقول السيّد المسيح: حين يقود شخص أعمى أناساَ عميان فإن الحتمية/ النتيجة ستكون سقوطهم الحتمي، ولفت انتباهي الجانب الديني: في إحدى الكنائس تمثال المسيح وقد وضعت على عينيه عصبة في إشارة غامضة إلى أنّ الإله الذي يرى هذا العمى في البشرية ويرى الفساد والظلم والاستبداد والفوضى والمساكين والمظلومين في الأرض دون أن يحرّك ساكنًا– لا يستحق أن يكون مُبصرًا.”
أما في قراءتي الثانية وجدتها رواية فلسفيّة عميقة تتناول وباءً غامضاً حلّ على المدينة، أصاب أهلها فجأة بالعمى الجماعي، مما خلق الهلع والفوضى، لم تنجح السلطة بالسيطرة على الأمور الحياتيّة للمواطنين ممّا أتاح الفرصة لعصابات المافيا لتستلم زمام الأمور وتتحكّم بالدواء والطعام، وكانت زوجة طبيب البلدة بالمرصاد، فهي الناجية الوحيدة من وباء العمى، واستلمت زمام الأمور وقادت السفينة إلى شاطئ الأمان قائلة: “لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون. بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون”.
يصف الكاتب احتجاز السكان في الحجر الصحي، تماماً كما عشنا الوضع في فترة الكورونا (من الجدير بالذكر أنّ الرواية صدرت باللغة البرتغالية عام 1995)؛ بدايةً في مبنى قذر متّسخ لا يصلح لمعيشة البشر، دون مأكل ومشرب، تحت حماية وحراسة وسيطرة الجنود، الذين يعاملون “المرضى” بقسوة وساديّة ويمنعون أيّة تواصل مع العالم الخارجي خوفاً من انتشار الوباء ولكن الأمور تخرج عن السيطرة لتستغل المافيا الفرصة لتملأ الفراغ فتتحكّم بتوزيع المؤن وكلّ شيء بثمنه.
لفت انتباهي أن الكاتب استعان بالألقاب لأبطاله عوضاً عن الأسماء؛ “الطبيب”، طبيب أخصّائي بطب العيون ويصاب بالعمى فجأة إثر معاينته لأحد مرضاه، وحين يتم حجره يكتشف أنّ غالبيّة المحجوزين من زبائنه وبطبيعة الحال يصبح حجر الزاوية.
“زوجة الطبيب”، هي البطلة الوحيدة التي لا تفقد بصرها ولكنّها تتظاهر بالعمى لتبقى برفقة زوجها، تمدّ يد العون للجميع وتستشيط غضباً عندما تكتشف أنّ مسؤولا يشترط تزويد إحداهن بالغذاء مقابل الجنس (وما أكثرهم في زمننا!) فتقتله، وتساعد الجميع قدر استطاعتها.
“كلب الدموع”، ينضم للمحجورين الذين أصيبوا بالعمى، رفيق زوجة الطبيب ويقف بالمرصاد لحمايتها وزملائها ضد الكلاب المتوحّشة ولعق دموعها ليحظى بلقبه.
“الأعمى الأول”، يُصاب بالعمى فجأة ساعة انتظاره عند إشارة مرور، يُنقل إلى بيته ومن ثمّ إلى عيادة الطبيب ليُعدي الجميع ومن حسن حظّه أنّه أوّل من يستعيد بصره من الموبوءين.
“لص السيارة”، يقلّ الأعمى الأول بسيارته إلى منزله، ويقوم بسرقتها حين يكتشف عمى صاحبها، ويشاء القدر أن يُصاب هو الآخر بالعمى، ويدخل الحجر ليكون أوّل قتيل برصاص الحرّاس إثر مشادة لطلبه العلاج لقدمه المصابة.
“زوجة الأعمى الأوّل”، تُصاب بالعمى مباشرة بعد إصابة زوجها، وتنضمّ إليه في الحجر وتكون أوّل من تُطوّع جسدها مقابل الغذاء.
“الفتاة ذات النظارة السوداء” التي كانت تعمل كزانية، وأصيبت بالعمى بينما كانت في حضن زبون، وفي الحجر يتحرّش بها أحدهم فتركله وتسبّب موته، ومن جهة أخرى فإنها ترعى الطفل الأحول الذي فقد والدته؛ وهو أحد مراجعي الطبيب في عيادته، ويُصاب بالعمى كغيره.
“الرجل العجوز ذو عُصابة العين السوداء”، الذي انضم للمحجورين برفقة ترانزيستوره مما أتاح للجميع متابعة الأخبار، ويقود زملاء الحجر للتمرّد على العصابات فيصير عشيق الفتاة ذات النظارة السوداء.
“الرجل ذو السلاح” هو قائد المافيا/ العصابة ويسيطر على المؤن والغذاء بواسطة السلاح والبلطجية والابتزاز بأبشع صوره، ومنها مصاغ الفتيات واغتصاب النساء فتقوم زوجة الطبيب بطعنه حتى الموت.
وجدت الرواية فلسفيّة فكريّة مفادها أنّ عليك أن تؤمن بذاتك؛ إن أردت أن تحظى بخدمة ممتازة أخدم نفسك بنفسك، وإن من يدفع مقدما يلقى دائما خدمة سيئة في النهاية.
أقولها بصريح العبارة؛ إن كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل نفعل كل ما بوسعنا كي لا نعيش كالحيوانات.
نعم، إن الصعوبة لا تكمن في معايشة الناس، إنما في فهمهم، وحين يجنّ الجميع فإن احتفاظك بعقلك يصير أقسى أشكال الانتحار، فإن مسألة كوننا على حافة الموت هو شيء نعرفه منذ لحظة ولادتنا فلذلك يتوقّف عليك الوصول إلى غايتك.
يصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أنّ الخوف من أهم مسبّبات العمى، والعمى هو أيضا أن يعيش المرء في عالمٍ تبددت فيه الآمال كلها.
نعم؛ إن أنت أردت أن تعمى فسوف تعمى.