أمد/
قرأت رواية “تراتيل في سفر روزانا” للكاتبة المقدسيّة نزهة الرملاوي (تصميم الغلاف: دعاء العمري، إصدار: دار ابن رشيق للنشر والتوزيع، صدر لها “عُشّاق المدينة”، “كرنفال المدينة”، “القبّعات الملوّنة”، “ذاكرة على أجنحة حلم”، “قِراءَةٌ مِنْ وَراءِ الزُّجاجِ” وغيرها)ضمن نشاط ندوة اليوم السابع المقدسيّة.
استشهدت جدّة بطلة الرواية (روزانا) يوم ولادتها، حيث كانت تعمل ممرضة في المشفى الغزيّ الذي ولدت فيه، ذهبت لتشتري الحلوى لتوزيعها بمناسبة ولادة حفيدتها، نتاج القصف الإسرائيلي على غزة، خلال معركة الفرقان، (في شهر كانون الأول من العام 2008)، وورّثتها نكبتها واسمها.
ولدت روزانا خلال الحرب وسلبت طفولتها، مثلها مثل مجايليها الذين ولدوا في ظل الحصار المستمرّ على قطاع غزة لعشرات السنين وعانوا الأمرّين من الذل والحرمان والقهر وويلات الحروب، ورثت المخيّم واللجوء والقصف، الذي يقتل الحجر والشجر، والأجنّة في بطون أمّهاتهم.
ترسم الكاتبة بحروفها معاناة أهل غزة؛ ما شاهدناه على شاشات التلفاز وما تابعناه في وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا من قتل ودمار، وفتّشتُ بإبرة وفتيلة عن الحبكة عبر صفحات “الروائية” ولم أجدها.
رسمت الكاتبة بجميل حرفها ما شاهدته من مشاهد يندى لها الجبين؛
تصوّر هدم المساجد والكنائس، قصف المدارس، قتل الصغار الأبرياء، فيضطر آباؤهم حمل جثامينهم، السطو على المياه الجوفيّة وسرقتها لصالح المستوطنات وحرمان أصحابها منها… وطابور المؤن.
تتناول ظواهر سلبيّة؛ المحاباة المتعمدة في توزّيع بطاقات التّموين، الانقسامات والخلافات القائمة بين الفصائل المختلفة (يوحّدها وداع مقاوم شهيد)، آفة العمالة والخيانة “رأى أبي جسّاسًا في زاوية، كان يراقب المشهد، ويخابر العدوّ من أجل بعض الشّواقل، وينجح في ضبط أبطال المقاومة”، وكذلك دور فريد وفريدة في رصد تحرّكات المقاومين ونقل المعلومات للعدو مقابل حفنة نقود مما أدى لاغتيال أحد المقاومين، معاناة نورا إثر طلاق والداها وتفكك أسرتها ومعاملتها بقسوة من زوجة والدها وتسخيرها.
تتساءل الكاتبة ساخرة بسوداويّة قاتلة: هل كانت مكتبة الكتب التي أتلفها العدو تقاوم وتطلق الصّواريخ؟ هل كانت العائلة التي تتناول طعامها تقاوم أو تطلق المدافع؟ وهل أضحت زجاجات الحليب بين يديّ الأطفال قنابل؟
تتساءل الكاتبة على لسان أبطالها؛ كم نحتاج من الوقت كي نستريح من مشاهد القتل والدّمار؟
متى نتساوى مع العالم بشيء من الأمن والاستقرار؟
كيف نعتلي مراكبنا، ونمضي في البحر، دون أن تضربنا القذائف؟
تتناول الكاتبة التمسّك بحق العودة الذي تنازلت عنه “اتفاقية أوسلو”، حرب الإبادة البربرية ضد غزّة، الحصار المقيت وإغلاق المعابر، شحّ المعونات، القصف الدائم بالصواريخ والقذائف الفسفوريّة وغيرها من وسائل الدمار الشامل ليل نهار، قصف وتدمير مرافق “الأونروا”، وغيرها من المرافق التابعة للأمم المتحدة ومدارس الوكالة مما يجعل روزانا تقول: “أمي تصيح للمرة المائة: غارة، غارة، اركضي، اركضي لمدرسة الوكالة، اختبئي هناك”. “المدرسة؟ أما قصفوا المدارس والعوائل النازحين؟ أما قصفوا المساجد على رؤوس المؤمنين؟ أما قصفوا المشفى وقتلوا أطفالًا بساحته آمنين؟”
تنتقد بحرقة الصمت والخذلان العربي: “وينكم يا عرب، وينكم يا أمة المليار، هذه مش حرب، هذه مجازر، إبادة، غزة تدافع عن شرف الأمة، عن الأقصى، عن القدس، وين النّخوة؟”، وتقتصر نخوتهم على تزويد أهل غزة بآلاف الأكفان، وبعض المؤن منتهية الصّلاحية، وتقول بسخرية: “لا تهدونا ألعابا… اهدونا أطرافا اصطناعيّة لنعمل، وخبراء وماء ودواء. ليعلم الظالمون أننا على قيد الحياة”.
ترسم الكاتبة بقلمها صورة مأساوية مؤلمة شاهدها العالم أجمع عن هؤلاء الأطفال الذين تزاحموا لكتابة اسمائهم على أطرافهم حتى يتم التعرف عليهم ساعة استشهادهم، وتنقل لنا طلب أحدهم قائلاً:
“اكتب اسمي الرّباعي على يديّ ورجليّ، حتى إذا استشهدت، يعرفوا أنا مين وابن مين.
خلص. راح أكتب لك على يد واحدة، أو رجل واحدة، راح يعرفوك.
لا يا حبيبي، بدّي تكتب لي على يديّ ورجليّ؛ عشان إذا اتقطع جسمي يجمعوني، بلاش يحطوا إيدك بدل إيدي، أو رجلك بدل رجلي، إنت قصير وأنا طويل؛ ما ينفع بصير أعرج في الجنة”.
يحلم أبناء غزة بالحياة؛ فحلم ندى أن تصبح خبيرة في صنع أطراف متحرّكة، وروزانا تحلم بتسخير طاقة الشّمس في إضاءة القطاع ليلًا، وشباب غزة ابتكروا حجارة بناء بلاستيكية صديقة للبيئة، ساهمت في حلّ مشكلتيّ نقص مواد البناء وازدياد النّفايات البلاستيكية.
راقت لي العناوين الفرعيّة؛ أوراق من مذكرتي، صفيح يضيء الشمس، جوع كافر، ما بين الحبّ والذكرى، زمن يصحو من جديد، رقص تحت المطر، خالتي زهرة، سُطور من الحبّ، رسائل من تحت الركام، قرابين لآلة الحرب، رحلة صعبة، مذكّرات ندى، أعياد تحت الحصار، نورا، رقص في ملاجئ الخوف، هروب في هدنة الحرب، عودة إبراهيم، ما قبل الطوفان؛
وكذلك الأهازيج الشعبيّة التي استعانت بها.
وراق لي الإهداء: “لمن نالوا أوسمة إلهيّة، وفازوا بعالم لا يشبه عالمنا، لمن تصدّروا واجهة الشّرف والكرامة، وكانوا أسطورة صمود وبقاء”.
ملاحظات لا بد منها؛
وقعت الكاتبة في فخّ النمطيّة ومخالب الدعاية الصهيونيّة وأنسنة الهولوكست؛ وتبنّي أسطورة آنا فرانك (“كتبت “أنّا فرانك) مذكراتها (الصحيح: يوميات وليس مذكرات)، في الفترة من الثاني عشر من حزيران 1942 (الصحيح: 14) حتى الأول من آب 1944 (ص. 81) “أنا فرانك روت اضطهاد في معسكرات النازيين”، (الصحيح هي يوميات تدوّن اختبائها في أمستردام الهولندية وليس الاضطهاد في المعسكرات)، فالضحية اليهوديّة مختطفة لصالح مشروع ينكر حقّنا في الوجود، ولا يجوز لنا أن نلعب لعبة الشعور كضحيّة الضحيّة، فالضحايا ضحايا لا مبرّرات لمن جعلها ضحايا.(أخذتني لمخطوطَتي كتابين لأسيرين يصوّران، كلّا على حدة، تجنيد العملاء، وأهم مرحلة هي أخذهم لجولة “تثقيفيّة” في “ياد فاشيم”، المركز العالمي التوثيقي والبحثي والتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست).
وكذلك الأمر شرعنه المسميات الصهيونية لتصير جزءًا بنيوياً من الرواية وتبنّيها في خطابنا؛ “حرب الرّصاص المصبوب” عوضاً عن معركة الفرقان، أو بقعة الزّيت اللاهب، “حارس الأسوار” عوضاً عن “سيف القدس” وغيرها.
ووردت بعض الأخطاء التي كان بالإمكان تجاوزها، “الحمد لله الذي وهب (بيل غيتس) اختراع الهواتف” (ص. 46) الصحيح: مارتين كوبر عام 1973 وغيرها.
لغة “الرواية” جميلة وانسيابية ولكن تنقصها الحبكة الروائية فاللغة وحدها لا تبني رواية، فوجدتها نصاً سردياً مفتوحاً، تصوير مشاهد ومناظر عشناها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزيون، دون حبل روائي يربطها. وجدتها تقريريّة تصويريّة موجعة ومؤلمة وحبّذا لو لم يتم تجنيسها برواية.
جاءت النهاية جميلة متفائلة تنبض بالحياة:
“من قال إننا سنفنى؟
مستحيل. مستحيل
هنا باقون… متجذّرون
وكأننا مليونا جيل…
نخرج من خلف العتمة
نشعل ملياري قنديل
لا تطفئنا العواصف
لا تمحينا المجازر،
لا تهزمنا الأساطيل”.
[*] مشاركتي في ندوة اليوم السابع المقدسية، الخميس 19.09.2024