أمد/
بمناسبة الذكرى اﻟ125 على ميلاد الجواهري وصدور كتابي عنه “جواهر الجواهري” (دار سعاد الصباح، الكويت، 2024)، نظم اتحاد كتاب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية احتفالًا حضره الوزير السابق د. حلمي الحديدي رئيس منظمة تضامن الشعوب الأفريقية – الآسيوية، ورهط من المثقفين والإعلاميين والسياسيين والديبلوماسيين، بينهم السفير العراقي قحطان الجنابي، وكان أحمد المسلماني رئيس الاتحاد قد أدار الندوة التي التأمت في مقر منظمة التضامن، التي هي عبارة عن فيلّا تعود إلى أخت الملك فؤاد، وقد تمّ بناؤها قبل أكثر من 100 عام، وكان نهر النيل حينها يمرّ من تحتها، وقام بالمساعدة في ترميمها طلال أبو غزالة، كما تشير إلى ذلك لوحة تتصدّر هذه البناية التاريخية.
وقبل أن أحاضر عن كتابي الجديد “جواهر الجواهري” المحتفى به، والذي مُنحت بمناسبة صدوره “وسام التميّز” من الاتحاد، بدأت حديثي بالكلام عن علاقة الجواهري بطه حسين، خصوصًا وأنا أتحدّث في قاهرة المعز وفي أرض الكنانة، فقد جمعت المبدعين الكبيرين صداقة مديدة، وكان المشترك بينهما أبو العلاء المعري، والمبدعون الثلاثة كانوا في حضرة الشعر والتضامن، حيث تعود علاقة الجواهري بطه حسين عميد الأدب العربي (1889 – 1973) إلى العام 1944، وكان قد عُرف عن الأخير دراسته النقدية المعمّقة والمستفيضة للتراث العربي، ومنها أطروحته للدكتوراه “تجديد ذكرى ابو العلاء” وكتابه “مع أبو العلاء في سجنه”، وهو الذي شبهه بالرياضي والفيزيائي والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال، الذي أسهم في إيجاد أسلوب جديد في النثر الفرنسي بمجموعته” الرسائل الريفية”، مقاربةً بينه وبين المعرّي في رياضة الفكر والفلسفة والابداع.
وشاءت الصدف الجميلة أن يلتقي الكبيران طه حسين والجواهري في فعالية ثقافية عن المعري ثالثهم الكبير ، وذلك في مهرجان أبو العلاء المعري الذي نظمه المجمع العلمي في سوريا في 25 أيلول / سبتمبر 1944، ولم يكن الجواهري يعرف عن المهرجان، إلّا بعد وصوله إلى الشام ، وبالطبع لم يكن يعرف بدعوته إليه أيضًا، حيث كان متوجهًا من بغداد إلى الشام بصحبة صديقيه ناظم الزهاوي وحسن الطالباني.
وكانت الدعوة قد وجّهت إلى الجواهري، وكلّ من طه الراوي ومحمد مهدي البصير لتمثيل العراق. حاول الجواهري أن ينظُم قصيدةً لكنها لم تعجبه فتركها، على الرغم من أنها مؤلفة من 70 بيتًا، وعشية المهرجان اصطحبه الشاعر عمر أبو ريشة إلى زحلة، وهناك تفتّقت شاعرية الجواهري، وهبطت عليه القصيدة في اللحظة الشعرية، وهكذا توهّجت الحروف وأُضيئت الكلمات بعد ريح خفيفة، تلك التي تسبق المطر أو تعقبه أحيانًا، فبدأ الجواهري يقرأ بعض أبيات قصيدته وكأنها كانت مكتوبة أمامه، واكتملت القصيدة ليلة المهرجان لتصل إلى نحو 100 بيت، وحين سألته أين تضع يا أبا فرات قصيدة المعري من بين شعرك: قال عنها إنها “تاج القصائد”، وجاء في مطلعها:
قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا
واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
واستَوحِ مَنْ طبَّب الدُّنيا بحكْمَتَهِ
ومَنْ على جُرحها مِن روُحه سَكَبا
إلى أن يقول:
من قبلِ ألفٍ لَو انَّا نبتغي عِظةً
وعَظْتَنا أنْ نصونَ العلمَ والأدبا
إلى أن وصل إلى البيت الآتي:
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا
بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا
فما كان من عميد الأدب العربي إلّا أن وقف طالبًا من الجواهري إعاده هذا البيت، فأعاده الجواهري مرّة واثنتان، فطلب منه طه حسين، إضافة ألف أخرى ليصبح البيت على هذه الصورة:
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا
بأنَّ ألفَ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا
وعاد الجواهري لقراءه البيت مجددًا وسط تصفيق حاد، مجريًا عليه تعديلات ليصبح كالآتي:
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يذكرنا
كم ألفَ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا
وبعد انتهاء الجواهري من إلقاء قصيدته، نهض طه حسين من مكانه، والتقى الجواهري بين المنصة والكرسيين اللذين يجلسان عليهما متجاورين، فخاطبه: هذا بقية شعر العرب، بل إنه استمرارية وديمومة للشعر العباسي، ومعروف أن طه حسين كان قد أثار زوبعةً من الجدل حول قراءته للشعر قبل الإسلام، أو ما يسمّى بالشعر الجاهلي، وقد صدر له كتاب بعنوان “في الشعر الجاهلي” في العام 1926، شكّك فيه بالشعر الجاهلي وقال أنه تمّ انتحاله بعد انتصار الدعوة المحمدية لأسباب دينية وسياسية وقبلية، وفي الواقع فإنه قدّم أسلوبًا نقديًا جديدًا للغة العربية وآدابها، يخالف ما هو متوارث منها، وقاد الحملة ضدّه شيوخ الأزهر، وقد اتّهم في إيمانه، وفُصل من الجامعة، حيث كان عميدًا لكليّة الآداب (1932).
وبالعودة إلى اللقاء التاريخي، استمرّ طه حسين بمخاطبة الجواهري وهو يضع يده على كتفه قائلًا: “أنت أشعر العرب”، ويبدو أن عبارة شاعر العرب الأكبر أخذت تتردد وتوضع تعريفًا للجواهري تأكيدًا على ريادته للشعر العربي الكلاسيكي، والجواهري كما يقول صلاح عبد الصبور: يمثل المرحلة الذهبية الأخيرة في الشعر العمودي الكلاسيكي، وقد سبق لسعدي يوسف أن قال: إنه الحلقة الذهبية في سلسلة الشعر العمودي، وهو الرأي الذي قال به عبد الوهاب البياتي أيضاً، وهكذا أصبحت عبارة شاعر العرب الأكبر مرادفة لاسم الجواهري منذ ذلك الوقت، وأخذت تترسّخ بالتدرّج.
وفي لقاء خاص مع الجواهري في ثمانينيات القرن الماضي في دمشق (10 كاسيتات) نشرت بعضًا منها في كتابي “الجواهري: جدل الشعر والحياة” (ط1، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997، وط2، دار الآداب، 2008، وط3، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2010)، روى الجواهري لي كيف استقبل كلمات طه حسين الذي كان شديد الإعجاب به، وقال: نظرت إليه فوجدت الكثير من عناصر الشبه بينه وبين المعري “رهين المحبسين” في البصر والبصيرة والذكاء والأدب والحكمة والإبداع، فملت عليه وهمست بأذنه قائلًا: “أنت معري زماننا”، والشيء بالشيء يذكر كما يُقال، فقد أطلق الشاعر الرصافي على المعري عبارة “شاعر البشر”.
وفي وقت لاحق، كتب الجواهري قصيدة إلى طه حسين مؤلفة من 24 بيتًا (نشرت في جريدة الرأي العام في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 1944)، قال فيها:
أُحَيّيكَ ” طه ” لا أُطيلُ بكَ السَّجْعا
كفَى السَّجع فخراً محضُ إسمك إذ تدعي
أُحَيّيكَ فَذّاً في دِمشقَ وقبلَها
ببغدادَ قد حيَّيتُ أفذاذَكم جَمْعا
شكرناكَ : أنَّا في ضيافة نابغٍ
نُمتّعُ منه العينَ والقلبَ والسمعا
أبا الفكرِ تستوحي من العقل فذّه
وذا الأدبِ الغضِّ استثيرتَ به الطَّبعا
وسبق للجواهري أن كتب في العام 1932 قصيدة رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي الذي أطلق عليه عبارة “شكسبير العرب”، وجاء في مطلعها:
طوى الموت رب القوافي الغرر
وأصبح شوقي رهين الحفر
وكان الجواهري قد زار مصر لحضور مؤتمر المثقفين العرب الذي انعقد في الإسكندرية في العام 1950، وقد أعلن طه حسين أن الجواهري هو ضيف مصر، وكان يعرف ما يجري في العراق حينها، لاسيّما بعد مقتل شقيقه جعفر في العام 1948 في التظاهرة ضدّ معاهدة بورتسموث (جبر – بيفن)، والتي هي على غرار (صدقي – بيفن)، وكلاهما أسقطا بتحرّك شعبي رافض للتبعية البريطانية، وهكذا أقام الجواهري نحو عام في القاهرة، ثمّ عاد بعدها إلى العراق.
ثم زار مصر مرة أخرى بدعوة من طه حسين كذلك، الذي كان وقتئذ وزيرًا للمعارف، وكتب قصيدة “إلى الشعب المصري” (شباط / فبراير 1951)، حيث ترسخّت العلاقة بين العملاقين، وحين ألقى الجواهري قصيدته اهتزّت القاعة ودوّت بالتصفيق:
يا مصر ُ تستبقُ الدهورُ وتعثـُرُ
والنيلُ يزخرُ والمِسلـّة ُ تـُزهرُ
وبَنوك ِ والتاريخُ في قصبيهـِما
يتسابقان ِ فـيُصهرون ويُصهرُ
يَصلُ الحضارة بالحضارة ما بنى
فيكِ المُعـِزّ ُ وما دحى الاسكندرُ
إلى أن يقول فيها:
“طه”: ونور الفكر أوفى حرمةً
والمجد أوفر والمكانة أوقر
سبعون من سوح الجهاد قضيتها
للخير تعمل جاهدًا وتفكّر
ثم يبثّ شكواه إلى طه حسين فيقول:
طه: وما جزعًا أبثّ شكايتي
فأنا الهزبر المستميتُ القسورُ
وأنا المقيمُ بحيث تشتجرُ القنى
فوقي، وحيث كعوبها تتكسّر
لكن بمحتملين وزر سواهمُ
أن لا يروح لمارق يُستأجرُ
خلفي من الذكر الجميل أجلّهُ
ومعي من النفر العديد الأكثرُ
وإذا كان المعرّي، وهو صاحب “اللزوميات”، شاعر الفلسفة وفيلسوف الشعراء، فإن كلًّا من الجواهري وطه حسين، امتلك ناصية اللغة، وحفر فيها عميقًا، فاللغة بمثابة وطن، بل إنها المفتاح للهويّة، وقد كتب كلاهما بشفافية جارحة، فالجواهري قاد سفينته في أرخبيلات الشعر غير عابئ بما حوله، وظلّ مخلصًا لروح الشعر في شاعرية متفردة بتناقضاته وتحدّياته، رابطًا كل ذلك الجمال بخيط من حرير بالغ الرقّة والتماسك.
أمّا طه حسين، الذي يجتمع مع الجواهري بالتحدّي والتناقض، فقد بدأ أزهريًا كما بدأ الجواهري حوزويًا، لكن كلاهما تأثّر بالثقافة الغربية وتمرّد على الموروث، وكان طه حسين قد كتب في العشرينيات ثلاث مؤلفات عن الشعر والفكر والنظام الأثيني، أمّا كتابه الأكثر شهرةً فهو “في الشعر الجاهلي” الذي أشرنا إليه، وهو يمثّل رؤيةً جديدةً متمرّدةً على ما هو سائد، حيث لقي هجومًا لاذعًا، واتُخذت بحقه عقوبات إدارية من جانب التيار التقليدي المحافظ.
أمّا الجواهري فإنه وإن درس في مدرسة النجف الدينية، إلّا أنه تمرّد عليها، واستخدم الشعر سلاحًا ماضيًا يواجه فيه القوى التقليدية، التي تريد حجب التنوير والتغيير باتجاه المدنية والحداثة، ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر قصيدة “الرجعيون”، التي كتبها في العام 1929، احتجاجًا على معارضة بعض “رجال الدين” افتتاح مدرسة للبنات في النجف، يقول في مطلعها:
ستَبقى طويلاً هذه الأزمات
إذا لم تُقصَر عمرَها الصدُمات
إذا لم ينَلُها مُصلحونَ بواسلٌ
جريئونَ فيما يَدُعون كُفاة
غداَ يُمنعُ الفتيانَ أن يتعلموا
كما اليومَ ظلماً تمنعُ الفتيات
أقول لقومٍ يحمَدون أناتهم
وما حُمدت في الواجباتِ أناة
تحكم باسمِ الدينِ كلٌّ مذمم
ومُرتكب حفّت به الشُبُهات
وما الدينُ إلاّ آلة يَشهَرونها
إلى غرضٍ يقضُونه، وأداة
هكذا اجتمع الجواهري وطه حسين والمعرّي تحت راية واحدة أساسها الحريّة في نقد السائد من الأفكار، وإن تحمّلوا تبعات ذلك، فالمعرّي قضى 40 عامًا رهين المحبسين (رهين البصر والمكان، لكنه كان يتمتّع ببصيرة استشرافية وقّادة)، كما كان طه حسين سابقًا عصره، على الرغم من إجباره على حذف 4 فصول من كتابه “في الشعر الجاهلي”، وتحمّله تبعات التشهير والعزل، وأمضى الجواهري عقودًا من الزمن في المنفى والغربة التي يطول فيها الزمهرير، على حدّ تعبير الشاعر مظفّر النواب، بعد مقارعته لترّهات مجتمعه.
نشرت في موقع مراصد (العراقي) في 24 أيلول / سبتمبر 2024.