أمد/
الديبلوماسية الثقافية هي نوع من الديبلوماسية العامة التي تمثّل السياسة الخارجية للدولة، والتي بدورها هي انعكاس لسياستها الداخلية، ويفترض أن تكون أهدافها منسجمة مع أهداف السياسية الخارجية، لكن وسائلها تختلف عنها، فهي تستخدم القوّة الناعمة التي تشمل الأفكار والمعلومات والآداب والفنون واللغة وغيرها من جوانب الثقافة للتأثير على الآخر.
وجهان للديبلوماسية الثقافية
الأول إيجابي والثاني سلبي، فإذا ما استُخدمت الديبلوماسية الثقافية لأجل تعزيز التفاهم المتبادل بين الأمم والشعوب والأديان والقوميات، فإنها ستكون إيجابية، وذلك لتعميم مُثل الدولة وقيمها ومؤسساتها في محاولة لبناء دعم واسع لأهدافها الاقتصادية والسياسية والثقافية بين الشعوب والأمم الأخرى، بمعنى آخر، أن الديبلوماسية الثقافية تعبّر عن روح الأمة أو الشعب، بما فيه من إيجابيات ومزايا لخلق التأثير المنشود، بما يخدم الدولة وأمنها الوطني وأهدافها العامة.
الوجه الثاني الذي يمكن أن تلعبه الديبلوماسية الثقافية، سلبي، لاسيّما عندما تختلط بالأهداف الأمنية غير المشروعة أحيانًا والمتعارضة مع قواعد القانون الدولي، لاسيّما حين يكون هدفها الهيمنة وفرض الاستتباع على الآخر، وذلك بالتغلغل في مؤسساته، والتأثير على توجهاتها بما يخدم أهدافها دون مراعاة للمصالح المشتركة، وهو ما اتبعته الدول الكبرى لدى استعمارها شعوبًا وأممًا، حيث عملت على إيجاد ركائز لها في البلدان التي استعمرتها لخدمة مصالحها، وذلك تحت عناوين مختلفة، فأما العمل لصالحها بتجنيد البعض والسيطرة عليه كجهة اتصال موثوقة، أو التحكم به على نحو غير مباشر بواسطة تعاقدات أو تخادمات، أو استغفال البعض الآخر دون إدراك منه بأنه يخدم مصلحة قوّة أجنبية وجهة خارجية، ودولة قد لا تضمر الود لدولته.
وتحاول الدول الكبرى التأثير على الرأي العام من خلال شبكة علاقات، سواءً عبر كبار الموظفين في دولهم من خلال إعلاميين وفنانين أو بواسطة الوسيط الأكاديمي أو منظمات المجتمع المدني، حيث ازداد تأثيرها في العقود الثلاثة ونيّف المنصرمة، خصوصًا منذ الإطاحة بالكتلة الاشتراكية.
وهؤلاء الذين كانوا يعملون أيام الحرب الباردة مع القوى الخارجية ويخدمون أهدافها على نحو سرّي وبتكتّم شديد، أصبحوا اليوم يعملون على نحو علني أو شبه علني تحت واجهات ليبرالية ودعوات في ظاهرها التعبير عن وجهات النظر، لكنها في حقيقة الأمر ترتبط بمصالح دول متسيّدة من خلال التمويل والتوجيه، بما فيها من جانب بعض المنظمات الدولية.
مصالح الدول العليا “الرأسمالية والاشتراكية”
لم تكن مثل هذه الاساليب حكرًا على الدول الإمبريالية فحسب، بل أن الدول الإشتراكية السابقة هي الأخرى عملت على تجنيد عدد من الدارسين لديها أو العاملين في الأحزاب الشيوعية تحت مبررات أيديولوجية، لكنها في واقع الأمر كانت تخدم مصالح الدول العليا أو “المركز الأممي” كما يُسمّى، في حين أن الدول الإمبريالية كانت تستخدم أساليب أكثر مكرًا ودهاءً للحصول على المعلومات وتقديم التسهيلات لمن يعمل معها بأشكال مختلفة مباشرة أو غير مباشرة.
الديبلوماسية الثقافية والقرن العشرين
بدأ تأثير الديبلوماسية الثقافية يأخذ حيّزًا كبيرًا في العلاقات الدولية، باعتباره عاملًا مضافًا ومؤثرًا في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، وقد أولته الدول والحكومات اهتمامًا كبيرًا، واتّسعت مكانته في القرن العشرين في ظلّ الصراع الأيديولوجي والحرب الباردة (1946 – 1989)، بين المعسكرين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، وخصوصًا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وساهمت العولمة، وخصوصًا ثورة المعلومات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام، بما فيها الثورة الرقمية “الديجيتال” واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي على التبادل غير المسبوق للأفكار والفنون، بما فتح حوارًا موضوعيًا بين ثقافات وأمم وأديان وشعوب عبر البشر المتنوّعين والمختلفين مثل تنوّع الحياة التي تزخر بالجديد كلّ يوم، وهو ما قرّب المسافات أيضًا وخلق فرصًا للتفاهم حتى وإن كانت خارج سياق السياسات الرسمية، الأمر الذي زاد من حجم الحيّز الذي تلعبه الديبلوماسية الثقافية في العلاقات الدولية المعاصرة لتنفيذ أهداف السياسة الخارجية، بل الاستثمار فيها لما فيه من مردود إيجابي، حتى وإن طال أمده.
وعملت البلدان الصناعية المتقدمة على تطوير برامج ثقافية متقدمة تقنيًا وبإمكانات مادية ومعنوية كبيرة، وخبرات عالية باستخدام العنصر البشري، لكي تسود تلك المفاهيم والسلوكيات ومنظومة القيم والخطاب الأيديولوجي ونمط الحياة على البلدان والشعوب الأضعف والأقل تأثيرًا، والعديد من هذه البرامج تتسم بطابع شائق لتعميمها والترويج لها، سواء عبر التبادل الأكاديمي والمهني والثقافي أو برامج الطلاب والمؤتمرات والمحاضرات والأدب والسينما والموسيقى والمسرح والرسم وغيرها.
فائض القوّة
استُخدمت الديبلوماسية الثقافية كجزء من فائض القوّة في العلاقات الدولية وكمادة للصراع في إطار فرض قيم معينة. وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عهد الرئيس كينيدي استخدام نظرية “بناء الجسور” لاختراق الكتلة الاشتراكية، التي قال عنها الرئيس جونسون: أنها جسور ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسيّاح. وهكذا سعت واشنطن بوسائل التغلغل الناعم والتوغّل الطويل الأمد من إحداث التغيير في داخل البلدان الاشتراكية بعد أن فشلت عمليات التغيير من الخارج، وكان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد تنبأ بذلك حين وصف البلدان الاشتراكية بقوله: أنها حصون منيعة وعالية، هكذا تبدو من الخارج، بحيث يصعب اقتحامها، لكنّها هشّة وخاوية وضعيفة من الداخل.
وتمكّن الغرب عبر الحرب النفسية ووسائل الضغط الاقتصادي والحرب الإعلامية والأيديولوجية الإطاحة بالدول الاشتراكية من داخلها، مستغلًّا نقاط ضعفها مثل طبيعة نظامها الشمولي التوتاليتاري، القائم على الأحادية الحزبية وعبادة الفرد، وشح الحريّات والاختناقات والأزمات الاقتصادية المستمرة، فتمكّن من التأثير عليها وزعزعتها على نحو تدريجي.
وبحسب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق، كان اعتماد سياسة الخطوة خطوة لخلخلة بنيانها الفكري والثقافي، فضلًا عن سباق التسلّح المحموم، الذي اندفع فيه الاتحاد السوفييتي، وكان آخره مشروع برنامج “حرب النجوم” العام 1983، الذي خصصت له الولايات المتحدة تريليوني دولار أمريكي، ولم يكن الاتحاد السوفييتي قادرًا على مجاراتها فيه، فضلًا عن تعثّر خطط التنمية بسبب ميزانيات التسلّح الضخمة، وهكذا تهاوت البلدان الاشتراكية، الواحدة بعد الأخرى، مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، وكان الإطاحة بجدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989 الإيذان بدخول العالم مرحلة جديدة، لاسيّما بهيمنة قطب أحادي على العلاقات الدولية، وأعني به الولايات المتحدة، التي أصبح بيدها القدح المُعلّا دون منازع.
الجدير بالذكر أن التمايز الثقافي، بما فيه الاختلاف، لا يؤدي بالضرورة إلى الصدام، ولكن المصالح الاقتصادية والسياسية والأطماع الجيوسياسية هي التي تقود إلى ذلك، حتى وإن تمّ التعبير عنه ثقافيًا أحيانًا، في حين أن الثقافة والفن والأدب، هي مجال إنساني وحيوي لتقريب البشر من بعضهم البعض، وليست سببًا في تباعدهم أو بثّ روح الكراهية والبغضاء والحقد بينهم.
نمط الحياة
إذا كانت البلدان الصناعية المتقدّمة تسعى إلى تصدير ثقافتها وأنماط حياتها وسلوكها الاجتماعي، فإن البلدان النامية، ومنها بلداننا العربية، تسعى لحماية تراثها الثقافي والحفاظ عليه خشية من الاختراقات التي تستهدف كيانيتها وتهدّد وحدتها، دون أن يعني الانغلاق في عصر لا يمكن وضع حواجز أمام الانفتاح على الثقافة العالمية ومنجزاتها الكبرى في الأدب والفن والعمارة والتكنولوجيا، ناهيك عن العلوم والتقنيات الحديثة. والانفتاح لا يعني تذويب الثقافة المحلية والخصوصية الوطنية والهويّة الخاصة لحساب الثقافات الكبرى، التي تسعى مصالح القوى المتسيّدة لفرض الهيمنة من جانبها والاستتباع من جانب الدول والشعوب الأضعف، بقدر ما يعني التفاعل معها كظاهرة كونية لا يمكن الوقوف ضدّها أو مجابهتهما.
القوّة الكامنة
تسعى اليوم العديد من البلدان لتطوير مؤسساتها الديبلوماسية الثقافية باعتبارها عاملًا من عوامل قوّة الدولة الكامنة، التي لا بدّ من الاستفادة منها كتعويض أحيانًا عن القوّة العسكرية أو الاقتصادية، التي كانت تشكّل الحيّز الأكبر من واقع السياسة الخارجية، وعلى أقل تقدير خط دفاع سلمي مقبول ومعترف به ضمن إطار القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وهو ما ينبغي على البلدان العربية اعتماده فرادى وجماعات، أي في إطار سياسة استراتيجية بعيدة المدى لتوظيف عناصر القوّة الثقافية على نحو موحّد ومتكامل، كجزء من العلاقات الديبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وهناك شخصيات ثقافية مهمة عملت في مجال الديبلوماسية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر التشيلي بابلو نيرودا والشاعر السوري نزار قباني والروائي المصري محمد توفيق والشاعر السعودي غازي القصيبي والمؤرخ والديبلوماسي العراقي نجدت فتحي صفوت.
وكان لقيام منظمة اليونيسكو، كإحدى هيئات الأمم المتحدة، بعد تأسيسها في العام 1945 دورًا كبيرًا في الاهتمام بالديبلوماسية الثقافية، لاسيّما في مجال التربية والعلم والثقافة، وهي أدوات للقوّة الناعمة، أي بمقدورها إحداث الإقناع المطلوب والتأثير على الآخر عبر القيم والأفكار والفن والثقافة بشكل عام، فليس القوّة العسكرية وحدها هي الأداة الجديرة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، خصوصًا في ظلّ توازنات دولية دقيقة، بحيث يصبح أحيانًا اللجوء إلى الوسائل العسكرية أمرًا محفوفًا بمخاطر شتّى، وقد تعود سلبًا على الدولة ذاتها بدلًا من تحقيق أهدافها السياسية.
وفي العام الماضي نظّم معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023 حلقة نقاشية بعنوان ” كتابات ديبلوماسية”، سلّطت الضوء على علاقة الديبلوماسية بالثقافة بشكل عام، والأدب بشكل خاص. ومن نافل القول أن الديبلوماسي كلّما امتلك ثقافة واسعة ومعرفة ومعلومات، كلّما استطاع أن يقدّم خدمة أكبر لبلده، خصوصًا بما يمتلك من قوّة إقناع وحجّة وخبرة، والديبلوماسي المثقف المطّلع والملم بثقافة الآخر ولغته يعرف نقاط قوته مثلما يعرف نقاط ضعفه في الآن. ويعتبر جوزيف ناي أحد الذين كتبوا في ميدان اللّاعنف أن “الديبلوماسية الثقافية” هي أفضل مثال للقوّة الناعمة، أي إمكانية التواصل عبر القيم الثقافية والأفكار دون إكراه أو إرغام، بل عبر الإقناع وجاذبية التأثير والنموذج.
نشرت في موقع مراصد (العراق) في 29 أيلول / سبتمبر 2024.