أمد/
قلتُ لـ(ذي القُروح)، في المساق الماضي:
ـ لنعُد إلى حسم تلك الفِرية الزاعمة أنَّ الآيات المتعلِّقة بالحُرِّيَّة الدِّينيَّة إنَّما كانت مَكِّيَّة لا مَدَنيَّة، كما يدندن بعض أصحاب هذا الرأي.
ـ لنفعل ذلك، متنزِّلين بهذا عند قياسهم الأخطل، الذاهب إلى أنَّ القتال كان ينبغي أن يُصدَع به من أوَّل يوم، وإلَّا فإنَّ (محمَّدًا) كان يَلْبَس لكلِّ أوانٍ لَبُوسه، منتهين إلى أنَّ مبدأ الحُرِّيَّة الدِّينيَّة ليس بمبدإٍ إسلاميٍّ، بل الإسلام دِين الغزو والسَّيف والدَّم والهَدْم، لا يحفل باختيارات الناس، ولا باستقلال إراداتهم، ولا بحُرِّيَّاتهم، بل يمضي في إجبارهم على اعتناقه اعتسافًا، حسب دعاوَى هؤلاء وأسلافهم. إلَّا أنَّه قبل بيان ما يناقض تلك الدَّعاوَى المتهافتة، لا بُدَّ من الإشارة إلى مبدأ الحُريَّة في الإسلام. فالحقُّ الذي لا يجهله مطَّلع على الإسلام- إنْ كان نقيًّا من التعصُّب أو الغرض- أنَّ فِرية الجَبْريَّة الدِّينيَّة يصادمها المبدأ الإسلاميُّ حول ارتباط الدِّين أساسًا بالحُرِّيَّة؛ ذلك أنَّ من مناطات التكليف للمسلم الحُرِّيَّة، فكيف لا يكون ذلك أساسًا للدخول في هذا الدِّين ابتداءً؟!
ـ لا معنى أصلًا للإيمان، ولا للعمل، ما لم يكن عن اختيارٍ حُرٍّ.
ـ وهذا هو الإسلام الحق، الذي يريد بعض أتباعه، وبعض خصومه، تصويره على غير وجهه.
ـ ما خالف في هذا إلَّا بعض المتصوِّفة، الزاعمين أنَّ الناس وأعمالهم من عَمَلِ الله، بما في ذلك الشرور والقبائح، مستدلِّين استدلالًا تدليسيًّا بالآية: «وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ»، (سُورة الصافات، الآية96).
ـ أضحكتني أضحك الله سنَّك! وكجميع المدلِّسين تراهم يقتطعون النصَّ من سياقه، كيلا ينفضح زيفهم، موهمين أنَّ «القرآن» يقول إنَّ أعمال الناس من خلق الله. على حين أنَّ سياق الآيات إنَّما جاء في كلام (إبراهيم) عن الأصنام وعُبَّادها، قائلًا: إنَّ قومه وما يعبدون من أصنام نحتوها بأيديهم مخلوقون جميعًا لله: «قَالَ: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ؟ وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ.» (سُورة الصافات، الآيتان 95- 96). وما من عاقل إلَّا يفهم المقصود هنا، ولن يخطر في باله أنَّ الآيتين تذهبان إلى أنَّ الله خلق لهم الأصنام لعبادتها، فضلًا عن أنَّه خلق عبادتها، وإلَّا فيم العتاب والعقاب؟! لكنَّه خلق الناس وموادَّ ما يصنعون.
ـ ماذا عن الاستناد الواهي إلى أنَّ الآيات المَكِّيَّة كانت وحدها السِّلميَّة في حين جاءت الآيات المَدَنيَّة حربيَّة؟
ـ ذاك استنادٌ أوهَى من مزاعم الصهاينة في (فلسطين)!
ـ لأنَّ الأخيرة (المَدَنيَّة)- كما يقول هؤلاء- لا تعترف بحُريَّة الدِّين ولا بحُريَّة الحياة، بل تسعى إلى أن تُكرِه الناس حتى يكونوا مسلمين!
ـ أعلمُ ذلك الهراء. وكأنَّ لسان حال هؤلاء الزاعمين أنَّ آيات (مَكَّة) قد نُسِخت، وانتهت أحكامها، ومن ثَمَّ فهُم يعتقدون أنَّ آية، كقوله تعالى، من (سُورة الإسراء)، وهي مَكِّيَّة: «وَبِالحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ، لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ، وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا. قُلْ: آمِنُوا بِهِ، أَوْ لَا تُؤْمِنُوا؛ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا.»، أو قوله من السُّورة الأخرى، التي يصنِّفها المفسرون على أنَّها مَكِّيَّة أيضًا: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ، لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟!»، لم تَعُد هذه ولا تلك قائمة الحُكم، بزعمهم، وإنْ تلوناها وصلَّينا بها!
ـ علامَ تقوم هذه المزاعم؟
ـ هذه المزاعم كلُّها لا أراها تقوم على شيء، لا من العقل ولا من النقل، فضلًا عن النصِّ، وإنَّما هي انتقاءات محض، ممَّا يريدون انتقاءه من النصوص لما يريدون الإدلاء به من الأقاويل. وإلَّا فما أعمى القومَ عن آية (سُورة البقرة)- وهي سُورة مَدَنيَّة، لا مَكِّيَّة- وهي واضحة الدلالة قاطعة الحُجيَّة في ما يخوضون فيه: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ؛ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى، لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.»
ـ أين دعواهم من منطوق هذه الآية الذي ينفي عن الإسلام الإكراه في الدِّين؟!
ـ بل لقد جاء في سبب نزول هذه الآية ما يدلُّ على ما هو أكثر من ذلك، في ضمان الحُريَّة الدِّينيَّة عمومًا، وذلك بمنع الأب من إجبار بنيه كي يتبعوا دِينه، فيكونوا مسلمين أو غير مسلمين، على نهج الجاهليِّين في اتباع ما وجدوا عليه آباءهم. ولقد نزلت بذلك الحُكم في ذروة العهد المَدَني، إذ تمَّ للإسلام تمكينه وانتصاره على خصومه، من المشركين واليهود معًا.
ـ ما سبب نزولها؟
ـ جاء في سبب نزول الآية، عن (ابن عبَّاس)، قال: «كَانَتِ المَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ الأَنْصَارِ تَكُونُ مِقْلَاتًا، [أي قليلة الولد]، فَتَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا إِنْ عَاشَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُهَوِّدَهُ [أي قبل ظهور الإسلام]، فَلَمَّا أُجْلِيَتِ النَّضِيرُ، كَانَ فِيهِمْ مِن أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ، فَقَالُوا: لَا نَدَعُ أَبْنَاءَنَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ».» وفي رواية أخرى أنَّها نزلتْ في رجلٍ من الأنصار، يكنى (أبا الحصين)، وكان له ابنان، فقَدِم تُجَّار (الشَّام) إلى (المَدِينة) يحملون الزيت، فلمَّا أرادوا الرجوع من المَدِينة أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النَّصرانيَّة، فتنصَّرا وخرجا إلى الشَّام، فأخبر أبو الحصين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: «أأطلبهما؟» فأنزل الله عزَّ وجلَّ: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ».» (انظر في هذا: تفسير الطبري، وتفسير الجلالَين، وغيرهما، في شأن الآية 256 من سُورة البقرة، وسبب نزولها).
ـ وإذا كان ذلك كذلك في حقِّ الولد، فمن باب أَولى أن يكون في حقِّ غيره.
ـ ومن باب أَولى أيضًا القول، إذن: لا غَزْوَ في الدِّين. أي لا يُغزَى غير المسلم لمجرَّد إرغامه على الإسلام.
ـ الجهاد جهاد دَفْع؟
ـ إنَّما الجهاد جهاد الدَّفْع، كما هو الوجه الراجح الموافق لهَدْي الإسلام، ومعروف رأفته وعدالته وسياسته العقلانيَّة، لا تلك السياسة الهوجاء التي تُسوِّغ الإرهاب، وتُبَرِّر العدوان على خلق الله من الشعوب الآمنة، باسم الغزو، وفتح البلدان، ونشر الإسلام.
ـ ماذا عمَّا عدا جهاد الدَّفع قديمًا؟
ـ ما عدا جهاد الدَّفع لا يبدو إلَّا (جهاد سياسة)، وتوسُّع، وبسط نفوذ، وتأمين ممالك من العدوان الخارجي، بحُكم المدافعة البَشريَّة، وحُكم السَّعي إلى التغلُّب الإمبراطوري، كما هو الحال لدَى كلِّ الأُمم عبر التاريخ كلِّه، لا بحُكم الواجب الدِّيني أو تنفيذ أمر الله ورسوله. وفرقٌ بين هذا وذاك.
ـ سيرة الرسول شاهدة على أنَّه لم يُكرِه الناس حتى يكونوا مسلمين، ولم يَغْزُ للغَزْو، بل مضطرًّا، دفاعًا، وحماية، من عدوٍّ صائل متربِّص، محيق بمدينة الإسلام لاستئصال أهلها.
ـ بل لم يطلب مرتدًّا عن الإسلام، ما لم يكن محاربًا، كما لم يرخِّص بطلبه، ولو كان الطالب والدًا والمطلوب ولدًا، كما جاء في قِصَّة (أبي الحصين) وابنَيه المتنصِّرين، الواردة في سبب نزول آية: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ».
ـ على أنَّ من الناس من يودُّ لو استطاع نسخ كلِّ ما لا يوافق هواه، أو سياسته، أو نزوعه العدواني، من «القرآن الكريم».
ـ وهنا يتبدَّى الفارق بين حقيقة النصِّ وقراءة القارئ الرَّغْبَوي! وهذا ما حدث مع هذه الآية بالفعل، كما يحدث غالبًا مع معظم الآيات الأخرى التي يمكن أن يحتجَّ بها المسلم على سماحة الإسلام وبِرِّه وعدله وحكمته؛ إذ ما يلبث أن يجد أنَّ هناك من السَّلَف من تطوَّع للقول بنسخ ما يُمثِّل تلك المعاني المشرقة. في الوقت الذي يُعمِّم، ويمطُّ، وينفخ، ويُطْلِق العنان للمعاني التأويليَّة في آياتٍ أُخَر، تتعلَّق بالقتال، ليُظهِر الإسلام حربًا ضروسًا على العالَمين لا تُبقي ولا تذر. وما عُرِفت الحرب التي لا تُبقي ولا تذر- حقيقةً لا مجازًا- قبل العصر الحديث، على كلِّ حال؛ هذا العصر المسلَّح بأسلحة الغرب الجبانة، المُهلِكة للطَّرَف المقابل بلا مواجهة، التي صنعها حثالةٌ من شياطين المجرمين لشياطين من مجرمي الحروب أمثالهم في العالم أجمع.