أمد/
1. كونشيرتو الزمن:
ما الكون دون لُغةٍ يفهمها الكل؟ لغةٍ لا تترجم بالحروف والكلمات، إنّما بالإحساس، فكانت الموسيقى، فقط عليكَ أن تصغي.
سألتُ نفسي: كل شيء حولنا لهُ زمان ومكان… فهل للموسيقى زمان…؟
أجل…
مدارك البشرية تحتاجُ وسيطاً أميناً ينقلها عبر السنين والأزمنة، تحتاجُ تجلياتٍ خاصة تنبثقُ من صميم الحياة، لنكون… أو لا نكون… لذلك كانت الموسيقى…
يحتاج الإنسان أيضاً إلى نهج سليم محجوب عنه، لكنه ينبعث منه… كل ما عليه، اكتشافه… فقط عليكَ أن تصغي…
فكانت الموسيقى.
في رواية (باباس)، يربط أحمد أبو سليم الموسيقى بالزمن كعنصر أساسي بدءاً من تدفقه… من الايقاع إلى النغمات وصولاً إلى الطريقة التي تنظم فيها القطع الموسيقية، وربما بحرفية أعلى مثّل الزمن كفكرة… بشكلٍ موسيقي، خلقَ لكلّ زمنٍ موسيقاه، ولكلّ موسيقى زمن، ولكلّ جسد موسيقاه، ولكلّ رائحة أيضاً، موسيقاها…
فالزمن بطبيعة الحال، متغيّر، لا ثابت فيه، ولا يمكن إسقاطه على الموسيقى لو كانت عكس ذلك كله، ففي الوقت الذي ألّفَ فيه (زرياب) بطل الرواية كونشيرتو لسلام “صديقة والدته” خاصاً بها كانت الموسيقى تتساقط من كلّ الجهات وتصنعُ من الحاضرين المستمعين بشراً آخرين نقلتهم من زمنٍ إلى زمن، عبرَ وجود لا مرئي لكنهُ محسوس، وذلك الإحساس خلقته الموسيقى المنبعثة من كونشيرتو راوده عن نفسه وانبعث من زمن بعيد كان مختبئاً في نقطة ما في الثقب الأسود الموجود أصلاً في كلّ واحدٍ منّا… من هنا نوقن تماماً أنّ كونشيرتو الزمن الذي ألّفه هذه المرة أبو سليم ذاته ما هو إلا تعبير عن صراع بين الوقت… بين الماضي والحاضر والمستقبل، فبتغيّر اللحن والانتقال من نوتةٍ إلى أخرى ومن مقامٍ إلى آخر تتغير الألحان، تعلو وتهبط… تصمت وتهدر فيظهر تأثير الزمن على الوجود البشري أو الطبيعة بحدّ ذاتها… وكأنّه يحملُ (الباتون) “العصا التي يحملها قائد الاوركسترا” يشير لكلّ واحدٍ من فرقته الخاصة بتوزيع الألحان حسب موقعها، فكلّ أبطال الرواية هم الفرقة الزمنية التي حدّدها عبرِ تنقّلها اللازم في الحدث الزمني… ويتمظهر هذا في تعريف الكونشيرتو على أنه نوع من الموسيقى الذي يشمل التفاعل بين الأوركسترا أو العازف المنفرد، وهنا، حسب تعبير (كونشيرتو الزمن) يمكن أن يمثل كل عازف عنصراً مختلفاً من الزمن، ويتفاعل مع الآخر لخلق تناسق موسيقي يمثل التدفق الزمني الذي لا يخطو بخطٍ مستقيم، إنما خط مستمر له قوة ديناميكية تؤثر في حياتنا وتجاربنا وعلاقتنا ولا نغفل أن للزمن ذلك التأثير، بل كلّ التأثير، كما أنّ كثيراً من المقطوعات الموسيقية تمثل تكراراً محسوساً، كذلك الحياة بأنماطها وحركتها واللحظات التي تتوقف عندها كثير من مظاهر الحياة وكأن نيتشه سرق الفكرة من الموسيقى فخرج علينا بفكرة العود الأبديّ.
وهنا يتجلى تأثير الموسيقى زمنياً، وهو لا محالة مرتبط بتجربة الإنسان في الإدراك، نرى في لحظات الحزن والانتظار يمرّ الوقتُ بطيئاً ونرى في حالات الفرح والحميمية يمرّ الوقت سريعاً تحت وطأة الدهشة من مروره السريع، وحركة التداخل بين الحقيقي والخيال، بين الحلم والخروج عن الواقع، مثال على ذلك: (صفقوا بلا توقف، صفقوا واقفين، صفقوا وهم يبكون، ثم وهم يضحكون، كانوا قد خرجوا من الدنيا أربعين دقيقة، ثم عادوا إليها فجأة واكتشفوا عودتهم) ص 129، هذا ينطبق تماماً على الإيقاعات الموسيقية التي تتنقل ما بين السرعة والبطء بين الحركة والثبات… كما ويتجلى تكامل الأصوات المتعددة في الكونشيرتو حيث كلّ آلة موسيقية تعبر عن فكرة أو جزء من الزمن، وإذا ما أمعنا إحساسنا أكثر في الموسيقى نرى أن العازف المنفرد يمثل الزمن الحاضر مثل شخصيتي (زرياب ومريم) أما الأوركسترا بكلّ طاقتها تعبّر عن الزمنين الماضي والمستقبل يتمثل ذلك في شخصيات (سلام وباباس وسرادق)، هذه الطبقات المتعددة تمثل التفاعل بين الأبعاد المختلفة للزمن وكيفية تأثير عملها على الآخر، يبدأ العازفُ المنفرد بمقطوعة موسيقية تعبر عن الحنين إلى الماضي، ثم تتداخل الأوركسترا التي تمثل الحاضر ثم تتصاعد نحو المستقبل في التغيرات الموسيقية والتطورات الحركية، مثال على ما سبق: (كنتُ أرى البشر ولا أراهم، كانوا جزءاً من مقاعدهم وكأنهم مثبّتون عليها، أو أنها مثبتة بهم، وأمامي بإشارة مني كانت الجوقة تنطلق، سبعون موسيقياً كانوا بانتظار إشارتي أنا، لم أصدق نفسي… أطلقت الإشارة فانطلقت الكمنجات تؤسس للحركة الأولى، صدح الصوت فغبت، خرجت من كلّ شيء، من المكان والزمان، من الخلق، والقانون والشرط والنتيجة، والبرهان، والكذب، والصدق، ومني… انفجرت القاعة بالموسيقا، وكان الناس قد أصبحوا موسيقا، لم يعد ثمة في القاعة من بشر) ص 127.
يثبت هنا الكاتب وحسب تفسير مارتن هايدغر، الزمن الذي نعيشه في لحظاتنا الواعية أو الزمن الذي نشعر به في تجاربنا الحياتية، ليس مجرد شيء، يمر بشكل ميكانيكي، بل شيء نعيشه ونشعره، تدخلنا الموسيقا في عالمها التخيّلي، في لحظات الصحو ندرك أننا كأننا لم نكن في ذلك العالم المشحون، وحدها الموسيقى تعزفنا… تدفعنا نحو المستقبل، تعيدنا الى الماضي… تقولبنا داخلها… تحملنا… تغيبنا، تؤلفنا على طريقتها… كونشيرتو زمنياً.
يتدفق الزمن في الرواية، فمن زرياب الشخصية التاريخية التي بنى عليها الكاتب روايته، ذلك العازف الذي خرج عن المألوف، وكان قادراً على إخراج المستمعين لموسيقاه من زمنهم إلى زمنٍ آخر، يخرجهم من أجسادهم فيتشكلون كأنهم جسداً محلقاً لما يسمعونه… كان بطل الرواية زرياب، الذي رأى الموسيقى، فهل حقاً رآها، بعينيه المجرّدتين، هل للموسيقى لون؟ هل للموسيقى أجنحة؟ هل الموسيقى تبكي؟ أسئلة كثيرة ومثيرة طرحها الكاتب في الرواية، تكاد وأنت تعيد السؤال تمزّقُ بداخلك ألف إجابة، وتدرك أنك في مخاض عسير، وعلى لسان زرياب نقرأ: (كان الفلوت يقول توقف إني أتألم، أموت، أتلاشى، وكانت الآلات لا تصغي، ثم يصعد العود وحيداً، وكأنه يحاول أن يوقف الطوفان، والطوفان لا يتوقف، ولا أحد يصغي، ثم يأتي أنين الفلوت، يتوسل، وتتداخل الأصوات، وتتجادل، كل شيء يركض في كلّ شيء، والحياة باتت أسرع من برق، وأقوى من صوت الرعد،… لكي ترى عليك أن تتجاوز العينين وترى بقلبك… وفجأة يموت الفلوت ويعلو الصمت.) ص 128
من هنا أستطيع تلخيص كل ما سبق عن كونشيرتو الزمن في رواية باباس كما يلي:
الزمن الموسيقي: كل صوت أو نغمة لها طول زمني محدد حيث يتمركز الإيقاع واللحن وهنا يتحدد بالزمن بشكل مختلف بالطول أو القصر حسب إحساسنا بالموسيقى ذاتها سواء أكانت ممتعة فنراها عميقة وقصيرة، أم كانت مملة فنكاد نراها أطول مما يمكن احتماله.
الإيقاع: إما بطيء أو سريع، وهو بالتحديد الذي يشعرنا بالتدفق الزمني حينما نندمج ونستمع…
ارتباط الزمن الموسيقي بالوقت سواء أكان الوقت صباحاً أم ليلاً، وكأن لليل موسيقاه الخاصة التي يستلذ بها إلا في وقتها وكذلك الصباح… وهذا يتبع الزمن النفسي للشخص.
البنية أو الجسد الموسيقي مثل أي حدث له بداية ونهاية.
2. كونشيرتو الأسئلة:
أبو سليم لم يثر أسئلة وجودية فقط، بل أسئلة لها وقع موسيقي خاص، لها نوتة فلسفية، لها عمق إستراتيجي، لها بناء هندسي، ولها فكرة لا يمكن اختراقها إلا بمزيد من الأسئلة، فقد نهرب من سؤال لندخل في نفق آخر من الأسئلة الكثيرة، وأكثرها جدلاً تلك التي بدأ فيها تمهيداً للرواية، حيث الأسئلة جاءت كالصاعقة، ربما لا نستطيع لفترة التحديق في وجوهنا في المرآة هروباً من الإجابة، وتلك الصاعقة: (ما الذي كنت ستفعله لو كنت تشعر بأنك تملك هذا العالم؟ وإنك تأمر فتطاع، وأن بوسعك أن تنال كل ما تريده، بلا تأخير…؟ وأنك جربت كل ما يمكن أن يجربه البشر وانتهيت منه؟) ص 7، هذه الأسئلة العميقة جداً، قد تشمل أغلبية العلاقات الإنسانية أستحضر بعضها: (تبدأ العلاقة بالحركة الأفقية لاكتشاف كل ما يمكن اكتشافه، ولكي لا تسقط في براثن العادة يصبح لزاماً على طرفيها أن يذهبا في العمق الذي لا ينتهي أبداً)… فتكون إجابة السائل منا ماذا لو أعطيت الحبيب مشاعر الحب كلها ماذا سيبقى…؟ سيكون الجواب هناك في ص 50:
(هل الرفض هو الذي يجعلني أتعلّق بها أكثر؟) ص 58
(ما قيمة العلاقات الإنسانية إن لم تغيرنا، وتدفع بنا إلى الأمام، وتجعلنا أكثر عمقاً، وفرحاً، ودراية بمكامن القوة فينا) ص 50
(من أنا؟ جزء من كل، كلّ في كلّ، وحيد، مخيّر، مسيّر، ثابت، متحول، علويّ، سفليّ…) ص 137
(ماذا يعني نقاء العرق أصلاً، بشر فوق البشر؟ مختلفون؟ آخرون؟ مختارون…؟ ومن الذي اختارهم؟)
كثيرة هي الأسئلة التي تحفر في جسد الوجود والكينونة البشرية والطبيعية، تطرح بفلسفة ندية غير عصية على الفهم، بل قريبة إلى الروح والفكر منها إلى التعقيد ما يخلق بينها وبين القارئ تفاعلاً متوازناً ومتلصصاً على خبايا النفس وما تختلسه من مشاعر.
3. كونشيرتو الوجود:
وهنا أقتبس من الرواية بعض الجمل أثارَ فيها أبو سليم نوازع نفسية مؤلمة، لكنّها حقيقية، قد يعيشها أيّ رجل، وتعيشها أيّ امرأة، فيقول الواحد منا أو الواحدة: إنه يعلم بحالي… أو إنه يمثلني، إذ يثبت الكاتب قدرته المدهشة على اختراق النوازع النفسية للإنسان بشقوقها وتقلّباتها وخفاياها ومنها:
(لا، أمي لم تمت، أمّي جفّت لسبب لا أدريه)… تعبير الجفاف هنا، لهو أعقد شعور لا تدركه سوى المرأة، ولا تدركه بفهمه العميق إنما بجسدها الذي يفقد مرونته وحيويته عندما تنسلّ روحها في البعيد، الروح لا تموت، الروح تجف فعلاً ولا يعيدها إلى الحياة سوى الحب، عندما تجف المرأة كأنها تحتطب أنوثتها وتجففها على النار فتكون النهاية… نهاية كل شيء.
(كم من بشر ماتوا وهم ما يزالون على قيد الحياة؛ لأن حياتهم ببساطة لا تحوي أيّ تجربة فريدة يمكن أن تقال، ولأن حياتهم مجرد فراغ متواصل) ص 55. حقيقة الفعل الذي يحفر في الزمن ودونه يمرّ ويمضي كأننا لم نكن.
(حين تحبّ تصبح سهل الانقياد) ص 56، حقيقة الشقاء الذي يكون في بدايته لذيذاً.
(ثلاثة أشهر ثم هدأ تأثير الحفل، وكاد أن ينتهي، وذهبتُ أنا في طيّ النسيان) ص 130 حقيقة البريق الذي نتعب في صنعه، ثم تدوسه عجلات الزمن وينطفىء.
(إنّ الحقيقة تحرق الإنسان، وإن الإنسان يحاول أن يراوغ، أن يقنع نفسه ببلوغ الحقيقة كي لا يصلها، فهو يعرف تماماً أنّ بلوغ الحقيقة هو خسارة كل شيء بالمطلق) ص 82 التعلق القاتل.
( يريدونه ميتاً كي يحتفوا بموته) ص 128 حقيقة قاتلة عن خفايا الذات وتقلباتها.
كثيرة هي الحقائق الموجعة لا نكاد نخرج من الرواية إلا بعد اختراق تنهيدة كبيرة تجرح أعماق أعماقنا.
– (أنا أعرف، الوقت تغير، الزمن تغيّر، كل الناس يتحدثون ولا يصغي أحد إلى أحد، الكل يريد الحديث فقط، يريدون أن يطلقوا تلك الآهات التي يكبتونها داخلهم، يريدون أن يعترفوا لأحد لا يعرفونه كي لا يذلّهم بما يعرفه عنهم، وأنا هو ذلك الشخص)، تجليات التشظي البشري في عصر السرعة.
– (حتى في لحظات الفرح نستدعي آلامنا وكأننا نخشى الفرح) ص 167
نبذة عامة عن الرواية:
– الشخصيات:
تتحرّك الشخصيات في الرواية بمرونة عالية، متدفقة كما الموسيقى، متأرجحة بين الألم والفرح والحكايات التي قبضوا عليها راغمين، شخصيات حزينة رقيقة مدهشة، قد نجدها في أرض الواقع كما يهيأ لنا أنها من الخيال، هي فعلاً موجودة، قد نجد سلاماً خلف أبواب كثيرة مقفلة، وحدها سلام تعرف نفسها، التي تجوب الأرض بحثاً عن كل شيء، عن الحب، المعرفة، الدهشة، البحث عن البحث ذاته، تكادُ لا تتوقف وهي تسيلُ كلحنٍ على قارعة الحياة، تشربُها حتى آخر قطرة حسب تعبير الراوي، حتى في أوج حزنها، اختارت أن تعيش حبّها وتقفل عليهما الباب… ونجد مريم التي اعترضت على ما اختاروه لها من مصير، فهي خدمت الرب كما شاؤوا لها أن تكون من جهة، وخدمت رغباتها وثارت كما شاءت من جهة أخرى بغض النظر عن شكل الاعتراض، حتى لاقت مصيرها المفجع عندما رفعت صوتها واعترضت فاختارت طريقاً شائكاً أودى بها إلى الجحيم، حتى إنها لم تدفن جثة كاملة بل كل جزءٍ منها على حدة… تماماً كما قسّم سايكس بيكو وطننا العربي… كلما رفع أحدهم رأسه زجّوه في غياهب الجب ومزّقوه… هنا تتجلى ردات الفعل النابعة من الحسّ البشري للرفض، أن يكون الصوت عالياً حتى لو انقطعت الأحبال الصوتية… الانتصار على الذات بحدّ ذاته انتصار على كلّ شيء… ثمّ نرى سرادق… يقرأ على الناس آياته ويشفيهم من أسقامهم… لكنهُ لم يستطع أن يشفي سقمهُ ومات… حتى كفرَ به كل من آمن وكان يقف في طوابير من أجل لقائه للاستشفاء… أما زرياب الذي رأى الموسيقى والتي ورث هذه المعجزة عن أمه وحمّلتهُ سراً كبيراً جاب الطرقات بحثاً عنه… كانت الموسيقى تحتكّ في دمه وتطلق رصاصها في مخيّلته ولم يستطع حتى فترة وجيزة أن يقتل فيها انتظاره وخوفه كان يعزف ويموت، ثم يعزف ويحيا، يدخل في دهاليزها ويسبح في نوتاتها كالمجنون، حتى التقى باباس فعزف وعزف وجابت موسيقاه قلوب الناس وآمالهم ومشاعرهم وذاكرتهم، أما باباس الزاهد الذي اختار لنفسه ألماً فوق ألمه، أن يكون مصغياً لحكايات الناس وعذاباتهم ويحتفظ بها، دون أن يكترث أحدٌ لحكايته… من هنا نعرف لماذا اختار الكاتب اسم هذه الشخصية بالتحديد لتكون عنواناً للرواية، يعطينا درساً في التخلّي من أجل راحة البال، أو راحة القلب المتعب، درساً في الترك على أنه انتصار لا خسارة، فأن تعيش في مكان لا تجدُ نفسكَ فيه تخلى عنه، هكذا ببساطة، أو ترتبط بعلاقة هي علاقة سامة خوفاً من خسارة الحبيب مثلا، فالتخلي هو الحلّ، حتى لو ترك جرحاً أو ندبة في القلب… فالزمن كفيل في علاجها ومداواتها… لكنه في جانب مختلف لم ينسَ، بل كان يتخفى في النسيان، أن نختار طريقاً عكس رغبتنا، على قدر إيلامه قد يخلق حالة من الرضا، باباس شخصية الشخصيات، ربما هي الكل، وربما هي حالات خاصة من أفراد تخطوا حدود رغباتهم وأعلنوا رفضهم لكل ما هو حولهم واختاروا عذاباتهم بأنفسهم وحتى موتهم.
ثمة شخصيات أخرى متحركة في الرواية مثل يوسف وهيلين وشجرة سرادق التي تتغذى على دماء المختلفين حسب الأسطورة.
الزمن الروائي أو زمن الرواية:
انتقلت الرواية عبر زمنين مختلفين من حيث الربط بين الماضي والحاضر، وتجلى ذلك في زرياب الشخصية التاريخية وهو مطرب وشاعر وعازف أيضاً في زمن هارون الرشيد وهو الذي أضاف وتراً خامساً على العود، وأدخل على الموسيقى مقاماتٍ كثيرة وقد وفّق الكاتب في إسناد هذه الشخصية لشخصية بطل الرواية؛ خاصة أنّه يملك معجزةً غريبة ولافتة مثله…
واللافت أيضاً أنّ ذكر كوفيد 19 في الرواية وما ترتب عليه من حظر وأشياء أخرى أوحى أنّها عاصرت عامي 2019- 2020.
أيضاُ فصل الكاتب أحداث الرواية بعناوين سمّاها بالمقامات فكانت (المدارج، مقام العبث، مقام الدهشة، مقام التشظّي، مقام الوغوس، مقام الوهم، مقام الذاكرة والنسيان، مقام الخديعة، مقام اليقين). وأعتقد أنه كان موفقاً في هذا التقسيم؛ لأنّ المقام هو الأساس الذي تبنى عليه الألحان، وكأن الكاتب أراد أن يعزف الأحداث والشخصيات ويشكلها نوتات وسوناتات متحركة لتكون الموسيقى كائناً حيّاً يتنفس ويشعر ويتألم يبكي ويفرح.
ملخص:
تحدثت الرواية في الموسيقى والفلسفة والسياسة والفكر، وعن المكان بفكرته الزمنية عن الزمن بفكرته الموسيقية، تحدثت عن العلاقات الإنسانية وتشظيها وتشابكها، علاقة الأب بابنه، الأم بابنها، الحبيب بحبيبته، الزوج بزوجته، الأرض بجذورها، الموسيقى بتجلياتها، النفس البشرية بكل أزماتها، الدين واصطدامه بالعقل البشري والنوازع البشرية، المشاعر المتناقضة وتقلبها عبر الزمن من قلق واعتياد وحب وكره نسيان وتذكر ألم وفرح، إيمان وكفر… كل ذلك، والحديث يطول في هذا العمل الشيّق والموجع حدّ النشوة.
كل ذلك… كيف سنخرج من هذا العمل دون أن يكون لنا كونشيرتو خاص بنا؟