أمد/
الأحداث التي وقعت خلال الأيام الأخيرة في سوريا بخاصة حلب وحمص، وتراجع القوات السورية الرسمية سريعاً أمام المعارضة قبل سقوط النظام، لا يمكن أن تتم على هذا النحو من دون تنسيق أو تفاهم أو توافق ضمني كامل أو جزئي، أو تآمر عدد من الأطراف، وغياب رد الفعل الفاعل من إيران وروسيا الموجودتين عسكرياً بأشكال مختلفة، وهناك تساؤلات حول مواقف تركيا ودورها، عظيمة التأثير في هذه الساحة والتي لديها قوات في سوريا والعراق كذلك.
أذكر دوماً أنني لست من المتحمسين لنظريات المؤامرة، ليس لأنني استبعدها كلية، وإنما لأنني ألاحظ أن عالمنا العربي يسقط في متاهاتها ويحملها مسؤوليات أحواله كافة، ويغرق فيها من دون أن يطرح أسئلة أهم وأعمق، ألا وهي لماذا تتكاثر المؤامرات في ساحاتنا بمعدلات تتجاوز بكثير معدلاتها في ساحات أخرى؟ وما هو سبيل الخروج من هذه الدائرة المفرغة والهدامة؟. تناولت في كتابات سابقة المطلوب من العالم العربي في ما يتعلق بالسؤالين، والوضع الذي يحتم إدارة السياسات الخارجية والداخلية بحكمة ورشد.
إنما أتوقف اليوم أمام ما أراه من جهد أو جهود تستهدف تثبيت المصالح، وهدم وإفناء ما بقي من المعالم السياسية للعالم العربي، وتغيير صورة المنطقة جوهرياً، وأكتب تسجيلاً للرأي أن هناك توجهاً لتغيير المنطقة ومحذراً منه، تغيرات تتم من مجموعة زاويا وأساليب بالغة الخطورة، من بينها تغليب القوة على القانون وتعديل الحدود بالقوة والقضاء على الانتماء ومسح الهوية السياسية وتغيير توازنات القوة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لتأمين هيمنة ومصالح أطراف معظمها وإنما ليس كلها غير عربية.
وسعياً وتمكيناً لكل ذلك تم افتعال وإقرار وقبول مفاهيم مبتكرة في العلاقات الدولية، متناقضة ومتعارضة ومخالفة لكل أسس القانون الدولي، من بينها عدم احترام السيادة الوطنية، ولا تتسق مع مفاهيم وضوابط الدفاع عن النفس عبر الحدود، مما فتح الباب على مصراعيه لاستخدام القوة المطلقة ضد المدنيين والتهجير القسري للمواطنين، وكلاهما محظور وفقاً للقانون الدولي الإنساني، إضافة إلى تناقضات عدة في تطبيق قواعد وإجراءات والتزامات الدول من أحكام المحكمة الجنائية الدولية، حتى بين الأعضاء المؤسسين للمحكمة ذاتها، وجزء من كل ذلك يتم في العلن، وجزء منه مرتبط بترتيبات خفية ينطبق عليها تعبير المؤامرة.
لقد تجاوزنا الآن 70 عاماً على بدء النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، وما يزيد على 40 عاماً على حربي 1967 و1973 وإصدار قراري مجلس الأمن رقم 242 و338 اللذين يشكلان أساس كل اتفاقات السلام العربية- الإسرائيلية، وما يزيد على سنة على أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وما تلاها من وحشية عبر القطاع وفي الضفة الغربية من نهر الأردن، وتسعى إسرائيل في خططها وممارساتها في غزة إلى إخلاء الساحات الحدودية من السكان وإنشاء مناطق عازلة وإفراغ شمال القطاع من سكانه، تمهيداً إذا لزم الأمر إلى التهجير القسري عبر الحدود، كما تخلق محاور عابرة للقطاع ومقسمة له، مصحوبة بمناطق وترتيبات أمنية تجعل ما بقي من القطاع ساحة فارغة قابلة للاستيطان، أو ممهدة لمنطقة عازلة بحجة تأمين الحدود، في حين أن الإجراءات المكملة تكشف عن أن النية الحقيقية هي معاودة الاحتلال وتثبيته.
وتزامنت مع ذلك توغلات إسرائيلية متزايدة، رسمية ومن خلال المستوطنين في الضفة الغربية، بل ارتفع عدد القتلى الفلسطينيين عما شهدناه قبل أحداث أكتوبر، وتجاوزت الاعتقالات الأعداد التي تم الإفراج عنها، في إطار اتفاقات الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، وينتظر أن ترتفع هذه المعدلات وتزداد مع تواصل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية التي تتمسك بالأراضي الفلسطينية لإسرائيل، ويتبناها رئيس وزراء إسرائيل مكرراً أنه تفوق على “حزب الله” وحركة “حماس” عسكرياً، وأن اليد الطولى الإسرائيلية تمتد إلى كل من يهددها في بقاع الشرق الأوسط حتى إيران أو اليمن، وفي الوقت نفسه يعلم علم اليقين أن الخطر الأقوى والأقرب لإسرائيل الآن هو الخطر الديموغرافي مع تنامي الأعداد الفلسطينية داخل الأراضي الإسرائيلية والمحتلة، مما يرجح أنه سيعمل على دفع الفلسطينيين إلى مغادرة الأراضي إلى الخارج، أو يجبرهم على ذلك تجاه الأردن الشقيق أولاً، وتجاه الأراضي المصرية إذا لزم الأمر.
من المفيد التذكير بأن وزير خارجية إسرائيل السابق شاريت كتب في مذكراته منذ منتصف القرن الماضي أن أفضل سبيل لمواجهة العالم العربي هو تفتيته وتقسيمه من الداخل على أساس طائفي أو عرقي أو إثني، والساحة الفلسطينية ليست الوحيدة في جهود إعادة تشكيل الشرق الأوسط والمشرق بصفة خاصة، وإنما رأيت البدء بها للتنبيه بخطورة بعض الترتيبات الموقتة المنتظر الاتفاق عليها على المدى القصير، قبل أو مع بداية ولاية ترمب الثانية، إذ يصعب تصور الوصول إلى حلول كاملة ونهائية خلال أسابيع قليلة قبل انتقال السلطة في الولايات المتحدة، لنزاع حول الهوية والكرامة دام أكثر من نصف قرن من الزمن.
ولم تكُن مفاجأة أن يتم التوصل أخيراً إلى اتفاق وقف إطلاق النار خاص بلبنان، تهدف إسرائيل منه تأمين حدودها الشمالية، بعد استهداف قيادات وإمكانات “حزب الله”، وترك بصمة قاسية على الأراضي اللبنانية، اتفاق نأمل في أن يوفر قدراً من الأمان وإعادة الاستقرار للبنانيين وأن يطبق بشفافية وحكمة وبمراقبة عادلة وواعية وموضوعية من الولايات المتحدة وفرنسا والأمم المتحدة، من دون ترك اللجام للطرف الإسرائيلي لسوء تفسير النصوص الخاصة بالدفاع عن النفس على هواه، أو بتوفير الغطاء السياسي المعتاد الذي يؤمن إسرائيل من المحاسبة ويشجعها على الاستمرار في تجاوزاتها المعتادة، وهو أمل يصعب الاطمئنان لتحقيقه.
وجاء الترحيب الإقليمي بالاتفاق واسعاً بما في ذلك من إيران، وهي طرف مهم ومؤثر على رغم الصدمات التي تعرضت لها أخيراً، إن لم تكُن الطرف المفصلي في قرار “حزب الله” بالموافقة، ولا يمكن فصل ذلك عن التهدئة الإيرانية وضبط النفس تجاه العمليات الإسرائيلية ضد أنظمة الدفاع الجوي الإيراني، إذاً هذا مؤشر آخر لوجود تفاهمات مباشرة أو غير مباشرة على ما تم، أو في الأقل نحو بدء التمهيد لما هو آتٍ.
والأحداث التي وقعت خلال الأيام الأخيرة في سوريا بخاصة حلب وحمص، وتراجع القوات السورية الرسمية سريعاً أمام المعارضة قبل سقوط النظام، لا يمكن أن تتم على هذا النحو من دون تنسيق أو تفاهم أو توافق ضمني كامل أو جزئي، أو تآمر عدد من الأطراف، وغياب رد الفعل الفاعل من إيران وروسيا الموجودتين عسكرياً بأشكال مختلفة، وهناك تساؤلات حول مواقف تركيا ودورها، عظيمة التأثير في هذه الساحة والتي لديها قوات في سوريا والعراق كذلك.
ومن الطبيعي أن ترحب إسرائيل بالأحداث، وكذلك الولايات المتحدة الموجودة عسكرياً في سوريا والعراق أيضاً، علماً أن هذه الأطراف كافة ليست بمثابة حلفاء تقليديين لتوجهات المعارضة من “هيئة تحرير الشام” وغيرها، إذاً نحن في مرحلة مواءمات وتوفيق المصالح المرحلية، مع الهزة التي تشهدها المنطقة وقبل تسلّم ترمب السلطة، وإنما تقع جميعها على حساب الطرف السوري غير المسيطر على أراضيه، وقابلة أن تمتد منها بأشكال مختلفة إلى ساحات أخرى مجاورة.
ويجب عدم إغفال أن إسرائيل أعلنت أنها متنازعة مع سبع ساحات شرق أوسطية غزة والضفة الغربية، وهي أراضٍ محتلة، واليمن ولبنان وسوريا، وكلها كانت مباحاً لها عسكرياً، وكذلك من العراق وإيران، فضلاً عن وجود مؤشرات مختلفة إلى مصادر اضطراب وتوغل لها ولغيرها في الصومال وشرق أفريقيا، وكل هذه مؤشرات خطرة إلى ما يتم وما هو مقبل على منطقتنا، ويضاف كل ذلك إلى الاضطرابات في ليبيا والحرب الأهلية في السودان وعدم الاستقرار الأمني في البحر الأحمر.
هذه رسالة تحذير للإخوة والأخوات في العالم العربي مما هو آتٍ، ونأمل في أن يتم تبني سياسات مبادرة لحماية مصالحنا والتخطيط للمستقبل لأننا في ظل عالم مضطرب ومنطقة يعمل على تفتيتها وإعادة صياغتها وتشكيلها من دون التزام القانون الدولي المنظم للعلاقات على المستويين الدولي والإقليمي.