أمد/
لأكثر من نصف قرن، تنقل الأكاديمي العراقي عبد الحسين شعبان بين مدن العالم، ناشراً أفكاره ونظرياته ومواقفه ، خصوصاً في القضايا المحورية مثل القضية الفلسطينية. حاز في عام 2003 جائزة أفضل مناضل عن حقوق الإنسان في العالم العربي، التي منحت له في مصر، تقديراً لجهوده البارزة.
تخرج شعبان من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد، وحصل لاحقاً على شهادة الدكتوراه في العلوم القانونية. يتمتع بخبرة واسعة في مجالات حقوق الإنسان، القانون الدولي، وكتابة الدساتير. أسهم بأكثر من 60 كتاباً، فضلاً عن العديد من المقالات والأبحاث التي تناولت موضوعات متنوعة في السياسة، الأدب، والتاريخ. بصفته متخصصاً في الاقتصاد والقانون الدولي وخبيراً في مجال حقوق الإنسان والسياسة، كان لنا هذا الحوار معه.
*ما الذي مات فيك مع مرور الزمن، وما الذي بقي حيّاً؟
ـ لم أمُت، لكنني لم أكن على قيد الحياة أحيانا. كل ما أعرفه هو أنني ما أزال أمارس فضيحة الحياة، كما يقول الصديق الموريتاني الباهي محمد، لا يخيفني الموت، الحياة هي التي تخيفني.
*لماذا تخيفك الحياة، أو ربما «باتت» تخيفك؟
ـ لأن التفاهة والسطحية أخذتا ترتقيان إلى نظام الحياة بكل مفاصلها، سواء على مستوى المجتمع أو الدولة. هكذا تبدّدت النقاوة وغاب العمق وانحسرت الموجة المدنية الحداثية التي عرفناها في الخمسينيات والستينيات.
*هل تعتبر نفسك من سلالة توشك على الانقراض؟
ـ لا، لكنّني أتوجّع فكريّاً، خصوصا حين أرى ذبول الضمير وصعود الرداءة وشيوع الوضاعة واللّهاث وراء الامتيازات والوظائف والمال.
*أظنّك لا تقصد السياسة والسياسيين حصراً
ـ لا.. بل أعني منظومة القِيم السائدة، وهي تشمل السياسة والسياسيين بالطبع. فالاحتيال أصبح «شطارة»، والتزوير بات مهارة، والوقاحة سُميّت شجاعة. كلّ ذلك في نظام يمثّل الزبائنية، ومن يعارضه فهو منشق وغريب، بل يوصف بالأحمق أحياناً! إنه زمن التكسّب والارتزاق والخنوع، ولا مجال للتميّز والاستقلالية والكرامة، ويتساوى من يلعبون في الساحة، سواء أكانوا إسلاميّين أم قوميّين أم ماركسيّين، ولكلٍّ مبرراته.
*لكن امتعاضك من الوضع القائم لم يجعلك معزولاً، بل نراك تحارب بمقالاتك وكتاباتك وندواتك ومحاضراتك التي لا تنتهي!
ـ صحيح، أنا لست في عزلة، بل أمارس «الفرجة» الواعية الناقدة، وحسب صموئيل بيكيت «المتعة بالفرجة»، خصوصا حين يكون المتصارعون من قماشة واحدة، وإن اختلفت الأيديولوجيات والأسماء والأساليب والمبررات.
*إزاء هذا المشهد القاتم، الصمت ضعف أم قوّة؟
ـ الصمت قوّة وفيه مضاد حيوي يسمح لك باجتياز مرحلة «التوعّك». في الصمت تأمل ومراجعة وإعادة نظر ونقد، بما فيه نقد ذاتي، ومن ثم تفكيك وتركيب واستشراف. الصمت شكل من أشكال المقاومة، خصوصا حين يكون الكلام ثرثرة وهذياناً وقباحة.
*ما الذي يجعلك تتكلّم إذن؟
ـ الجمال والعدل والحريّة وملحقاتها التكوينية، كالمساواة والشراكة، وهي تمثّل المواطَنة التي من دونها لا يمكن للأمم أن تتقدّم أو الدولة العصرية أن ترتقي. لا أستطيع السكوت عن الظلم، حتى إن صمتّ أو امتنعت عن الكلام، ففي ذلك نوع من المواجهة للرائج والمهيمن والسائد.
*يرتفع صوتك تارةً، ثم ينخفض تارةً أخرى. أثمّة علاقة بالمساومة؟
ـ المطلوب ليس الصخب أو الضجيج، فالكثير من الفضائح والدناءات ارتكبها أشخاص كانت نبرتهم عالية حين كانوا يصرخون ضدّ الفساد والعنف والإرهاب. وعلى حد تعبير المتصوّف جلال الدين الرومي، «أخفِض صوتك، فالزهر ينبته المطر لا الرعد». أقول رأيي همسا أحياناً لأُسمِع المقرّبين، لاسيّما المعنيين، مثلما أسير ببطء. ربما هي مشية السّلحفاة كي لا أتعثّر لكن باتّجاه الهدف، وخشيتي دائما أن أفقد البوصلة، أو يضيع صوتي في البريّة، فلا يسمعني أحد. أحرص على قول كلمتي حتى إن جلبت لي المتاعب. حريّة التعبير تقود إلى التهلكة أحيانا، وتلك إحدى مشكلاتي العتيقة.
*ألا ترى أن التغيير لا يتمّ إلّا عبر المؤسسة، أي الدولة؟ ألا يبقى المثقف، مهما كان ثقله غير مؤثِر بشكل مباشر؟
ـ صحيح، التغيير سياسي بالأساس. حتى التغيير في الحقل الديني، يسبقه ويتبعه ويترافق معه التغيير في الحقل السياسي. لكن ما يمهّد له هو الثقافة. فقد قامت الثورة الفرنسية عام 1789 على أكتاف كتّاب ومفكّرين كفولتير ومونتسكيو وروسو. هؤلاء هم صنّاعها الحقيقيون، أمّا من قام بالتنفيذ فهم عصبة ثورية، كان أحد أبرز قاداتها المحامي الفرنسي ماكسميليان روبسبير الذي قطع من الرؤوس الكثير حتى قُطع رأسه.
*ألا تزال، في لاوعيك، تعتبر نفسك ماركسيا؟
ـ لا أحبّذ انتسابي إلى شخص، مع احترامي الكبير وتقديري العميق لكارل ماركس وفكره، وأعتبره من أعظم الشخصيات الفكرية العالمية كمفكر وفيلسوف وعالم اجتماع وعالم في الاقتصاد السياسي. لكن ما قاله ماركس يخصّ عصره، وقد يكون صالحا آنذاك، لكن الزمن تخطّى الكثير من استنتاجاته التي هي في الأساس نتاج علوم القرن التاسع عشر، ولو عاد ماركس الآن لغيّر الكثير من استنتاجاته، التي لم تثبت الحياة صحّتها.
*هل هذا يعني أن الماركسية شاخت؟
ـ الكثير من استنتاجات ماركس تجاوزها الزمن كما ذكرت، وهي تصلح لأن تكون في متحف التاريخ، هذا ليس انتقاصا منها، إنما هي حركة التاريخ الطبيعية. سيغموند فرويد عالم نفسي كبير ومدرسته ساهمت في تأسيس علم النفس، لكن ثمّة نظريات في علم النفس اليوم قد تجاوزت العديد من مفاهيمه.
*ماذا تقول عن مواقع التواصل الاجتماعي؟
ـ فيها حقائق ووقائع ومعلومات مهمة، مثلما فيها تهريج وأكاذيب وإساءات. الكلّ أصبح اليوم صاحب رأي، وهذا شيء إيجابي، لكن الشريحة الأكبر تخطت حدودها ببثّ روح الكراهية والانتقام والثأر وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، حتى صار التعصّب سمة سائدة.
*وهل تتعاطى مع هذا العالم الافتراضي؟
ـ لم أتعاط معه حتى الآن، على الرغم من أهميته، ربما لشحّ الوقت من جهة، ولخشيتي من ألّا ألبّي متطلّباته من جهة أخرى. ثم إنني لا أريد النزول إلى ساحة المتجاذبين، الذين يُخوّن أحدهم الآخر لدرجة تثير الاشمئزاز، دون أي اعتبارات أو ضوابط أخلاقية أو قانونية أو إنسانية. التواصل الاجتماعي يحتاج إلى ضوابط قانونية، دون المساس بحريّة التعبير، كي لا تتفلّت الأمور ويتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
*من يتابعك يرى فيك حالماً كبيراً. هل حبسَتك أحلامك هذه في برج عاجي، بعيداً عمّا يجري من حولك؟
ـ كلّا، الميدان موقعي وتلك وظيفة المثقف الذي يتماهى مع هموم شعبه وأمّته، لكن ميدان المهاترات والتشنيعات وازدراء الآخر ليس ميداني. أنا أحترم الآخر وقيمه وقناعاته مهما اختلفت معه، إيمانا مني بالحق في الاختلاف والتنوع والتعدّدية.
*هل تسعى لكسب أو اجتذاب جمهور؟
ـ لا أسعى إلى لفت الانتباه أو لفت النظر، إلّا إذا كان ما أكتبه وأقوله يخاطب العقول وليس الغرائز، سواء يتعلّق الأمر بالدين أو الفكر أو الفلسفة، أو قضايا التقدّم الاجتماعي، لاسيّما بالموقف من المرأة، أو من حقوق القوميات والأديان والهويّات الفرعية، لأنني أعتبر تلك معايير أساسية لتقدّم أي فرد أو جماعة أو مجتمع أو دولة.
* ألا ترى في مواقفك من القضية الفلسطينية مبالغة وتطرفاً ولا موضوعية أحياناً؟
ـ القضية الفلسطينية بالنسبة لي، أنبل قضية في الكون. الشعب الفلسطيني طُرد من أرضه، وعلى مدى ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن تعرّض إلى عمليات إبادة وإجلاء وتدمير، وآخرها حرب الإبادة الشاملة في غزّة. كيف يمكن أن يكون موقف المثقف إزاء كل هذا؟ بالتأكيد الانحياز بلا حدود مع فلسطين ضدّ الإرهاب الصهيوني وضدّ العنصرية الاستعلائية.
*لكنّ للفلسطينيين أخطاءهم أيضاً..
ـ صحيح، لا حركة تحرّرية ولا مقاومة من دون أخطاء. كمثقف، لست معنيا بالتفاصيل بقدر تركيزي على الجانب الحقوقي والإنساني لشعب يتعرّض للإبادة. قلت، منذ عقدين من الزمن، إنني مع «حماس» في عدم تخفيضها لسقف النضال، لكن لديّ آراء مختلفة بشأن برنامجها الاجتماعي، كما إنني مع حركة «فَتح» في انفتاحها ومدنيتها، لكنني لست مع اتفاقية أوسلو التي أُبرِمت عام 1993، لأنها لا تلبّي الحد الأدنى من حق تقرير المصير. أنا مع حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا لا يعني أنني أوافق على كل ما يصدر من آراء من هذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك. لست معنيا بذلك.
*من هنا إذن اهتمامك بالقضية الكرديّة ؟
ـ باعتزاز أقول إنني مع المظلومين وإنني صديق للشعب الكردي، وطالما نعترف به كشعب وجزء من أمة فإنه يحق له تقرير المصير، وقد اتخذت هذا الموقف منذ أكثر من خمسة عقود من الزمن، وعملت على إصدار العديد من القرارات الدولية في إطار المجتمع المدني العالمي والعربي لتأييد ذلك. فمثلما يحق للأمة العربية تحقيق الوحدة والتحرّر والتنمية، كذلك يحق للأمة الكردية ما يحق للأمة العربية. كعربي يعتز بعروبته، أشعر بأن مثل هذا الموقف ليس منّة أو هبة، وإنما اعتراف بواقع أليم عانى منه الشعب الكردي، بسبب مواقف دول الإقليم الشوفينية الاستعلائية. أربعة أمم تعيش في هذه المنطقة، وهم الترك والفرس والكرد والعرب، إضافة إلى أمم أخرى يمكنها أن تحل مشكلاتها بروح الحرص والمسؤولية وحسن الجوار والروابط المشتركة، بما يقلل من فرص التدخّل الخارجي وإثارة الحروب والضغائن بين الشعوب. لاحظي كيف تمكّن الكاثوليك من حل مشكلاتهم مع الكنيسة اللوثرية بعد صراع دام 500 عام، ألا يمكن أن يفكر من يتحدثون باسم الشيعة والسنّة من تسوية خلافات تاريخية مضى عليها أكثر من 1400 عام؟!
*لماذا تبدو علاقتك بالسياسة والسياسيين ملتبسة؟
ـ إنه دليل صحة! أتعاطى مع السياسة والسياسيين لكن من موقعي الثقافي النقدي لتوجهات أيديولوجيّة، سواء كانت إسلامية أم قومية أم ماركسية، وأراها جميعها تنبع من منبع واحد أساسه الأيديولوجيا النسقيّة المغلقة وعدم قبول الآخر وازدراء التنوّع، وهذا يصل، في الكثير من الأحيان، إلى درجة التسيّد والهيمنة والإقصاء والإلغاء والتهميش للآخر، حتى إن كان منهم، فما بالك حين يكون مخالفا لهم. الإسلاميّون يقولون إن الإسلام هو الحل، وكل فريق منهم يجعل الحق في صفّه وينكره على الفريق أو الطائفة الأخرى. كذلك القوميون، على اختلاف أحزابهم وتجمعاتهم، ظلوا يتحدثون عن الوحدة والحريّة والاشتراكية، وحكمونا باسمها، دون أن يقاربوا أي واحدة منها. والشيوعيون صدّعوا الرؤوس بالشعارات الرنانة حول معاداة الإمبريالية، وإذ ببعضهم أصبح جزءا من مشروعها بحجّة القضاء على الديكتاتوريات.
*هل ترى أن الوصول إلى السلطة يُفسد القضيّة أم يعزّزها؟
مجرّد رائحة السلطة تُنسي الكثيرين القضايا التي ناضلوا من أجلها، فيضطرون إلى مجاراة بعض الأجندات الخارجية، بل الخضوع لها تحت عناوين «الواقعية» وعدم العزلة. الخراب واحد وإن تعدّدت أشكاله وتسمياته، وشخصيا أعوّل على الجيل الجديد. فقد فشل جيلنا وعلينا أن نعتذر. الأزمة أكبر من الجميع، وهي أزمة فكر وسياسة وتنظيم وإدارة وقيادة وأساليب عمل، فضلا عن بُعدها الأخلاقي، وعلينا الاعتراف بذلك لمعالجته وإن على خطوات وبالتراكم.
*هل أنت متشائم، أم «متشائل» على حد تعبير الروائي إميل حبيبي؟
ـ ربما أميل للتشاؤم أكثر. فكل ما حولنا يشي بالتشاؤم، وأوضاعنا العربية لا تسرّ أحدا، فما بالك حين تكون بلادنا محتلّة وحريّاتنا مسلوبة والعدالة غائبة والميليشيات منتشرة والدولة ضعيفة والفقر مستشريا والجهل سيّد الموقف والثقافة متدنّية. والأكثر من ذلك، استمرار الإرهاب والمنظمات الإرهابية مثل «القاعدة» و»داعش» و»جبهة النصرة» (جبهة فتح الشام).. أليس ذلك مدعاة للتشاؤم؟ لا يمكننا أن ننسى أيضاً الفساد المستشري والطائفية التي أصبحت فيروس المرحلة! فالتشاؤم لا يعني اليأس. أنا متشائم لكن لست يائساً، فإرادة المقاومة والتحدي موجودة لصنع مستقبل جديد أفضل مما نحن عليه.