أمد/
يمتد ثرى فلسطين في أسفل صورة الغلاف بوجهيه الأمامي والخلفي، وتمتد سماء فلسطين في أعلى الكتاب، ودون السماء يجثم جدار الفصل العنصري على جل الغلاف كما يجثم على الأرض ثقيلا، موحشا، قاسيا. وخلف الجدار ثمة أسوار وجدران، وقضبان، وسجون، وسجانون و”غربة حديدية صدئة” كما وصفها الأسير المبدع باسم خندقجي، في روايته “قناع بلون السماء”، وباسم هو واحد من سبعين أيقونة اصطفت على الغلافين نوافذ أمل في جسم الجدار توقا إلى الحرية .
سبعون أسيرا هم موضوع هذا الكتاب، زياراتهم، همومهم، آمالهم، نتاجهم الأدبي النثري والشعري كما رسوماتهم كانت في صلب اهتمام مؤلف هذا الكتاب “يوميات الزيارة والمزور” للأستاذ المحامي الحيفاوي حسن عبادي، الذي عقد العزم على أن يفتح طاقة الأمل من خلال مبادرة “لكل أسير كتاب”، فراح يطوف البلاد من شمالها إلى جنوبها مجتازا كل جغرافيتها ومعه حيفا، ومحبتها، وعشقها، والوعد باللقاء فيها مع تنفس نسائم الحرية، وكعك العيد من عمل زوجته سميرة التي شجعته على المشروع وكانت خير داعم له، يقطع المسافات مارا بكل ظروفها الجوية، متحديا كورونا بما فرضته من حظر أضاف إلى زيارات السجون عبئا فوق العبء الماثل في تتبع المواعيد، والتقيد بإجراءات الزيارات، وتحمل مفاجآت الإلغاء العبثي للزيارات بسبب أو بدون سبب.
جل الزيارات في هذا الكتاب تشف عن وشائج علاقات إنسانية نشأت بين الكاتب وأحبابه خلف القضبان فتراهم يبدأون الزيارة بالسؤال عن زوجته سميرة وبناته والأحفاد، وتراه يبادلهم الشعور وينقل ما كان من أمر زياراته لعائلاتهم وأقاربهم، كما يحمل إليهم صدى ما يكتبون في الخارج الأمر الذي يشعرهم بالتفاعل مع القراء، وبأهميتهم ككتاب وروائيين وشعراء، وأهمية ما يكتبون.
وبرغم الحواجز الزجاجية العديدة التي وصفها المؤلف ذات زيارة فقال: “حقا كان صقيعا رغم حرارة حزيران في صحراء النقب”، ثم تعددت صفات هذ الحاجز الزجاجي عبر الزيارات من الباهت، إلى إلى المقيت، واللئيم، وغير ذلك، ولكنه برغم كل ذلك وجد في أبيات شاعرنا الراحل عبد الرحيم محمود دعوة للإبتسام في وجه الحياة إذ يقول:
أن تجد باب الأماني مُغلقا لا تُكشّر أو تلم من سكَّره
إن بَوّاب الأماني مرِحٌ يبغض اليأس ويخشى الكشرة
هو ذا يصف الأسير القادم لزيارته بأوصاف متعددة فهذا يسير “منتصب القامة”، وآخر يطل بابتسامة عريضة، وأخرى طفولية، وثالثة قاتلة، ورابعة “بدت كأنها مستمرة من الزيارة السابقة” وخامسة سرمدية، ومضى الكاتب يصف مَزوريه على هذا النحو من الإبتسام والإقبال والشموخ برغم أحكام بالمؤبد تعددت حتى بلغت تسعا أو ربما زادت، يقول الكاتب في وصف كريم يونس أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين إن لم يكن أقدمهم على الإطلاق: “تحدث كريم بأريحية ووجهه يبث إرادة ويشع أملا …وحياة”.
ويندر أن ينهي الأستاذ حسن عبادي إحدى الزيارات دون أن ترافقه في طريق العودة قصيدة ذات دلالة لمضمون الزيارة أو أحد مشاهدها فيستذكر وقد تحدث عن شموخ القامة قصيدة الشاعر سميح القاسم “منتصب القامة”:
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي، وأنا أمشي، وأنا أمشي
كما يقول في ختام إحدى الزيارات ص46: “سمعت منهم وأسمعهتم الكثير، تبادلنا الأفكار وتثاقفنا، تحدثنا إنسانا لإنسان، بعيدا عن الأسطرة والخرافات والبطولات كل وحكايته، وفي طريق العودة إلى حيفا جاءتني أبيات من – قصيدة عن إنسان – للراحل محمود درويش” يقول:
“يا دامي العينين والكفين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل
نيرون مات، ولم تمت روما…
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل”
تحدث حسن عبادي في وصف المَزورين عن قادمين تحت حراسة ستة من السجانين، وكأنه اعتقل الان، وآخرين قد تعرضوا لأن تقيد اليدان ، وتقيد الرجلان وبينهما سلسلة، وتعجب ساخرا لرؤية آخر يتعرض للتفتيش وهو قادم من الزنزانة.
من الأسرى المشمولين في هذا الكتاب من فارق الحياة بعد رحلة عذاب مع المرض فاقمها السجن وغياب الرعاية الصحية مثل الراحل وليد دقة الذي كان على وشك إنهاء مدة الحكم الطويلة ، ومنهم من أفرج عنه بعد أن انهى محكوميته مثل كريم يونس، و عاصم الكعبي، وآخرون كثيرون مِن مَنْ ضم الكتاب حكاياتهم يتطلعون بشوق لساعة الإفراج القريبة ضمن الصفقة الأخيرة التي تقاربت مع وقت إعداد هذا المقال.
ولما استحالت الكتابة عن السبعين اسيرا، فقد اخترت عينة للحديث عن مضامين زياراتهم ومنهم
الباحث والكاتب والروائي كميل أبو حنيش
يقول المؤلف عن لقائه الأول بكميل وأعتذر عن طول الإقتباس:( تحدثنا كثيرا عن كتاباته ومشروعه الأدبي القادم، قتل فراغه بالقراءة والكتابة ليتغلب على الفقدوالحرمان واستبداد سجانه. الابتسامة تلازمه كل الوقت متحدثا عن الجهة السابعة*، الفصل الخامس والعين الثالثة، عن الانبعاث والأمل بالحرية القادمة لا محالة رغم محكوميته بتسع مؤبدات ….سألني كميل عن شعوري ساعة لقائه فاجبته بعفوية ما سمعته من جلال الدين الرومي:”ما ضرك لو أطفأ هذا العالم أضواءه كلها في وجهك ….ما دام النور في قلبك متوهجا”)
و”الجهة السابعة” هي إحدى روايات كميل أبو حنيش، إضافة إلى “خبر عاجل”، و “بشائر”، و”الكبسولة”، “وتعويذة الجليلة”، ومن كتبه: جدلية الزمان والمكان في الشعر العربي.
وقد قرر في وقت ما أن يخوض عزلة اختيارية قضاها في القراءة في حتى وصل 15 ساعة من القراءة يوميا.
الأسير عاصم الكعبي
أكثر ما يؤلم في قصة عاصم هو رحيل والدته رحمها الله قبل أن تنال جرعة من الفرح بلقائه حرا خارج القضبان، وهي التي “بدأت رحلتها المنتظمة إلى السجون لتزور أبناءها الخمسة”
“لم تحظ بدمعة فرح في مقلتيها ساعة عناق نجلها محررا…فاض نهر أحزانها ولم يعد قلبها يحتمل ىمرارة أكثر ، شقت الأحزان يومياتها ورسمت خارطة حياتها”
التفكير بعاصم ورفاقه كان مدعاة للمؤلف للتفكير بقصيدة درويش:
وأنت تعد فطورك .فكر بغيرك
لا تنس قوت الحمام
الشاعر والروائي باسم خندقجي:
استفسر المؤلف من باسم عن سر ابتسامته السرمدية فأجاب بعفوية: “أشعر أن اليوم عيد ميلادي لأتي سجين منذ خمسة عشر عاما ولأول مرة يزورني غريب بسبب كتاباتي، أشعر حقا أنني اليوم أصبحت كاتبا”
ولكن هذا الباسم له عدد من الإصدارات الشعرية والروائية منها: ديوان “طقوس المرة الأولى”، وديوان “أنفاس قصيدة ليلية” ورواية “مسك الكفاية… سيرة سيدة الظلال الحرة” ورواية خسوف بدر الدين” و “نرجس العزلة”. كما صدرت له لاحقا رواية “قناع بلون السماء” والتي نالت جائزة البوكر لعام 2024 بناء على ترشيح الناشر.
تناولت اللقاءات بينهما وعلى مدى زيارات متعددة محاور عديدة مثل أدب السجون أو “أدب الحرية” كما يحب الأستاذ حسن عبادي أن يسميه، بما في ذلك تشجيع الأسرى الآخرين على الكتابة والنشر كمتنفس لهم، وأخبار زيارته لعائلته في نابلس
وعن منتدى حيفا الثقافي ودوره في تنشيط الحركة الثقافية، وعن مبادرة لكل أسير كتاب ، وعن مشروعه الأدبي وكتاباته المستقبلية.
ولعله من الأهمية بمكان إدراك الكاتب لأهمية ما يجرى من حراك حول الناتج الأدبي للأسير في الخارج، فكان حريصا على أن ينقل له أخبار تفاعل قرائه مع كتاباته، فهذه أمسية عمّانية حول روايته خسوف بدر الدين، وتلك محاضرة على هامش معرض للكتاب في نابلس “أدب الحركة الأسيرة …باسم خندقجي نموذجا” ، وأخبار عن مناقشة رواية مسك الكفاية في المغرب.
و أورد المؤلف عددا من الشهادات حول الناتج الأدبي لباسم خندقجي من حنان بكير، وفراس الحاج محمد اقتبس بعض ما كتبه الناقد فراس: “ومن خلال الإقتراب من عالم باسم الإبداعي تبين لي أن عالم باسم الأدبي مختلف، وفيه من العبقرية ما يؤهله لأن يكون كاتبا ذا بصمة خاصة في مسيرة الأدب الفلسطيني، وأدب الأسرى بشكل خاص” .
الكاتب والروائي حسام شاهين
مثال آخر يجسد أثر زيارة شخص دون معرفة سابقة لمجرد كونه كاتب. وكيف ذكره هذا اللقاء بالنرويجية “أنكين هوتفلدت” التي عرفها قبل سجنه وسمح لها بزيارته، وعندما مدت يدها لتسلم عليه عبر الشبك تلامست أصابعهم فارتبك حسام، ولما سألته عن سر هذا الإرتباك أجابها أنها المرة الأولى منذ اعتقاله يلامس بشرا غريبا فصاحت به تاتش تاتش فانتبه السجان وانقض عليها موبخا ونقلها إلى غرفة بحاجز زجاجي بدون شبك.
والكاتب حسام شاهين الذي يقضي حكما بالسجن لمدة 27 عاما له رواية بعنوان “زغرودة الفنجان” ومجموعة كتابات بعنوان “رسائل إلى قمر “.
تناولت أحاديث حسام مع المؤلف مواضيع عديدة لعل أبرزها حديثه عن صورة لطفلته قمر علقت في ذهنه منذ يوم اعتقاله ولا زالت تمده بالأمل.
وأحاديث عن الأدب وتفوقه على السياسة في التثقيف والتسييس كما أنه يعمر أكثر من السياسة، وعن أهمية توظيف الحكاية الشعبية والرواية التاريخية في المشروع الوطني
وطال البحث حول “أهمية تدويل قضية أسرانا لتسليط الضوء بداية على ملف الإهمال الطبي والاعتقال الإداري دون محاكمة، ليسمع كل العالم صوت معاناة أسرانا وعذابهم اليومي و الموت البطيء لكثير منهم”،
وقد سرني أن عرفت أثناء إعداد هذا المقال أن حسام سيعانق الحرية قريبا جدا ضمن صفقة التبادل الأخيرة.
الأسير الراحل وليد دقة
دار الحديث في اللقاءات التي سبقت رحيله حول الأمل في الحرية القادمة حيث كان يقترب من إنهاء محكوميته الطويلة “نحو أربعين عاما”، وقد اختلط الامل بالمخاوف والقلق من موضوع احتجاز الجثث حتى اكتمال مدة المحكومية .
كما تناولت الأحاديث مشروعه الأدبي والثقافي ، وحديثه عن فكرة عمل يقوم على اعتقال جثة تكتب الشعارات على جدران المدينة، وكان من ضمن مشاريعه مسرحية بعنوان “الشهداء يعودون إلى رام الله” . ومن أعماله الأخرى “حكاية سر الزيت “، و حكاية “سر السيف”
أما ابنته “ميلاد” فذلك موضوع آخر فقد كان ميلادها حكاية، والتهيئة للإحتفال بميلاد ميلاد حكاية أخرى، وشوقه لها وحرقته لمنعها من زيارته، ناهيك عدم السماح بتسجيله بصفته والدها.
ويعلق على ذلك بسخرية سوداء: “مثل السيارة المسروقة “
لاحقا باتت ميلاد ابنة للحركة الأسيرة وبات كثيرون يتداولون أخبارها وطرفها وخربشاتها على كتاب والدها عند إشهاره في عمان.
رحل وليد دقة مريضا بالسرطان وقد فاقمت ظروف السجن من معاناته .
وبعد، فكل التقدير للمؤلف الأستاذ حسن عبادي على الفكرة، وعلى المجهود والمضمون كتاب جدير بالاهتمام، وبمزيد من الدراسة والمتابعة.
عمان في 18/01/2025