أمد/
عُدت مؤخراً إلى قراءة كتاب، أحببته منذ نشره قبل خمس سنوات، مؤلفه أكاديمي كندي (آلان دونو)، ويحمل عنوان «نظام التفاهة»، وينقل بدقة ظواهر انتشار التفاهة والفساد والتوحش، والفقر الفكري، وتسليع الحياة، والسلبية، والتحرر من أي التزام أخلاقي وقانوني، وفراغ السياسة من الأفكار الكبرى، كالحق والواجب ومنظومات الأخلاق.. إلخ.
ظواهر سلبية ومفارقات تنتجها «التفاهة»، حيث تمتزج السياسة بالاقتصاد وبمجتمع الأعمال وبشبكات التواصل الاجتماعي، فتتولد مضامين تعمل على تشكيل أنماط وأذواق عيشنا المجتمعي، أنماط متدنية للغاية.
تنتشر مصطلحات مثل الشفافية والحوكمة والمساءلة، وترددها نخب ونظم ومؤسسات، ليلاً ونهاراً، لكن زادت ظواهر الفساد وتعزَّزت وبلغت أبعاداً مخيفة.
في نظم التفاهة، يفقد الناس اهتمامهم بالشأن العام، ويتشوَّه دور الأكاديميات، ويتنحَّى المفكر والحكيم والعالِم، ليحل مكانهم الخبير الذي يخدم مصالحه الضيقة، والمستعد لتكييف الحقائق العلمية لحساب من يرتبط بهم من محتكري السلطة والمال والإقطاع التقاني التواصلي.
أتذكر أن شركة للمشروبات الغازية قد موَّلت دراسات أكاديمية، قبل عشر سنوات «تدَّعي أن سبب السمنة، لا يكمن في السعرات الحرارية، بل يعود إلى نقص الرياضة».
في ظل نظام التفاهة المنتشر في العالم، فقدت الفنون رسالتها التنويرية والأخلاقية والذوق السليم، وسادتها قضايا زعزعت أسس المجتمعات، وَروَّجت للخرافات والتفاهات والسطحية والعنف والوعي الزائف.
في ظل نظام التفاهة، صار مشاهير «الإعلام الاجتماعي» هم الذين يشكلون «العقل الجمعي»، من خلال منشوراتهم وتغريداتهم المتتابعة، واختصروا مسيرة إنسانية من تبادل الفكر والتفاعل والمناظرات والقراءة والنقد المتبادل، وصارت شهرتهم التواصلية مبرراً لتمردهم النفسي والاجتماعي، ووسيلة ل «الاستنفاع المنفلت».
{ نظام التفاهة هو عدو لعالم التأمل والفكر والبحث، وهو نظام، في طبيعته، يحرص على إحاطة ذاته بالنفوذ والسلطة القادرة على سلب إرادة الفرد، وفرض نموذجها المغرق في التفاهة والبهرجة والابتذال.
{ في نظام التفاهة، يتعذر الحديث عن الثقافة، وتبدو الصورة هي الوسيلة الوحيدة للتفكير، وقد احتلت كل المواقع بعد أن قرر «التافهون» وضع التفكر والتساؤل والنقد والتفاعل والتثاقف في «الحجر الصحي».
يتحدث مؤلف «نظام التفاهة» عن فيلم قصير أخرجه فنان كندي عام 1985، واسمه «زمن المهرجين» ويقول فيه على لسان المخرج: «جميع الطيور الجارحة هنا: المديرون، وزوجاتهم، بارونات المال، ملوك «البيتزا» المثلجة، عصابات العقارات، الانتهازيون الذين يظنهم الناس محسنين، الأغبياء الفقراء أصدقاء النظام، أعضاء مجلس شيوخ خَرفون، نساء بملابس ضيقة، صحفيون يرتدون ثياب كُتَّاب الافتتاحيات المتملقين، محامون مشبوهون، يرتدون أردية القضاة ويكسبون مئة ألف دولار، متزلّفون يظنون أنهم فنانون، جميع أعضاء العصابة التافهة هنا، مطليُّون بالكروم، يرتدون الميداليات، وربطات العنق، مبتذلون بملابسهم الفاخرة، ومجوهراتهم، تفوح منهم رائحة العطر النتنة، إنهم حسنو المظهر إلى درجة فظيعة، بأسنانهم البيضاء، وبشرتهم الوردية، وهم يحتفلون في منتجع».
{ يشير المؤلف آلان دونو، وهو يستعرض تلك الحفلة التي عبر عنها ذلك الفيلم القصير، إلى منتجع «مارالاغو» في بالم بيتش بولاية فلوريدا والذي يملكه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
…….
نعم، هو مشهد اعتاد عالم اليوم عليه، مشهد فكاهي ربما، لكنه موجع (وليس ببعيد عنه، المشهد الأخير في البيت الأبيض بين ترامب وزيلينسكي) ويذكرنا بقول لشكسبير في إحدى مسرحياته: «الجحيم فارغ.. وكل الشياطين هنا».
……
إن التحرر من سيطرة التفاهة هو مسؤولية الجميع.