أمد/
كتبت، ذات يوم، مرثية إلى مبنى وزارة الخارجية القديم، لا لأمدحه قبل هدمه، بل لحفظ الذاكرة، وقد تساءل أصدقاء: لماذا الاهتمام بمبنى قديم ومتهالك، حتى صار محل بحث في «حالته» في مناقشات المجلس الوطني الاتحادي، في تسعينات القرن الماضي؟ لم يكن ذلك المبنى مجرد حيِّز من الجغرافيا، أو حزمة من النوافذ والحجر والأسمنت، وإنما كان في وجدان الجيل الأول من دبلوماسيي الإمارات، بشراً وصوراً وأحداثاً وأحلاماً، وذكريات وانفعالات وحوارات ولحظات تأمل وقلق، ومشاعر، واستعادة لوجوه رجال كانوا، ثم مضوا تاركين في الذاكرة ملامح تأبى الغياب.
طوينا طرقاته جيئة وذهاباً في أيام الصيف الحارة، نحمل ملفاتنا وأوراقنا، وندور حول أسئلة صعبة، تبحث عن حلول ومواقف، ومع شباب لا تعوزهم العزيمة، يحاولون الإمساك بمصابيح لاستكشاف الطريق إلى المستقبل.
في المبنى القديم، محفورة في الذاكرة سِيَرُ أسماء لكبار ولأحداث عظيمة، ونمط روابط قامت على عمد قوية، وجعلت من دبلوماسية الإمارات في عقودها الأولى، ذات مصداقية متميزة، صاغها بحكمته المغفور له الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وحملها الرعيل الأول، وكبر معها، واقتحم آفاقاً واسعة، وسط عصر اتسم بالاستقطاب والحروب الباردة، وأخرى ساخنة في الجولان وسيناء، وجمرات تحت الرماد، اشتعلت ناراً في طهران وبغداد، وبيروت والكويت وأزمات وتحولات في أكثر من مكان، في أفغانستان ومصر والاتحاد السوفييتي وغيرها.
تستدعي تلك المرثية الزيارة المفاجئة التي قام بها القائد المؤسس يوم 18 إبريل/نيسان 1976، إلى مقر الوزارة، وذلك الحوار الودود والدافئ والمكتنز بالإرادة عن بناء الدولة الجديدة والرسالة الوطنية التي يحملها الدبلوماسي، وكيف يكون الاتحاد مخبوءاً في فؤاده كاللؤلؤة في محارتها.
صور كثيرة لاحت في ثنايا تلك «المرثية»، صور أول وزير للخارجية، أطال الله في عمره، أحمد خليفة السويدي، ولوزير الدولة للشؤون الخارجية الشهيد المرحوم سيف غباش، ولوكيلي الوزارة عبدالله المزروعي وعبدالرحمن الجروان والمرحوم سيف سعيد ساعد ولسفراء ودبلوماسيين أوائل، ومنهم من غادر السلك الدبلوماسي لحمل مسؤوليات وزارية أخرى، ومنهم من واصل الطريق.
وتستدعي ذاكرة المبنى القديم خبرة ثاني وزير خارجية، راشد عبدالله النعيمي، وكوكبة من الزملاء في أزمنة عصيبة سياسياً، من بينهم محمد حسين الشعالي ويعقوب الكندي والشيخ فاهم بن سلطان القاسمي ونجم الدين حمودي وجاسم عبدالغني ويوسف المدفعي وعبيد الزعابي وأصدقاء آخرون، وقائمة طويلة من فرسان الدبلوماسية، وعشرات من الوجوه النضرة، والكفاءة الدبلوماسية. كما تستدعي الذاكرة نقلة نوعية في الحركة والطموح، يبثها سمو الشيخ حمدان بن زايد، كوكيل للوزارة ثم وزير دولة للشؤون الخارجية، وتتسع مساحة العمل في الخدمة الخارجية، حركة وغوثاً وإطفائي حرائق سياسية، وجرأة في المراجعة، واقتحام لميادين مجهولة، في عالم اشتدت وتسارعت حركته وعولمته.
في السنين الأولى من عمر المبنى القديم، كانت البيئة الدولية خاضعة للتنبؤ، وفي السنوات الأخيرة، وانتهاء بعام 2001، بدت البيئة الدولية كياناً غامضاً، وفي الوقت نفسه، كانت التجربة الدبلوماسية قد ازدادت طولاً وعرضاً ونوعية، في ظل تحولات وتغيرات وإيقاعات خاطفة في التطور والمنافسة.
كان المبنى القديم يتكون من مجموعة متناثرة من «الفلل» في منطقة البطين، في عام 1974، وكان التوجه السياسي عند قيام الدولة تقديم مجموعة من الفلل الجاهزة البناء إلى السفارات العربية والأجنبية. وقد سبق هذا المبنى، أن اتخذت عدة وزارات اتحادية، ومن بينها وزارة الخارجية، مكاتب لها في مبنى صغير متعدد الطوابق في شارع خليفة، يملكه عبدالرحيم الحبيشي لمدة عام أو يزيد، ثم انتقلت إلى مبنى آخر، في شارع السلام يملكه الشيخ علي آل ثاني حتى نهاية 1973.
إن المكان عنصر أساسي في صنع اللحظات الإنسانية الممتدة، مثله مثل الزمان، وكم أَستشعر بمدى حاجة الجيل الجديد من الدبلوماسيين لمعرفة أثر المكان والزمان والرجال في صنع الماضي والتحضير للراهن.
إن روعة الذاكرة تكمن في جعل الأمس مع اليوم، ومن بعده الغد، ولولا قدرة الإنسان على حفظ ذاكرته وماضيه، لاستحال أن يكون له تاريخ، وأن يعاد تمثيل ورسم الأمكنة والأزمنة والأحداث التي مرّت، مما يُثري ذاكرة الأجيال الجديدة.
تعزز تجربة هذا المبنى القديم، الثقة بالنفس وتبعث الأمل المبرر في القدرة على تلمس الطريق إلى النجاح، وقد علَّمت خبرة الصحراء والبحر الرعيل الأول المؤسس القدرة على العمل الشاق والاجتهاد والعزيمة والاعتماد على الذات.
في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني عام 2001، انتقلت الوزارة إلى مبنى مؤقت وودعت المبنى القديم، لتعود بعد نحو عقد إلى مبنى جديد، أيقونة في معماره، ووسط تطورات سياسية، وتحولات اقتصادية وتكنولوجية متلاحقة، محلياً وإقليمياً ودولياً، تعاملت معها الدبلوماسية الإماراتية بكل حكمة وقدرة على الصمود والتفاعل والنجاح، وتخطّي الصعاب، وقادها جيل جديد، ونخبة واعية طموحة، ووزير شاب مليء بالثقة بالنفس، وبحيوية واعية، وثقافة ومعرفة، سمو الشيخ عبدالله بن زايد، ويعاونه وزراء شباب: د. أنور قرقاش، وخليفة شاهين، وريم الهاشمي، والشيخ شخبوط بن نهيان، لمواصلة حمل رسالة الوطن، وإرث زايد الإنساني، في عالم اليوم، وهو عالم مليء بالتحديات والفرص، والتقلبات والمتغيرات.
عرف المبنى القديم، تقنيات «التلكس»، وتعلَّم الدبلوماسي كيف يفك شفرات البرقيات المشفَّرة ويحولها إلى رسالة مطبوعة ومقروءة، ثم عرف المبنى القديم، وبعثات الدولة في الخارج، تقنيات «الفاكس» التقليدي في الثمانينات، لإرسال البيانات والملفات والصور، وصولاً إلى بدايات مرحلة البريد الإلكتروني، قبيل وداع المبنى القديم.
تتغير الظروف، وتتبدل الأمكنة، ويجري الزمن، وأجيال وراء أجيال يتقدمون لحمل المسؤوليات الوطنية متواضعون عند النجاح مثابرون عند التحديات، ناشرون للأمل وللخير، عندهم الخير والإخلاص، والولاء وحب الوطن.
نحييّكم، ونشد على أياديكم.