أمد/
Page 1
ما الذي جرى للأمة العربية، حتى صارت هويتها موضع تساؤل؟ بل تصاعدت وتيرة «نعي» الأمة، كلما وقعت بعض بلدانها في أزمة، إلى درجة أن مصطلح «عروبة» صار عبئاً على حامله، وعلى وارثه، وعلى كل من له لغتها.
ما الذي جرى حتى أمست أوطان لأبناء هذه الأمة، مكشوفة أو مكسورة، وأعناقهم في عين الفوضى واللايقين، وبلدانهم تتسول اللقمة والماء والكهرباء والاستقرار والاستقلال والسيادة؟
ما هذا الهواء الفاسد الذي بَلَعته نظم وسُلَط ونُخب، فأتلف الروح قبل الرئة، وتكاثر المستخفون بالهُوية العربية، وفتحوا مسام جلودنا للخضوع والخوف والامتثال والاقتتال، وأقلعنا حتى عن استخدام مصطلحات «الأمة العربية» و«العالم العربي» أو «الوطن العربي» ليحتل مكانها ذلك المصطلح الفضفاض، القادم من أزمنة الكولونيالية والاستعمار، والمسمى «الشرق الأوسط»؟
ما يجري ليس مجرد نوبة صداع عابر، إنما هو إصرار على حرمان العربي من حقوق تمتعت بها كل شعوب الأرض، وتقديم وصفات أنكى من الامتثال، ومن تسويغ العنف والحروب واحتلال الجغرافيا والتاريخ والإرادة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تحويل الجملة العصبية الجمعية إلى جنون.
يتململ أبطال الأمة العربية وقادة استقلالها وشهداء حريتها في قبورهم أمام صورة أحفادهم، وهي تتحول في عيون «الإقطاع التكنولوجي» المعاصر، والهيمنة العنصرية الاستعمارية الجديدة، إلى مسخ بدائي، عاصٍ ومتمرد على السلوك الحضاري، والرشد الإنساني.
أو كأنهم أصفار، أدمنوا الصمت، حتى ولو اجتيحت العقول والمدن وغرف النوم.
* حدثني صديق مغترب أن عربياً دخل مطعماً في عاصمة أوروبية، فألقى السلام بالإنجليزية على الحاضرين، لكنه ما سمع رداً للتحية، وبدا له أن رواد المطعم قد تجاهلوا وجوده تماماً، بعد أن تبين لهم من سحنته ولكنته أنه عربي (شرق أوسطي!). وكرر التحية والابتسامة وهزَّة الرأس والانحناء، فلم يلق جواباً، فقال في نفسه: سأجعلهم ينطقون، وراح يخلع عنه ثيابه قطعة قطعة، وما إن وصل إلى ثيابه الداخلية، حتى صاح به صاحب المطعم، وزبائن آخرون: «ماذا تعمل يا رجل؟ توقف عن هذا الفعل المعيب» فأجابهم صاحبنا بكل هدوء: «أنا لم أكن أعرف أن أحداً في المطعم».. وعاد لارتداء ملابسه.
وتحضر إلى الذاكرة، القصة القصيرة الملهمة التي كتبها الأديب الروسي تشيخوف وعنوانها «المغفَّلة»، عن الخادمة «يوليا» مربية أولاده، حينما دعاها إلى مكتبه ليدفع لها حسابها الشهري، وقال لها: «لقد اتفقنا على أن أدفع لك ثلاثين روبلاً في الشهر، قالت: أربعون، فرد عليها وقال: كلا.. ثلاثون، وهذا مسجل في دفاتري، ثم أخذ يسرد لها عدداً من الخصومات: «عملت معنا شهرين فقط (وتقول له.. «شهران وخمسة أيام» أنت لم تعلمي ابنتي أيام الآحاد، ولا في أيام الأعياد، وكان ولدي «كوليا» مريضاً أربعة أيام وكانت أسنانك تؤلمك، فسمحت لك زوجتي بعدم التدريس بعد الغداء… إلخ».
وأخذت المربية ترتعش، واحمرت عيناها وامتلأت بالدموع، كلما ذكر خصومات من راتبها، ويضيف أيضاً: لقد كسرت فنجاناً، لذا نخصم (روبلين) وبسبب تقصيرك، تسلق الولد الشجرة ومزق قميصه، ونخصم قيمته (عشرة روبلات)، وفي الشهر الماضي أخذت مني (عشرة روبلات)، وهمست الخادمة (لم آخذ شيئاً)، فقال: لكن ذلك مسجل عندي. وفي النهاية، ليس لك عندي سوى أحد عشر روبلاً، فتناولتها بأصابع مرتعشة، وعيناها مملوءتان بالدموع، وهمست قائلة: شكراً سيدي.
قال لها مندهشاً: شكراً.. على ماذا؟ وقالت: على النقود… وصرخ في وجهها، يا للشيطان، لقد سرقتك، فعلام تقولين شكراً؟ لقد «مزحت» معك، وسأعطيك كل نقودك، ثمانون روبلاً كلها، ولكن لماذا لا تحتجين؟ لماذا الصمت؟ هل أنت مغفلة إلى هذا الدرجة؟
وقال: سألتك الصفح عن هذا الدرس القاسي، فشكرتني بخجل، وخرجت من المكتب، وتطلعت في إثرها وفكَّرت: «ما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا».
عن الخليج الإماراتية