أمد/
من قال: أنقذني أولا ودع الملامة ثانيا؟
هو وقت للمشاعر؛ فليست ممارستها بالأمر الممكن في ظل البارود والنار. وهكذا وفي ظل انتظار وقف إطلاق النار، فإن المكتوي بنارها، يرتب أولوياته.
إعادة التجمع لمن بقي، ثم العودة الى البيت إن ظل هناك بيت، والبحث عن مكان لمواصلة العيش، ثم لهؤلاء المنكوبين أن يعدوا العدة لشتاء طويل، لعل الربيع يطل، فيجد الباقون وقتا للاستغراق في الشعور.
النبل والحكمة والإنسانية والوطنية الآن تقتضي وقف العدوان على شعبنا، والتطبيب والإيواء. الإغاثة الشاملة بكل ما تعني الكلمة.
وعلى ذلك، وخلال الاشتباك السياسي الذي لم ينته أصلا، فإن الأولوية تتمثل في تكريس الجهد الوطني والعربي والعالمي وتركيزه في رعاية الباقين، وهم كثر، ولا بد من إغاثتهم، ومساعدتهم على البقاء الآمن.
إن التعامل مع قطاع غزة بعد الحرب يعني أولا الناس، الشعب، البشر؛ فحجم الخراب والألم كبير جدا، ولعل الوقت مناسب لتكفير العالم عن خطيئة الصمت.
من الماء أولا نبدأ، للبدء بجهود الإغاثة مباشرة، وتجميع النازحين قرب أماكنهم وممتلكاتهم. لذلك فإن تهيئة ميناء غزة أمر استراتيجي، لتسهيل الإغاثة، ومن ثم إعادة البناء.
هنا ينصب الجهد العالمي، في إغاثة المنكوبين بعد الزلازل التي أحدثتها تفجيرات الاحتلال الجبان، الذل لم يرحم المدنيين.
وقتها، أي في ظل تقديم المساعدات العالمية لقطاع غزة، سيكون هناك مجال للحديث عن الاشتباك السياسي.
أن يدعم العالم حكومة فلسطينية غير منقطعة عن خيارات شعبنا، يعني تسهيل الإغاثة والبناء والإعمار، حيث سيكون لقطاع غزة أولوية قصوى، بل بالأحرى، وحتى يكون ذلك أكثر تسهيلا، ينبغي عمل هيئة حكومية فلسطينية مخصصة لتعمير غزة التي تم هدم جزء واسع منها، كما أن البنية التحتية تضررت الى حد كبير.
البدء المبكر، سيمنح فرصة استعادة المدينة، وبالاستعانة بخبراء تخطيط المدن، سيتم رسم كل منطقة في قطاع غزة:
– إحصاء أصحاب البيوت المهدمة وتلك التي بحاجة الى ترميم.
– بناء مخيمات في الفضاءات المناسبة، على أن يتم مراعاة مساكن مؤقتة تحتمل البرد والجر.
-عمل معسكرات إعداد وجبات طعام لمن هم خارج بيوتهم.
– إعادة الأمل للأطفال بترميم المدارس، وعمل مدارس مؤقتة.
– ترميم البيوت التي يمكن ترميمها فعلا، وفحص البنية التحتية.
– وغير ذلك مما يقتضي الحال.
لكل مقام مقال، واليوم، فإن يتم الحديث السياسي عن المستقبل لن يكون ذا معنى، ولن يكون له قبول، ما لم يتم مراعاة حال المنكوبين.
مبكر جدا الحديث عن تقييم الحال، وإن صار ولا بدّ من مساءلة، فإن النبل يقتضي منا جميعا الاعتراف بمسؤوليتنا، كلنا مسؤولون، وكلنا مطالبون بالعمل كما تقتضي المسؤولية.
أن تكون القلوب على بعضها بعضا، وأن تكون العقول باتجاه صفتها العقلانية، فإن ذلك يعني النبل المكتمل إنسانيا ووطنيا.
إن اتفقنا وإن اختلفنا، فإن الوطن أرضا وشعبا يجمعنا لتحمل المسؤولية، ولا ضرورة في هذه المرحلة أن نشغل شعبنا بأمور ليست ضمن أولوياته. وباستطاعتنا جميعا التعاون، فلدينا تجارب في ذلك، ولدينا الشرعية، ولدينا ما كان من قبل، ومن بعد؛ فالهيكل الإداري موجود ويمكن تقويته، ولن يكون هناك اختلاف على البناء.
لنصغ الى ذواتنا أولا، فنحن هنا وهناك في الوطن الجريح الواحد نعرف ما الذي يجب فعله وما الذي يجب تركه.
المأساة كبرى لا كبيرة، قد يخفف منها هزيمة الجيش الذي يقهر، والذي تم قهره على الأرض فعلا، ولكن هذا لا يمنع من التركيز على ما نحتاجه للبقاء، والذي حتى يتحقق فعلا، فإنه يحتاج أن نمده باستمرار أسبابه.
هناك فرص مهمة يجب الآن التقاطها، ونحن بحاجة لها، المواطنون والمقاتلون على السواء، وهي التي تجنب شعبنا خطر الوصاية.
"عدنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر"، تلك عبارة الآن موعدها، حتى لا ننشغل بخلافاتنا التي من المفروض أننا تجاوزناها.
من الواضح والأكيد أن الأمور ما بعد الحرب على غزة، لن تكون كسابق عهدها، والظن أن جدية العالم ممثلا بالدول الكبرى، باتجاه تسوية سياسية عمادها قيام دولة فلسطينية، هو ظن حسن، لكن مسؤوليتنا هنا هي جعل ذلك حقيقة، وعدم منح إسرائيل فرصة الانتقاص من حل الدولتين، علما أن العقلانية العالمية اليوم صارت ترى الأمور من زوايا أخرى، تقوم على أسس أكثر متانة وديمومة.
كل تركيز العقل والقلب والكلمات الآن على غزة وفيها، ليس من الفلسطينيين فقط، بل من الأشقاء والأصدقاء، بل أن حلفاء الاحتلال يبحثون عما يفعلونه بعد سوء ما فعلوا من دعم للاحتلال، أو سوء ما لم يفعلوا من وقف الحرب.
يستغرق البناء سنوات طويلة، لكن هل هناك من ورشة عالمية تقصّر من فترة إعمار قطاع غزة خاصة في الشمال؟ لقد تطورت البشرية في إقامة التجمعات المدينية، فلعل ذلك يتم في فلسطين في وقت قياسيّ، خاصة في ظل التمويل المتوقع.
وليس الإعمار متوقف على العمران، بل على الأرض الزراعية، التي تعرضت لتجريف في معظمها، والتي تحتاج الى ترميم، وزراعة. إن هناك حاجة ماسة لفحص الفضاءات الزراعية خاصة القريبة من حدود قطاع غزة، مع فلسطين المحتلة عام 1948، للاتفاق على ترتيبات تضمن أمن الزراعة والمزارعين. لقد ضاعت عدة مواسم زراعية خلال هذه الحرب، ولعل موسم الفراولة الجميل قد ضاع فعلا. كان من المفترض أن يكون الآن.
مأساة قطاع غزة المسلوب تقريبا نصفه (ما يقارب 200 ألف كليو متر مربع)، ما بعد هدنة عام 1948، تعني أنه لا يمكن أبدا الانتقاص من أرضه، فلا مناطق أمنية مزعومة، بل مناطق زراعية، لتأمين ما يمكن من طعام.
استئناف الحياة، استئناف تفاصيل الحياة هو ما يحتاجه "الغزازوة" لا ما ينتقص منها، ولنا جميعا أن نبحث عن أدوارنا في إعادة نبض الحياة.
أسئلة الخدمات تتلو سؤال الأمن والأمان، وثمة مسؤولية عربية ودولية على ضمان وقف إطلاق النار، وعدم قيام سلطات الاحتلال بضربات مرة أخرة تحت أي مبرر.
خدمات الصحة والتعليم وما يتعلق بالبنية التحتية، ممكنة التحقق مع البدء بإجراءات التعمير، فليس أمام الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الا تعمير البيت.
للمشكلة السياسة البينية طرق حلها، وهي سهلة حيث لا بد من صفو النوايا، أما الاشتباك مع الاحتلال، فقد صار لزاما حله، فلعل العالم اقتنع بأن السلام يبدأ فعلا من فلسطين والحرب تبدأ من فلسطين، والملاحة في البحر الأحمر دليل ساطع.
كل الظروف مهيأة للحلول السياسة، في ظل فشل الحل العسكريّ الإسرائيلي العملي الآني، والاستراتيجي غدا.
يمكن لنا جميعا في فلسطين، وفي بلادنا العربية، التقاط هذه الفرص، للبناء عليها، باتجاه حق تقرير المصير، وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.
إن الإبداع في التحرك السياسي، وما يواكبه من تحرك إغاثة غزة وتعميرها، سيكون في طريق الوفاء لشهدائنا الأبرار، بالاستناد الى الوحدة الوطنية خيار شعبنا، والتي نحن ماضون نحوها.