أمد/
تستمر اسرائيل في غرس أنياب غطرستها، وجوارح آليات حربها، في أشلاء أطفال ونساء غزة، وتُريق دماء أبنائها، بأبشع وأقذر همجيّة عرفتْها البشريّة بلا خوفٍ ولا وَجَل، في ظلّ صمت دوْلي وعالمي مريب، وكأن غزة قُدِّر لها أن تُذبَح قربانًا على معبد المحاور الإقليميّة وحرب التغيير العالمي المنشود .
لم يكتفِ العالم الذي ينشد السِّلم والأمن بتلك التضحيّات التي قدّمها الشّعب الفلسطيني على مدار ما يزيد عن سبعة قرون دفاعًا عن حقوقه السياسيّة كأقوى مُرافعة قانونيّة دوَّنها التاريخ في سجلّه الحديث أمام شريعة الغاب التي تحكُم عالمنا اليوم، والمستمرة في غَيِّها من خلال منح الاحتلال الغطاء القانوني للاستمرار في جرائمه، ومنحه الحق في أن يفعل كل ما في وسعه لضمان عدم تكرار حادثة السابع من أكتوبر، بما فيها البقاء في قطاع غزة إلى فترة ما، بمعنى منح الاحتلال إقامة منطقة عازلة في غزة، لاستنزاف مقوّمات صمود الشعب الفلسطيني، متجاهلًا عن قصد وإصرار أنّ القضيّة الفلسطينيّة لم تبدأ يوم السابع من أكتوبر وبالطبع لم تنتهِ عنده .
من نافلة القول الحديث عن فاشية دولة الاحتلال وعنصريّتها وبالأخص في ظل حكومة اليمين الأرثوذكسي المُتطرّف الذي يعتقد بأنّ التعايش مع الآخرين يكون فقط عندما ينصاعون إلى مبادئ التوراة وقوانينها، وفي هذا السّياق لم تنوِ إسرائيل يومًا القبول بدولة فلسطينية، حيث قال ديفيد بن غوريون "وجود دولة يهوديّة على جزء من الأرض ما هو إلا البداية"؛ كما وأعلن إسحاق رابين شريك اتفاقية أسلو أنه لن يمنح الفلسطينيين سوى "أقل من دولة"، وحَرص على عدم ذكر دولة فلسطينية أو الإشارة إليها في اتفاقيّة أوسلو وسائر الاتفاقيّات التي وقّعها؛ إضافة إلى دعوة نتنياهو بوقاحتِه السياسيّة إلى اجتثاث فكرة إقامة دولة فلسطينيّة، وعليه فإن محاولة التحالف الإسرو أميركي بتوسيع دائرة ارتدادات الحرب على غزة بفرض التهجير القسري أو القسري الناعم من خلال ما ترنو إليه اسرائيل من التخلّص من أي جسم سياسي فلسطيني تحت عنوان لا فتحستان ولا حماسستان، وتحميل اتّفاقية أوسلو أسباب أحداث السابع من أكتوبر، حيث يهدف من وراء هذه التصريحات إلى إطالة أمد الحرب بتسخين كافة الجبهات ليحوّلها إلى حرب استنزاف طويلة يراكم فيها الكارثة الإنسانية مستغلًّا النزاع حول ازدواجيّة التمثيل الفلسطيني، ليتمكّن من جهة إيجاد بديل فلسطيني يعطي شرعية للاحتلال، ويقضي على قضية اللاجئين وحق العودة عبر مظلة أممية، ومن جهة أخرى تحقيق أهدافه الشخصية بإطالة مدى حكومته للاستمرار في اخضاع نظام الحكم في اسرائيل للهيمنة اليمينية، وسعيًا لتبيض سمعته السياسية لدى الجمهور الاسرائيلي.
هذه المواقف السياسية الممْجوجة والمصحوبة بالقوّة الغاشمة التي يمارسها التحالف الإسروأميركي ضدّ الشعب الفلسطيني بهدف تقويض القضية الفلسطينية، والقضاء على نظامها السياسي، مردّها على ما يبدو أن صفقة القرن هي آخر مشروع سياسي تُقدّمه أميركا كنتيجة نهائيّة لإنهاء الصّراع العربي الاسرائيلي وإطالة العمر الوظيفي والاستعمالي لإسرائيل، ولأنّ فشلها لا يقتصر على الهزيمة العسكريّة بل سيؤدّي إلى إعادة إنتاج المنطقة برمّتها لتتهيّأ للتخلّص بنفسها من السرطان الاسرائيلي، وأيضًا يبدو أنّ هذه الحرب ستكون الأخيرة على قطاع غزة لأنها أثبتت أن غزة لم تكن قادرة لأن تقاتل وتحارب نيابة عن أحد، أو ترتدي قفازات القذارة، وغير قابلة أن تدفع فواتير تلك الإنابة، أو أن تكون منطلقًا لإعادة إنتاج نظريات ورؤى أيدولوجية، ومنزلقًا نحو سرديات هوياتيّة، أوغطاءً لأفكار عنصرية تحمل مشاريع سياسية للمنطقة.
على هذا النحو، لا بدّ من العودة إلى الثوابت الوطنية الفلسطينية ومنها طرح الدولة الديمقراطية الواحدة، عبر الالتفاف حول منظمة التحرير الفلسطينية كمُمثّل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني دون ضبابيّة أو اشتراطات نفقيّة، لكيْ نحمي النضال الفلسطيني من الطمس والشتات الناعم.
يتزامن الحديث عن منظمة التحرير وذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية، وكمراقب للشّأن الفلسطيني أظّن أنه لا يجانبني الصواب حين القول بأن المنظمة وعمود خيمتها حركة فتح ليستا بخير وليستا في أحسن أحوالهما، فهي تواجه خطر التغيير وازدواجيّة التمثيل بعد مرحلة التغييب التي طالت أمدًا بعيدًا، فالبيئة السياسية الحاضنة لمرحلة الانطلاق، لم تعد تلك البيئة، فلا الشّعارات الناهضة، أوالتعبويّة والشعبوية الجماهيرية عادت كافية للاعتماد عليها لمواجهة خطر التغيير والانزياح عن هدف التحرير.
لم يعُد من المقبول جماهيريًا من حركة فتح كونها المنشئة للنظام السياسي أن تبقى رهينة الانشطار التنظيمي، والإدارة الانتظاريّة، فأم الجماهير ورافعة العمل الوطني أوشكت على فقدان حاضنتها الشعبية إن لم تكن فقدتها فعلًا، هذه المرحلة لا تقبل وضع الرأس في الرمال كالطغام، بل تتطلب حركة فتحاوية ناهضة جديدة تعمل على تحسين الصورة السلبية والأداء الحزبي الوطني، وإعادته إلى سياق العمل الجمعي بإحساس الأم الحقيقية وذلك بتقديم القواسم المشتركة داخليًا وفصائليًا على الحسابات المخطوءة والمصالح الحزبيّة المَقيتة، وفي تقديري كمُراقب النهضة الفتحاوية في سياقِها الوطني مُمكنة، إنْ توفّرت الإرادة والرغبة للاستمرار في قيادة حركة التحرر الوطني، فلا نجاح ممكن في حيز من الفراغ أو الاعتماد على الرصيد النضالي والسياسي في ظلّ الأمواج العاتِية المتربّصة بالشعب الفلسطيني.