د. مصطفى يوسف اللداوي
أمد/ جَرفَ طوفان الأقصى الهادر العدو الإسرائيلي وأغرقه، وصدمته المقاومة وأربكته، وهالته الخسائر وأرعبته، فخرج عن طوره وفقد أعصابه وبانت حقيقته وبرزت عيوبه، وعرف العالم نقائصه وأدرك طبيعته، حيث أظهر الطوفان الفلسطيني ضعفه الأخلاقي وخواءه القيمي، وكشف عن مدى انحطاطه وسوداوية أفكاره ودونية سلوكياته.
ودفع مسؤوليه وقادته، ورموزه وعامة مستوطنيه، الذين راعهم ما حدث وهالهم ما أصابهم، إلى نزع القناع الذي غطوا به وجوههم، وخدعوا به أنفسهم وغيرهم، وزوروا به حقيقتهم، وزينوا به سوء أخلاقهم وعنصرية سياساتهم، فعبروا بتلقائيةٍ عن معتقداتهم، وأعلنوا بصفاقةٍ عن مخططاتهم، وأطلقوا العنان لنعوتهم وأوصافهم، التي يتعالى عليها الحضاريون، ويربأ بنفسه عن مثلها الإنسانيون.
لم يستطع الإسرائيليون امتصاص الحدث أو الصمود أمامه، ولم يتمكنوا من استيعابه وتحدي تداعياته، فكشفوا بسرعةٍ في سرديةٍ مُختَلَقةٍ كاذبةٍ، وروايةٍ مُظَلِّلةٍ مُظَلَّلةٍ، عن ظلامية معتقداتهم، ودموية مخططاتهم، وعنصرية سياساتهم، وعادوا بالأحلام إلى نصوص توراتهم ووصايا تلمودهم، التي تدعو إلى قتل الأطفال قبل المحاربين، والنساء كما الرجال، وإبادة السكان وتدمير بيوتهم، وحرق الأشجار وقتل البهائم والدواب، وإعمال السيف وقطع الرقاب، وعدم الالتفات إلى دعوات التهدئة وضرورة ضبط النفس، وعدم الاهتمام بالشكاوى الدولية أو الإصغاء إلى النصائح والتوجيهات المختلفة.
إلا أن قادة دول العالم وحكوماتها قد أصموا آذانهم واستغشوا ثيابهم، وكأنهم لم يسمعوا شيئاً يعيبونه، وأصروا على تصديق رواية الكيان ونشروها، واستكبروا الخضوع للحق واستعظموا التراجع عن الباطل، وضاعفوا بمواقفهم المنحازة حجم الظلم وعمقوا الجرح الفلسطيني، وسكتوا عن التصريحات العنصرية أو أغمضوا العيون عنها، رغم أنها كانت صاخبةً ومدويةً، وصريحةً واضحةً، ولو أنها صدرت عن غير الكيان لضجوا بها ونددوا، واستنكروا دولها وشجبوا قادتها، ودعوا إلى مقاطعتها وفرض العقوبات عليها، إلا أن إسرائيل مبرأةٌ عندهم من كل عيب، ومغفورٌ لها كل ذنبٍ، ومعفوٌ عنها وغير مسؤولةٍ عن كل جرائمها.
فهذا وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو يدعو حكومته وجيش كيانه إلى “إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة، ولو أدى ذلك إلى مقتل الإسرائيليين الموجودين في القطاع”، والتي تعني الدعوة الواضحة والصريحة لإبادة سكان قطاع غزة، فضلاً عن الاعتراف الصريح بامتلاك الكيان الصهيوني لقنابل نووية، وجهوزيته لاستخدامها في أي وقتٍ وضد أي هدفٍ ولو كان مدنياً.
وكان وزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالانت قد وصف الفلسطينيين بــــ”الحيوانات البشرية” في معرض تبريره للحصار الخانق الذي فرضه جيشه على قطاع غزة وسكانه، “نفرض حصاراً كاملاً على مدينة غزة، لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونتصرف وفقا لذلك”، وكأنه بتصريحاته يبرر ارتكاب مختلف المجازر وعمليات الإبادة الجماعية ضد سكان قطاع غزة، ويجيز العقوبات الجماعية ضد الفلسطينيين، والتي تشمل الأطفال والنساء والمرضى والمسنين وعموم المدنيين.
كما أن حزب الليكود الحاكم، الذي يتزعمه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يؤمن بإبادة سكان قطاع غزة والتخلص منهم، وفق ما صرح به عضو الكنيست الإسرائيلي عن حزب الليكود ناسيم فاتوري، الذي دعا جيش كيانه إلى حرق قطاع غزة بالكامل، وحرق سكانه والتخلص منهم إلى الأبد.
ولا يتوقف وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير عن الدعوة إلى التضييق على الفلسطينيين وجعل حياتهم في الضفة والقطاع مستحيلة، وجعلهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة، تمهيداً لهجرةٍ طوعيةٍ أو قسريةٍ تفرض عليهم، وهو الذي دعا وما زال إلى إعدام الأسرى، ومصادرة حقوقهم وأملاكهم، وتحويلها لحساب المتضررين الإسرائيليين، ولعمليات توسيع وتطوير المستوطنات في القدس والضفة الغربية.
وقد رأى العالم كله مشاهد وصور الأسرى الفلسطينيين من قطاع غزة، بينما يسوقهم جنود الاحتلال إلى مراكز التحقيق والاعتقال، وقد نزعوا عنهم ثيابهم، وأجبروهم على القرفصاء لساعاتٍ طويلةٍ في أجواء البرد والمطر والصقيع، وقد استشهد عددٌ غير قليل منهم سواء جراء التعذيب والمعاملة القاسية، أو أثناء التحقيق وعمليات الإعدام والتصفية الميدانية خارج القانون.
لا تنطلي علينا أكاذيب رئيس الحكومة الإسرائيلية وبعض المسؤولين الإسرائيليين، الذين يسارعون إلى تكذيب التصريحات ونفيها، أو إعلان البراءة منها واستنكارها، والادعاء بأنها لا تمثل الحكومة ولا تعبر عنها، ولا محاولات إقصاء الوزراء أصحاب التصريحات المتطرفة عن جلسات الحكومة أو منعهم من التصويت والمشاركة في المداولات الحكومية، فهم جميعاً حكومةً وجيشاً وكنيست شركاء في هذه السياسة، التي تعبر عن حقيقة كيانهم وفلسفة وجودهم، ومخططات بقائهم، ولكنها أدوارٌ تُوزع، ومهامٌ تُقسم.