حسين الديك
أمد/
تبنت فرنسا الموقف الإسرائيلي منذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وتمثل هذا الموقف بإعلان الدعم المطلق لحكومة الاحتلال الإسرائيلي في كل ما تقوم به من أعمال عدائية تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، إضافة الى اتخاذ خطوات سياسية ودبلوماسية ضد الفلسطينيين تمثلت في موقف أوروبي أمريكي موحد الدعم لتأييد لعدوان، إذ وقعت على ما عرف بالبيان الخماسي الصادر حكومات دول بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية والذي اكد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس وتأييد عدوانها على الشعب الفلسطيني وإدانة ما قامت به المقاومة الفلسطينية في 7/10/2023م ، واتخذت موقف سياسي في مجلس الأمن الدولي مؤيد لإسرائيلي، وعملت على وقف كافة المساعدات المالية المقدمة للشعب الفلسطيني، ورفضت فرنسان في 27-10-2023م مشروع القرار الذي تقدمت به المجموعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي طالب بوقف اطلاق النار وحماية المدنيين ودخول المساعدات الإنسانية.
وتجلى الموقف الفرنسي من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في من خلال التصريحات والمواقف التي تبنتها كل من الرئاسة والحكومة والأحزاب في فرنسا، إذ كان هناك شبه إجماع من تلك الجهات على تأييد إسرائيل ودعم الرواية الإسرائيلية في بداية العدوان، وتمثل ذلك في موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، إذ دعا الى تشكيل تحالف دولي لمحاربة حماس على غرار التحالف الدولي الذي شكل لمحاربة تنظيم داعش في سوريا والعراق، وأكد على أن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وتحييد المجموعات التي ضربت شعبها، وكان وجود مواطنين يحملون الجنسية الفرنسية من بين الضحايا ومن بين المختطفين لدى المقاومة في غزة اثر كبير على تبني الرئيس الفرنسي لهذا الموقف المتشدد في بداية العدوان، وشدد على أن الإفراج عنهم هؤلاء المختطفين هو أولوية مطلقة بالنسبة لفرنسا، بل قام بالتغريد باللغة العبرية والفرنسية والإنجليزية على مواقع التوصل الاجتماعي للتعبير عن تضامنه وتعاطفه مع إسرائيل بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى وادان الهجمات الإرهابية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في غزة ضد أهداف إسرائيلية، وأكدت على هذا الموقف أيضا رئيسة الوزراء اليزابيث بورن عندما أدانت الإرهاب بكل أشكاله.
لم يتوقف الأمر على الرئيس الفرنسي ورئيسة الحكومة بل امتد الدعم والتأييد الفرنسي للعدوان على قطاع غزة الى الأحزاب الفرنسية إذ أكد رئيس حزب لجمهورين( أريك سيوتي) على ضرورة قطع المساعدات المالية عن الدول الكيانات الداعمة للإرهاب ، وجاء تصريح أمين عام الحزب الاشتراكي( اولفييه فور) حيث قال أن ما فعلته حماس لا يمكن وصفه بالمقاومة ، ووصف رئيس الحزب الشيوعي( فابيان روسيل ) اختطاف حماس للمدنيين بانه عمل غير مقبول وغير مبرر، ويعود هذا الموقف المؤيد للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة من قبل الأحزاب الفرنسية الى مؤثرين أساسين هما التأثير القوي لوسائل الإعلام في الراي العام الفرنسي وخاصة وسائل الإعلام التي تنتهج سياسة يمينية أو يمينية متطرفة، والربط بين ما قامت به حماس في 7/10/2023م وانتشار العداء للإسلام والمهاجرين في أوروبا وتنامي ما يعرف بظاهرة الاسلاموفوبيا في فرنسا، وقد شبه الرئيس ماكرون ما قامت به حماس ضد إسرائيل بالهجمات التي تعرضت لها فرنسا في السنوات الماضية، بل أصبحت فرنسا تنظر الى نفسها على أنها في تحالف مشترك مع إسرائيل لمواجهة التطرف والإرهاب الإسلامي.
كما وصرحت وزيرة الخارجية الفرنسة (كاترين كولونا ) أثناء زيارتها لإسرائيل أن حصيلة الفرنسيين الذين قتلوا في هجوم حركة حماس ارتفع إلى( 19 )قتيلًا و(13 )مفقودًا، حسب قولها، فيما اعلن وزير الجيش الفرنسي (سيباستيان لوكورونو) أن فرنسا تتعاون مع إسرائيل وتقدم دعما استخباراتيا لها، وان ذلك يأتي في اطار الشراكة بين الدولتين.
وحظرت الشرطة الفرنسية العديد من التجمعات السلمية والمسيرات المؤيدة للشعب الفلسطيني والمطالبة بوقف العدوان على قطاع غزة ومن هذه التجمعات حظر تظاهرات في مدينة مرسيليا وباريس بحجة الإخلال بالنظام العام ، وكان موقف الحزب اليساري الفرنسي(فرنسا المتمردة) الحزب الفرنسي الوحيد الذي يغرد خارج السرب و الرافض للعدوان على قطاع غزة والمؤيد للشعب الفلسطيني حاضرا، ولكن هاجمت رئيسة الوزراء الفرنسية (اليزابيث بورن) حزب “فرنسا المتمردة” واعتبرت أن معادات الحزب للصهيونية في بعض الأحيان وسيلة لإخفاء نوع من معاداة السامية، وصرح زعيم اليسار الفرنسي (جان لوك ملينشون) أن هجوم رئيسة الوزراء هو نوع من استغلال الحرب في غزة لمهاجمة الحزب، وان ما يحدث في قطاع غزة يؤكد على أن العنف ينتج المزيد من العنف وانه يجب على فرنسا العمل بشكل جاد من اجل إنجاز حل الدولتين وتحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
ولكن حظر التظاهرات لم يستمر طويلا بل عادت التجمعات السلمية والتظاهرات المؤدية للشعب الفلسطيني والداعية لوقف العدوان على قطاع غزة للخرج في الشارع الفرنسي وهذا بضغط الجاليات العربية والإسلامية اذ يعتبر الإسلام الديانة الثانية في فرنسا بعد الكاثوليكية ويبلغ تعداد المسلمين حوالي (7) مليون مواطن، وفي مقابل ذلك اعلن الاتحاد الأوروبي وقف المساعدات المقدمة للفلسطينيين وقدرها( 691 )مليون يورو سنويًا، في رسالة قوية من الاتحاد الأوربي للفلسطينيين كنوع من العقوبات الجماعية ردا على عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية في 7/10/2023م.
وتم إضاءة برج إيفل بالوان العلم الإسرائيلي ونظمت الجاليات اليهودية مسيرة كبيرة في باريس شارك فيها وزراء وسياسيين ورئيس بلدية العاصمة باريس، والاهم من ذلك أن زعماء المعارضة اليمينة في فرنسا اعلنوا عن تأييدهم المطلق لما تقوه به إسرائيل من عدوان على قطاع غزة واكدوا أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها تمثل ذلك في تصريحات رئيسة الجبهة الوطنية (ماري لوبان) و اليميني المتطرف (أريك زمور) واعتبروا أن إسرائيل هي ضحية لهجوم حركة حماس الإرهابية.
ولقد ساهمت الكثير من العوامل في تراجع الموقف الفرنسي عن الدعم والتأييد المطلق لإسرائيل في عدوانها على قطاع غزة، إذ كانت الدولة الوحيدة التي اختلف موقفها وتراجع من موقف مؤيد وداعم للعدوان ويرفض اطلاق النار الى موقف يدعو الى وقف اطلاق النار وحماية المدنيين، وهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي صوتت لصالح قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2712) من الدول التي تمتلك حق النقض الفيتو حيث صدر تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة والذي طالب بالهدن الإنسانية واطلاق سراح المخطوفين، من اهم تلك العوامل حجم الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان واستهداف المدنيين من الأطفال والنساء في قطاع غزة و التحركات الشعبية والجماهيرية في الشارع الفرنسي التي طالبت بوقف العدوان على الشعب الفلسطيني ، إضافة الى الدور الذي ترغب فرنسا بالقيام به في قيادة الاتحاد الأوروبي بما تثمله من قوة عسكرية وسياسية في نوع من الاستقلالية والتمايز عن الهيمنة الأنجلو أمريكية على القرار الأوروبي، فالاتحاد الأوروبي القائم على أساس القوة السياسية والعسكرية ومركز الثقل الذي تمثله فرنسا كونها الدولة الوحيدة في الاتحاد الأوروبي التي تمتلك عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي ولها حق النقض الفيتو، إضافة الى القوة الاقتصادية الألمانية التي تعتبر مركز الثقل الاقتصادي الأوروبي.
ويظهر التراجع في الموقف الفرنسي أيضا من خلال الرسالة التي وجهها عدد من الدبلوماسيين الفرنسيين في الشرق الأوسط للرئيس ماكرون ينتقدون فيها موقف بلادهم من الصراع في قطاع غزة وان الموقف الفرنسي لبلادهم مما يجري في قطاع غزة يعتبر خروجا عن الموقف الفرنسي التقليدي من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي يوصف بالتوازن مما يؤدي الى خسارة فرنسا المزيد من مصداقيتها في العالم العربي والإسلامي وينمي خطاب الكراهية ضد الفرنسيين وقد يؤدي الى تعرض المصالح الفرنسية في منطقة الشرق الأوسط للخطر.
وفي تجسيد واضح لتراجع الموقف الفرنسي من دعم تأييد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بدا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يطلق تصريحات تدعو الى وقف إطلاق النار العمل الجاد من اجل تحقيق حل الدولتين ويدعو إسرائيل الى تجنب استهداف المدنيين الفلسطينيين، وعلى الرغم من ذلك مازالت فرنسا تصنف حركة خماس بانها منظمة إرهابية واعتبرت فرنسا ما حصل في 7/10/2023م عملية إرهابية.
وأثناء زيارة وزير الخارجية الأمريكية الى إسرائيل طالبت وزارة الخارجية الفرنسية توضيحات بشان ما قامت به إسرائيل من تدمير للمعهد الفرنسي في غزة في تاريخ 1-11-2023م ، وأدانت ما تنفذه إسرائيل من هجمات على مواقع مؤسسات الأمم المتحدة والطواقم الطبية والمدنيين ووسائل الإعلام والصحافيين. وجاء إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون عن الدعوة الى مؤتمر إنساني بدعوة المانحين من اجل تقديم المساعدات للفلسطينيين كخطوة هامة على التحرك الفرنسي المستقل عن السياسية الأنجلو أمريكية واكد على أما مكافحة الإرهاب لا تبرر استهداف المدنيين في إشارة الى ما ترتكبه إسرائيل من جرائم بحق المدنيين والمشات المدنية في قطاع غزة.
قامت وزيرة الخارجية الفرنسية بتاريخ 5/11/2023م بجولة دبلوماسية في المنطقة العربية وزارت كل من قطر والإمارات وصرحت أن أهداف الزيارة هي التوصل الى هدنة فورية للحرب وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية الى قطاع غزة، والعمل على تهيئة الظروف لتحقيق حل عادل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يستند الى حل الدولتين مما يمهد الطريق للسلام والاستقرار في المنطقة. وهنا يتضح الموقف الفرنسي بانه الموقف الأول الذي يتحدث عن حل سياسي وليس عن موقف إنساني فقط وهذا يعتبر تمرد على السياسية الانجلو أمريكية وما يدور في فلكها من موقف المانية وإيطالية داعمة لها.
لقد تمثل الموقف الفرنسي التقليدي المتوازن من الصراع العربي الإسرائيلي عن المواقف الغربية في السابق وتمثل عدد من المحددات أهمها الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعودة لحدود 4/6/67 وتبادل أراضي بنفس المساحة عند الضرورة، و حل عادل لكل اللاجئين الفلسطينيين، والقدس عاصمة للدولتين، وقد صوتت فرنسا بتأييد قرار الأمم المتحدة رقم (242) الداعي لانسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة في العام 1967م ، وصتت أيضا لصالح قبول عضوية فلسطين كعضو مراقب في هيئة الأمم المتحدة في العام 2012م وصوت لصالح قرار مجلس الأمن الدولي رقم (233) لسنة 2016م والذي يطالب إسرائيل بوقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولكن الموقف الفرنسي بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى كان منحازا بشكل كبير الى جانب الاحتلال الإسرائيلي ومثل خروجا عن الموقف الفرنسي التقليدي من الصراع، ورغم التراجع الذي حصل بعد عدة أسابيع من العدوان إلا أن الانحياز للموقف الإسرائيلي ظل واضحا وظاهرا بشكل كبير.
إن التحول في الموقف الفرنسي من موقف داعم وبشكل مطلق لعدوان الاحتلال على قطاع غزة الى موقف اقل توازنا والعمل بعقلانية اكثر وبشكل يتميز عن الموقف الأنجلو أمريكي وعن الموقف الإيطالي والألماني للعدوان الإسرائيلي يعود الى الكثير من الأسباب منها يعود الى موقع فرنسا في الاتحاد الأوروبي إذ تحاول الظهور بمظهر متميز عن الموقف الأمريكي والإنجليزي من جه ، ومن جه أخرى يعود الى عوامل بنيوية داخل المجتمع الفرنسي تتعلق بتحركات المعارضة الفرنسية ووجود جالية إسلامية كبيرة في فرنسا ووجود جالية يهودية إذ تعتبر فرنسا ثالث اكبر تجمع لليهود في العالم بعد إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فهي تخشي من انعكاسات موقفها من العدوان على قطاع غزة الى حدوث مواجهات في الشارع الفرنسي وتصاعد خطاب الاسلاموفوبيا والذي يستخدمه اليمين الفرنسي دائما في حملاته الانتخابية ضد الأحزاب الأخرى، وخشية حدوث مواجهات بين المسلمين واليهود في فرنسا.
صحيح انه حدث تراجع في التأييد الفرنسي المطلق للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ، ولكنه في نفس الوقت بقي مؤيدا لإسرائيل وسياساتها العدوانية في الشرق الأوسط، ولكن بدرجة اقل من حلفائها الأوروبيين وخاصة المانيا وإيطاليا وبريطانيا وهذا يعود الى علاقة المصالح المشتركة بين الجانبين سواء كانت مصالح اقتصادية أو سياسية أو عسكريه أو جيوسياسية.
يمكن وصف الموقف الفرنسي حتى الآن انه لم يتحرر بشكل مطبق من التبيعة الأنجلو أمريكية بل انه يدور في فلكها بشكل واضح ولكن بطريقة اقل فاعلية، وغير قادر على احدث قطب سيساي أوروبي ومحوري يتميز عن الموقف الأمريكي والبريطاني وخاصة أن فرنسا منيت في السنوات الأخيرة بهزائم كبيرة في القارة الإفريقية وتراجع نفوذها لصالح النفوذ الروسي والصيني ، وهي في نفس الوقت بحاجة الى دعم الأمريكيين والبريطانيين في مواجهة الروس والصينيين في الكثير من القضايا الدولية والإقليمية ، فهي مقيدة بحكم موقفها وعلاقاتها السياسية.
لذلك سوف يستمر الموقف الفرنسي بحالة الضعف وعدم القدرة على اتخاذ مقف مستقل عن الموقف الأمريكي والبريطاني خاصة من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بل ويتماهي مع تلك المواقف تارة ويتخذ موقف أكثر توازنا وعقلانية تارة أخرى ولمنه لا يشكل خالة من التمرد السياسي عن الموقف الأمريكي والبريطاني كما هو الحال في الموقفين الروسي والصيني.