د. حسن العاصي
أمد/ أعادت الحرب العدوانية على غزة مسلمي أوروبا، الذين يبلغ عددهم خمس وعشرون مليون نسمة، إلى دائرة الضوء من جديد. إن المناقشات المرتبطة بالمسلمين باعتبارهم خطراً أمنياً تصل دائماً إلى درجة عالية من الضجيج بعد وقوع عمل إرهابي مستوحى من الفكر الإسلامي في إحدى البلدان الأوروبية، أو إن شهدت منطقة الشرق الأوسط تداعيات نتيجة الحروب.
يرى بعض مسؤولو الأمن الأوروبيون خطراً متزايداً لشن هجمات يشنها إسلاميون تحولوا إلى التطرف بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس. ومن المرجح أن يأتي التهديد الأكبر من مهاجمين “ذئاب منفردة” يصعب تعقبها. في ذات الوقت الذي تُوجه فيه اتهامات للمسلمين في أوروبا أنهم يتطلعون إلى أسلمة المجتمع.
فيما يبدي الزعماء المسلمون في أوروبا قلقهم من الزيادة في الهجمات على المسلمين والمساجد منذ غارة حماس في السابع من أكتوبر، ويصفون مناخ الخوف بأنه مؤسف مع انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت. ويشعر الكثير من المسلمين بالغضب من ضراوة الهجوم الإسرائيلي، حيث يعتبرون أن على الحكومات الأوروبية أن تفعل المزيد لكبح جماح إسرائيل. وأثارت زيارات الزعماء البريطانيين والفرنسيين والألمان وغيرهم من قادة أوروبا لإسرائيل، غضب المسلمين المقيمين في أوروبا، من انحياز أوروبا للموقف الإسرائيلي، ومن اللغة المستخدمة في الخطاب، التي تخلق شعوراً بـ”نحن وهم”.
اتهامات زائفة
إن المناقشات المتوترة حول مكانة الإسلام في أوروبا والادعاءات بأن المسلمين الأوروبيين هم جنود في مواجهة وجودية بين أوروبا والإسلام، ويمثلون “آخر” من المستحيل اندماجه، كانت تلاحق المسلمين في جميع أنحاء القارة لعقود من الزمن.
فالخطاب حول “أسلمة” أوروبا المزعومة يتم تأجيجه من قبل الأحزاب اليمينية الشعبوية الكارهة للأجانب، وتم تبنيه من قبل العديد من الساسة الأوروبيين الرئيسيين أيضاً.
ويناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم “الأوروبية”، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظراً للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالباً إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين. إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. إن مناخ الشك المتبادل يشكل تقويضاً لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب.
إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين “غير حقيقيين” إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضاً ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضاً الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.
في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في – وفي بعض الحالات تغذيتها – آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.
أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل “فيدس” في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا. أصبحت هذه الأحزاب في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.
مشكلة الإسلام في أوروبا
يرى الأوروبيون أن قضيتي اللاجئون وعضوية تركيا المحتملة في الاتحاد الأوروبي تشكلان مشكلتان حاسمتان تعوقان تطور هوية الاتحاد الأوروبي. ــويمكن إرجاعهما إلى التصورات السلبية للإسلام. لماذا يعتبر الإسلام مشكلة؟ ماذا نعني عندما نتحدث عن القضايا المتعلقة بالإسلام؟ هذا النقاش يخلق مشاكل في معظم دول الاتحاد الأوروبي. ويكمن وراء كلا النقاشين السؤال المركزي للغاية المتعلق بالهوية الأوروبية وعلاقتها بالإسلام.
تنظر عدة مجموعات مختلفة في أوروبا إلى الإسلام باعتباره مشكلة تثير قلقاً بالغاً. ويشعر آخرون بعدم الارتياح الشديد عند الربط المباشر بين كلمتي “الإسلام” و”المشكلة” لأنهم يخشون إصدار تعميم غير عادل يؤدي إلى نفور فئة في المجتمع يعتبرونها ضعيفة بالفعل.
لكن إخفاء المشكلة لا يحلها. إن التردد المستمر لبعض للسياسيين الأوروبيين لا يساعد على إيجاد حلول لكثير من المشاكل في بلدانهم، مثل ضعف المشاركة الاجتماعية، وعدد الشباب الذين يتركون المدارس الثانوية، والعنف، والتعصب الديني المتشدد بين الأشخاص ذوي الخلفية الإسلامية.
هذا لا يعني أن المشاكل المذكورة أعلاه يتم حلها فقط من خلال توضيح كيفية الارتباط بين الإسلام وبعض المشاكل الاجتماعية. يمكن تقسيم الأسباب التي تجعل الإسلام يبدو مزعجاً للبعض إلى ظروف قصيرة المدى وطويلة المدى على التوالي. والأكثر إلحاحاً هو الخوف من أعمال العنف الخالصة التي تُرتكب باسم الإسلام. مصطلح الإرهاب ينشر الشعور بعدم اليقين والخوف بين مجموعات كبيرة من المواطنين الأوروبيين.
إضافة إلى الخوف من العنف الصريح، يبدو أن هناك قلقاً كبيراً لدى الكثير من الأوروبيين بشأن الحركات الاجتماعية والدينية والسياسية الإسلامية في جميع أنحاء أوروبا الغربية. حيث تُوجه لهذه الجمعيات والمنظمات اتهامان بأنها تعمل بالتوازي مع الشبكات الإرهابية وعادة ما تعمل من خلال الدعوة “أئمة الصلاة والدعاة” المكلفين بنشر الرسالة “المتطرفة” للإسلام السياسي.
تشكل هذه الحركات القوى المهيمنة وراء انتشار الأصولية الإسلامية في أوروبا المعاصرة. بشكل عام، هذه المنظمات ليس لديها برنامج يعتمد العنف، لكن يعتبر الأوروبيين أن العديد من الشباب المسلمين يمرون عبر هذه الجماعات في طريقهم إلى التفسير المتطرف والمتشدد للدين الإسلامي.
هذه الجماعات متهمة بأنها توفر أرضاً خصبة للإرهابيين الجدد، لكن أجهزة المخابرات تفشل في اختراقها بشكل كافٍ. تشير التقارير الواردة من أجهزة الاستخبارات في العديد من دول أوروبا الغربية إلى كيفية عمل هذه الشبكات كملاذات آمنة، فداخلها يعيش العداء تجاه المجتمع الغربي بشكل واسع لدرجة أنه يتم التسامح مع الإرهابيين المحتملين ولا يتم توبيخ أفكارهم بأي شكل من الأشكال.
مخاوف مماثلة
وعلى نحو مماثل، هناك مجموعة واسعة من المخاوف الملحوظة طويلة الأجل. أولاً يثير التعليم الإسلامي في المدارس الإسلامية الخاصة في البلدان الأوروبية العديد من المخاوف. تضم هذه المدارس تركيزات عالية من الطلاب المحرومين، سواء بالمعنى الاجتماعي أو الاقتصادي أو من حيث المهارات اللغوية. وتشتبه السلطات الأمنية في البلدان الأوروبية أن بعض هذه المدارس على الأقل، وخاصة تلك التي تتمتع بتعاون وثيق مع المساجد القريبة، هي أرض خصبة محتملة لمجموعات كبيرة من الطلاب المتشددين المناهضين للغرب. وفي هذا السياق، غالباً ما يُنظر إلى دور الشخصيات الدينية في مجالس المدارس على أنه مثير للإشكالية.
ويُنظر أيضاً إلى تشكيل الأحياء الفقيرة وأسلمة بعض المناطق الحضرية على أنه مشكلة مثيرة للقلق. تشير الاتجاهات في التركيبة السكانية إلى أن هذا النوع من العزلة التي أدت إلى قيام تجمعات سكانية موازية يقطنها اللاجئين والمهاجرين سيستمر. وهذا الشكل الواضح من الفصل العرقي والثقافي يمثل مشكلة. في البلدات والقرى والمقاطعات التي يهيمن عليها الإسلام، يمكن أن يؤدي ذلك إلى أن تصبح أجزاء من الشريعة الإسلامية جزءًا من الممارسة اليومية للسكان، حتى لو لم يتم سن تشريع رسمي لهذا الشأن.
أصبحت مثل هذه الجيوب ذات الأغلبية المسلمة في أوروبا الغربية، مرئية على مدى العقدين الماضيين، وتحولت إلى مصدر للقلق للسلطات والسكان. يمكن العثور على هذه التجمعات الإسلامية في مدن مثل باريس، ولندن، وبروكسل، وأمستردام، وبرلين، وكوبنهاغن، ومالمو، وغيرها من المدن الأخرى. حيث حدثت/ وتحدث بالفعل عملية أسلمة غير رسمية. توقفت كثير من محلات السوبر ماركت عن بيع لحم الخنزير والمشروبات الكحولية، وأصبح ذبح الأغنام نشاطاً رسمياً. وتظهر السيطرة الاجتماعية مرتفعة بشكل لا يصدق بين المسلمين، الذين يشكلون ثلثي العدد الإجمالي للسكان في مدينة “إيفري” الفرنسية على سبيل المثال.
وعلى الرغم من عدم إضفاء الطابع المؤسسي عليها رسمياً، إلا أن الشريعة هي السائدة في هذه المناطق، وليس الدستور العلماني. وتشعر فئات كبيرة من المجتمع بالقلق بشكل أساسي من الظهور التدريجي لهذا النوع من التركيز داخل الدولة، حيث تملي قواعد وقيم أخرى غير تلك القيم المتسامحة والديمقراطية السلوك الاجتماعي.
تشكل كراهية الأجانب في مختلف أنحاء أوروبا الغربية أساساً آخر للخوف من الإسلام. وعلى عكس أسباب الخوف الأخرى، فإن هذا النوع ليس له أساس تجريبي. على الرغم من أن أعضاء الجماعات التقليدية التي تكره الأجانب لم يكن لديهم في كثير من الأحيان سوى اتصال ضئيل، أو معدوم بالإسلام، أو المسلمين، أو المهاجرين من أي نوع، إلا أنهم يتخذون مواقف سلبية للغاية تجاه أي مجموعة ذات خلفيات ثقافية أو أصول عرقية مختلفة. وبالإضافة إلى الإسلام، يمكن أيضاً توجيه عدائهم تجاه الأقليات الأخرى مثل الغجر، أو حتى مواطني دولة مجاورة.
من الواضح أن هذه الجماعات تثير الخوف بين السياسيين الراسخين، ويرجع ذلك جزئياً إلى خطابها وأحياناً لأن استخدامها للرموز يثير الارتباط بالفاشية والنازية. وتخلف أفكارهم الدنيئة تأثيراً معطلاً على المناقشة حول المهاجرين والإسلام، وذلك لأن الساسة وصناع الرأي الفاعلين يخشون أن تكون العواقب السلبية المترتبة على الهجرة والإسلام، بمثابة تفضيل للتيارات اليمينية الأوروبية المتطرفة. لذلك يجد عدد من الأوروبيين أنفسهم في طريق مسدود.
إن قضية الهجرة، وانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي هي في الأساس قضية تثير التساؤلات حول الهوية بين شعوب أوروبا. ومع ذلك، فإن التساؤلات حول العلاقة بين الإسلام وأوروبا لم تُثار من قبل النخب التي تخشى أن يؤدي فتح مناقشة عامة حول قضايا الهوية إلى ردود فعل عكسية إسلامية ومحلية. ولكن إذا تم تجاهل المشكلة، فإنهم يخلقون فراغاً كبيراً وخطيراً في الهوية، وهو ما يؤدي إلى تعزيز كافة أشكال التعصب الأصولي. تتطلب الديمقراطية نقاشاً مفتوحاً حول القضايا الحساسة. إن الفشل في مناقشة الهوية الأوروبية والإسلام من شأنه أن يقوض الثقة في استجابة الحكومات ويؤدي إلى عجز خطير في الديمقراطية والهوية، الأمر الذي يهدد بإضعاف الاتحاد الأوروبي في وقت مهم من تاريخه إذا لم يتحرك على هذا النحو.
هل يتحدى الإسلام أوروبا؟
يعتبر كثير من المنظرين الغربيين أن الغرب يخوض معركة ثقافية مع المهاجرين المسلمين، حيث إن للثقافة جذوراً في الدين، وبالتالي يمكن للإسلام أن يخلق فوضى ثقافية في أوروبا.
هل يمكن دمج المسلمين في أوروبا، وهل ينبغي توسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل الدول الإسلامية؟ هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان يشكلان أساساً لنقاش العديد من المفكرين الغربيين الذين ينتقدون بشدة سياسات الهجرة الأوروبية.
كتاب “الإسلام كتحدي في الاتحاد الأوروبي: الفوضى الثقافية على الطريق؟” Islam som udfordring i EU : kulturkaos på vej? للكاتب الدنمركي “بول أندرسن” Poul Andersen يشكل مساهمة جدلية ومهمة في المناقشة الدائرة حول الهجرة والتنمية الاجتماعية، لأنه يركز في الأساس على الثقافة باعتبارها شيئاً أساسياً للتماسك في أوروبا. في عصر العولمة والعابر للحدود، حيث أصبحت الديمقراطية وحقوق الإنسان في كثير من الأحيان الأساس المشترك الوحيد لتعاون الاتحاد الأوروبي. تشير العديد من المساهمات إلى أن الثقافة الأوروبية – وبالتالي المسيحية أيضاً- هي قضية مهمة في التنمية لمستقبل أوروبا.
يذكر بول إريك أندرسن في فصله التمهيدي أن مستقبل سكان أوروبا الأصليين مهدد ولا يمكن التنبؤ به إذا لم تأخذ التنمية في الاعتبار حقيقة أن الثقافة الأوروبية متجذرة في المسيحية. ويشير إلى أن الأنثروبولوجيا الثقافية الكلاسيكية نظرت إلى الثقافة باعتبارها بُعداً محدداً يجب فهمه من خلال المجتمع الوطني، الذي تم إنشاؤه من خلال اللغة والتاريخ والدين. اليوم، أصبحت المفاهيم الثقافية الثابتة نسبية، ولهذا السبب ليس من المشروع الادعاء بأن بعض المواقف أو التقاليد أفضل من غيرها. ويشير إلى أن انتقادات الحضارة في الغرب، والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قوضت الثقة وفهم التراث الثقافي الكلاسيكي، مما جعل السكان الأوروبيين غير مستعدين لهجرة المسلمين. “فقط إذا أمكن توحيد هذه القيم في هدف مشترك، ستتمكن أوروبا من حل المشاكل الناجمة عن الهجرة”، كما يعتقد ويشير إلى أنه من الضروري لأوروبا تعزيز هويتها الثقافية.
ومن بين المنظرين وجهات نظر معروفة لمعارضين معروفين للهجرة والاتحاد الأوروبي. مثل الفيلسوف الدنمركي “كاي سورلاندر” Kai Sørlander الذي يشير في كتاباته المثيرة، إلى الصعوبات التي يواجهها الإسلام مع الديمقراطية من خلال التعمق في جوهر الدين. لقد تم بناء الإسلام، على النقيض من المسيحية، كدين دولة مع فكرة مركزية مفادها أن الدين هو مصدر التشريع. ولذلك، لا يوجد في الإسلام طريق داخلي لعلمنة السياسي، ولهذا السبب تواجه الثقافات الإسلامية مثل هذه الصعوبة في تطوير الديمقراطيات، كما يقول.
وفي كتابه “الدفاع عن العقلانية: الدين والسياسة من منظور فلسفي” Forsvar for rationaliteten: religion og politik i filosofisk perspektiv يرى “سورلاندر” أن المسيحية لعبت دوراً مهماً في تطوير الديمقراطيات العلمانية وحقوق الإنسان المستقلة عن الدين في العالم الغربي. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى حقيقة أن المسيحية – على النقيض من الإسلام – لديها تقليديا فصل واضح بين السياسة والدين “أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” وبالتالي فإن إمكانات العلمنة أكبر داخل المسيحية.
هل هذا هو موت أوروبا؟
يؤكد الكاتب البريطاني المعروف “دوجلاس موراي”Douglas Murray في كتاب “الموت الغريب لأوروبا: الهجرة والهوية والإسلام” The Strange Death of Europe: Immigration, Identity, Islam الذي صدر عام 2017، أن الحضارة الأوروبية كما كانت تاريخياً لن تستمر. ويستكشف عاملين في تفسير ذلك: الأول هو الجمع بين الهجرة الجماعية للشعوب الجديدة إلى أوروبا مع انخفاض معدلات المواليد. والثاني هو ما وصفه موراي بأنه “حقيقة أنه في الوقت نفسه فقدت أوروبا إيمانها بمعتقداتها وتقاليدها وشرعيتها”.
عنوان الكتاب مستوحى من كتاب “جورج دانجرفيلد” George Dangerfield الكلاسيكي للتاريخ السياسي “الموت الغريب لإنجلترا الليبرالية”، الذي نُشر عام 1935.
الموضوع الرئيسي للكتاب هو الهجرة واسعة النطاق من الدول الإسلامية إلى أوروبا، وتأثير ذلك على الثقافة الغربية، والمؤسسات السياسية والاجتماعية. يقدم الكتاب أيضاً تحليلاً شاملاً للمتطلبات الاجتماعية والثقافية للهجرة الجماعية. الكتاب يقدم وجهة نظر محافظة ومنتقدة للهجرة، ويُعتبر كتاب متشائم وكئيب للغاية، وهو ما يشير إليه بالفعل عنوان الكتاب. الرسالة واضحة بالفعل في الجملة الأولى من الكتاب: “أوروبا على وشك الانتحار”. والسؤال هو ما إذا كان موراي قادراً بشكل مُرضٍ على تبرير تشخيصه وتوقعاته المجتمعية.
نقطة البداية لتحليلات موراي هي الوضع الديموغرافي في أوروبا. حيث تعاني جميع الدول الأوروبية تقريبًا من شيخوخة سكانية شديدة. والسبب هو ارتفاع أعداد المواليد في العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، وانخفاض معدل المواليد الحالي بين العرقيين الأوروبيين. وإذا أُريد أن يظل حجم السكان مستقراً، يجب أن يكون لدى كل زوجين ما معدله 2.1 طفل.
واليوم، لا توجد دولة أوروبية واحدة يتحقق فيها هذا الأمر. تتمتع الدول الاسكندنافية ـ على سبيل المثال ـ بواحد من أعلى معدلات الخصوبة في أوروبا حيث يبلغ 1.86، وهو ما لا يزال أقل بكثير من المستوى الذي يمكن أن يبقي السكان من أصل أوروبي عند مستوى مستقر. وللمقارنة يمكن الإشارة إلى أن المعدل في ألمانيا هو 1.44.
يوجد في أوروبا اليوم ثلاث مجموعات فقط من الناس لديهم ثلاثة أطفال أو أكثر وهم الأغنياء والفقراء والمهاجرون الجدد. ومع ذلك، فرغم أن هناك زيادة في عدد السكان في العديد من البلدان الأوروبية، فإن ذلك يرجع إلى الهجرة، وأن المهاجرين لديهم أطفال أكثر من الأطفال ذوي الأصل الأوروبي.
تحتل الصومال المركز الثالث كبلد منشأ للمهاجرين في بلد مثل النرويج، بعد بولندا وليتوانيا. في الصومال، يبلغ معدل المواليد 5.99، وهو رابع أعلى معدل في العالم بحسب بيانات عام 2021.
لقد أدى انخفاض معدلات المواليد بين الأوروبيين العرقيين، والهجرة، وارتفاع معدلات المواليد بين المهاجرين في العديد من البلدان الأوروبية إلى وجود نسب عالية من ذوي الخلفيات الأجنبية. تبلغ نسبة المهاجرين في الدنمرك 15.4%، وفي النرويج 17%، وفي السويد حوالي20%.
يذكر موراي في كتابه أن التحليلات الديموغرافية تظهر أن السويديين العرقيين قد يصبحون أقلية في بلدهم في حياة معظم السويديين الذين لا يزالون على قيد الحياة. ويعتقد أن الثقافة والعقلية الأوروبية تتميز بنوع من الضجر والازدراء لثقافة الفرد وقيمه الخاصة، وما يصاحب ذلك من إضفاء جمالية مفرطة على الثقافة والتقاليد الإسلامية.
كما يعتقد موراي أن الإرهاق الذي تعاني منه أوروبا يرجع إلى حد كبير إلى تراجع المسيحية. في بريطانيا، يتراجع الدعم للمسيحية بشكل أسرع من معظم الدول الغربية الأخرى. كان ثلثا السكان تقريباً مسيحيون في عام 2010. وإذا استمرت عملية اجتثاث المسيحية بنفس الوتيرة الحالية، فسوف تنخفض النسبة إلى الثلث في عام 2050. وحقيقة أن أوروبا على وشك أن تفقد دينها وإيمانها بقيمها الخاصة تعني أنها على وشك خسارة تاريخها، لأن المسيحية كانت العمود الفقري لهذا التاريخ كما يرى موراي.
صياغة عقد اجتماعي جديد
يناقش وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي باستمرار اتخاذ إجراءات لمنع الدعاية الإسلامية عبر الإنترنت، وتدريب الأئمة على القيم “الأوروبية”، وإيلاء المزيد من الاهتمام لدمج المسلمين. وإذا كان لبعض هذه الإجراءات ما يبررها نظراً للمخاوف من تزايد الإرهاب المرتبط بالإسلاميين، لكن مثل هذه الأفعال تؤدي غالباً إلى زيادة العنف والتمييز والكراهية ضد المواطنين المسلمين.
في جميع أنحاء القارة، تمكنت المنظمات والأفراد المعادون للإسلام من تعزيز أجندتهم. أصبحت حركات الشوارع والأحزاب السياسية المعادية للإسلام أكثر شعبية. وقد تم دمج أفكارهم في – وفي بعض الحالات تغذيتها – آلية الدولة الحديثة، التي تراقب المسلمين وتشرف عليهم، وتصورهم كتهديد لحياة الأمة. فمن الشارع إلى الدولة، تغلغلت ظاهرة الإسلاموفوبيا في الحياة السياسية الأوروبية.
أصبحت الأحزاب اليمينية المتطرفة المبنية على الإسلاموفوبيا وسياسات مكافحة الجهاد ناجحة انتخابيا. لقد أصبح حزب فلامس بيلانج في بلجيكا، وحزب الديمقراطيين السويديين، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب فوكس القومي في إسبانيا، حزب الرابطة وحزب إخوة إيطاليا في إيطاليا، وحزب الحرية النمساوي، وحزب الاستقلال البريطاني، وحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، وحركة مجر أفضل “فيدس” في المجر، وحزب الحرية الهولندي، وحزب الشعب الدنمركي، وحزب الفجر الذهبي في اليونان، وحزب القانون والعدالة في بولندا، أصبحت في الأعوام القليلة الماضية من الأحزاب الرئيسية التي تحظى بدعم كبير. وقد تسربت أفكارهم إلى خطاب وسياسات أحزاب يمين الوسط في جميع أنحاء أوروبا.
إن العلاقة بين الحكومات الأوروبية ومواطنيها المسلمين في حاجة ماسة إلى إعادة ضبط. يشكل مناخ الشك المتبادل تقويضاً لقيم الشمول والتسامح التي يدعي الاتحاد الأوروبي أنه يؤيدها، كما أنه يدعم الادعاء المتطرف بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعايش بين الإسلام والغرب. إن صياغة عقد اجتماعي جديد وتحويله إلى محادثة بناءة تتطلب تحويل التفكير الذي عفا عليه الزمن والاعتراف بأخطاء الماضي ومفاهيمه الخاطئة. وكخطوة أولى مهمة، لا بد من تحدي أسطورة المسلمين الأوروبيين باعتبارهم غرباء إلى الأبد، ويتمتعون بثقافة وعادات تجعلهم أوروبيين “غير حقيقيين” إلى الأبد. وهذا يعني عدم الخلط بين تصرفات أقلية صغيرة من المتطرفين الإسلاميين، وبين معتقدات وسلوك الأغلبية، التي تمقت مثل هذه الآراء. ويعني أيضاً ليس قبول دور الإسلام التاريخي ونفوذه في أوروبا فحسب ـ كما فعل ماكرون ـ بل يعني أيضاً الاعتراف ـ كما فعلت أنجيلا ميركل في عام 2018ـ بأن الإسلام جزء من أوروبا الحديثة.